معضلات الأخلاق.. صراعات الخير والشر؟!
بقلم : وليد الشهري - المملكة العربية السعودية
للتواصل : w_s_w11@hotmail.com
ما هو الخير وما هو الشر؟! ما هو الصواب وما هو الخطأ؟! هل الحدود بين ذينك الضدّين على درجة كافية من الوضوح للتفريق بينهما؟! وهل يستطيع الإنسان الاهتداء إلى معرفتهما بنور العقل؟! أم أنّه يحتاج إلى مصدر خارجي يدلّه على الخير ويكشف له عن الشر؟! وما مدى التزام الإنسان بالمعايير الأخلاقية فيما لو تعارضت مع مصالحه أو أنانيّته؟!
هذه الأسئلة وغيرها هي ممّا يندرج ضمن مباحث أحد أهم فروع الفلسفة، وهو ما يُعرف بـ "علم الأخلاق"، ويُنظر إلى هذا العلم كفرع من علم أكبر يُدعى "علم القِيَم" أو "الأكسيولوجيا"، ويُعنى هذا العلم بدراسة قيم الحق والباطل (يتناولها علم المنطق)، وقيم الجمال والقبح (يتناولها علم الجمال)، وقيم الخير والشر (يتناولها علم الأخلاق الذي نحن بصدده).
أودّ لفت انتباهك أيها القارئ الكريم إلى أنّ الأمر أكثر تعقيدًا ممّا يبدو، لذلك أرجو ألّا تكون قد تسرّعت بالإجابة عن التساؤلات السابقة وكأنّها أمر بديهي، وإن كنت قد فعلت، فأدعوك إلى مراجعة إجابتك بعد تأمّلك للمعضلات الأخلاقية التالية، وهي تمثّل غيضًا من فيض المعضلات والإشكالات الأخلاقية التي ما زالت موضع جدلٍ بين الفلاسفة حتى اليوم:
معضلة القطار (trolley problem)
تم طرح هذه المعضلة من قبل فيلسوفة بريطانية تدعى "فيليبا فوت" عام 1967، وقد حظيت هذه التجربة الفكرية برواج واسع في الأوساط العلميّة وحتى الشعبيّة، واتخذت إصدارات وهيئات عديدة منذ ذلك الحين، وهي تكشف مدى تأثير الظروف والمشاعر على الموضوعيّة الأخلاقية للإنسان، ويمكن تلخيص فكرتها العامّة بالآتي:
تخيّل لو كنت واقفًا على مقربة من سكّة حديديّة ليلفت انتباهك خمسة أشخاص مقيّدين عليها، في حين توجد سكّة حديديّة فرعيّة مقيّد عليها شخص واحد فقط، ولا تملك الوقت الكافي لفكّ وثاقهم، لأنّ القطار يقترب بسرعة شديدة باتجاه أولئك الخمسة، لكنّك تستطيع اتخاذ القرار بتغيير مسار القطار نحو سكّة الحديد الفرعيّة من خلال عصا التحكّم القابعة أمامك، فماذا ستفعل؟!
هل ستترك الأمور تجري على أعنّتها كما لو كنتَ معدومًا حينها، ليفتك القطار بأولئك الخمسة؟! أم أنّك سوف تتدخّل لتحويل مسار القطار وإنقاذ خمسة أرواح في مقابل إزهاق روح واحدة؟!
إن كانت هذه هي المعادلة الأخلاقيّة الأصحّ بالنسبة لك (واحد مقابل خمسة)، فهل ستواصل تنفيذها إذا اكتشفت أنّ ذلك الشخص المقيّد على السكة الفرعيّة هو أحد أقاربك الأعزاء إلى قلبك كأن يكون والدك أو والدتك أو شقيقك أو ابنك؟!
تصوّر لو كان الأمر في هذه الحالة بِيَد "س" من الناس، الذي قرّر العمل وفق معادلة "واحد مقابل خمسة"، هل ستلقي عليه باللائمة لتفضيله الإبقاء على حياة خمسة أشخاص مقابل التضحية بقريبك؟! مع الأخذ في الحسبان أنّه وإن كان قريبك العزيز، إلّا أنّه بالنسبة إلى "س" مجرّد "شخص واحد مقيّد على السكة الفرعيّة"، وهو المبدأ نفسه الذي انتهجتَه أنت عندما اتخذت القرار نفسه، وذلك قبل أن تكتشف أنّ "الشخص الواحد" هو أحد أقاربك!
كأنّي أراك تقول وقد اعتراك التردد: إنّها بالفعل معضلة!
يتّضح من خلال الحقائق التاريخية والشواهد الواقعيّة والافتراضات الفلسفيّة (التي أوردنا هذه المعضلة كمثال عليها) أنّ الإنسان خاضع بطبيعته إلى المؤثّرات الخارجيّة (الظروف المحيطة) والداخليّة (المشاعر والانفعالات)، التي تلعب دورًا في تشكيل انحيازاته، ومن ثمّ اتخاذه للقرارات الأخلاقيّة، وسأكتفي باستحضار مثال واحد يبيّن تفاضل المعايير الأخلاقية بين الأجيال فضلًا عن المجتمعات، بل بين شخص وآخر من المجتمع نفسه، وهو أنّ العالم اليوم ينبذ الاستعباد بمختلف أشكاله، في حين أنّه – أي الاستعباد- ظلّ حتى زمن قريب – نسبيًّا - أمرًا مستساغًا يرتضيه السيّد والعبد على حدٍّ سواء، وفي جميع أنحاء العالم، وربّما كانت بعض عاداتنا الحاليّة إحدى الموبقات الاخلاقيّة للأجيال اللاحقة.
وهنا يجب أن نتوقّف لنسأل: هل الإنسان مؤهّل لتحديد معايير الخير والشر ورسم الحد الفاصل بينهما؟! أم أنّ الخير والشر مجرّد تلاعب لفظي استحدثه الإنسان للتمييز بين ما يتوافق مع أهوائه وما يتعارض معها؟! ماذا لو كان للخير والشر وجود حقيقي، ولم يكن الإنسان هو مرجعها، وإنّما تلك القوّة المطلقة الحكيمة التي تتجاوز المستوى البشري بضعفه وتخبّطه، أو بعبارة أخرى: ماذا لو كان المرجع هو الإله؟! هذا ما سوف نناقشه في المعضلة التالية..
معضلة يوثيفرو
يُطبق أتباع معظم الأديان على أنّ الإنسان عاجز عن الاهتداء إلى مواطن الخير واجتناب مواطن الشر لولا التوجيه الإلهي الذي يشكّل المرجع الأوحد لتحديد ماهيّة الخير والشر، لكنّ هذا الرأي أيضًا لم يكن بمنأى عن سهام الاعتراض والنقد، ولعلّ أوّل من تقدّم باعتراضه هو الفيلسوف الإغريقي الشهير "أفلاطون"، وذلك على لسان أستاذه سقراط في "الحوارات السقراطية"، وقد تضمّنت تلك الحوارات – فيما تضمّنت - ما يشبه المناظرة بين سقراط والشخصيّة المتديّنة التي تُدعى "يوثيفرو"، وشاهد الاعتراض هو سؤال طرحه سقراط على محاوره "يوثيفرو" مفاده:
هل أَمَر الإله بالخير لأنّ الخيرَ خيرٌ في ذاته؟! أم أنّ الخير كان خيرًا لأنّ الإله أمر به؟!
يمكن إجمال "معضلة يوثيفرو" في السؤال السابق، فلو افترضنا أنّ الخير خيرٌ في ذاته، فهذا يعني أنّه مستقلّ عن المرجعيّة الإلهيّة لأنّه يحمل مسبقًا قيمته في ذاته، فلا حاجة إلى توجيهٍ إلهي يرشد الإنسان إلى الخير، فالخير حينها سيكون أمرًا معلومًا بالفطرة، ومن ثمّ ينتفي أن تكون المعايير الأخلاقيّة ذات مرجعيّة إلهية!
ولو افترضنا أنّ الخير لم يكن خيرًا إلّا لأن الإله أمر به، فهذا سيؤدّي بالضرورة إلى انهيار المنظومة الأخلاقيّة برمّتها (ينعدم المعنى الأخلاقي)، فلن يصبح للخير أو الشر أيّة معانٍ في ذاتها ما دامت مدلولاتها مرهونة بالأوامر الإلهية، فالخير كان يمكن أن يكون شرًّا، والشرّ كان يمكن أن يكون خيرًا، تخيّل أنّ القتل والسرقة والحسد والنميمة وغيرها من الأمور التي نعتبرها نوعًا من الشرور، كان من الممكن أن تمثّل الخير، أو أنّ الإحسان إلى الناس وصلة الرحم وإيتاء الصدقات وغيرها ممّا نصفه بالخير، كان من المرجّح أن تكون في عداد الشرور!
وعلى أيّة حال، حين نستحضر علم ..
------------------------------------------
لقراءة المقال كاملا يرجى زيارة الرابط :
بقلم : وليد الشهري - المملكة العربية السعودية
للتواصل : w_s_w11@hotmail.com
ما هو الخير وما هو الشر؟! ما هو الصواب وما هو الخطأ؟! هل الحدود بين ذينك الضدّين على درجة كافية من الوضوح للتفريق بينهما؟! وهل يستطيع الإنسان الاهتداء إلى معرفتهما بنور العقل؟! أم أنّه يحتاج إلى مصدر خارجي يدلّه على الخير ويكشف له عن الشر؟! وما مدى التزام الإنسان بالمعايير الأخلاقية فيما لو تعارضت مع مصالحه أو أنانيّته؟!
هذه الأسئلة وغيرها هي ممّا يندرج ضمن مباحث أحد أهم فروع الفلسفة، وهو ما يُعرف بـ "علم الأخلاق"، ويُنظر إلى هذا العلم كفرع من علم أكبر يُدعى "علم القِيَم" أو "الأكسيولوجيا"، ويُعنى هذا العلم بدراسة قيم الحق والباطل (يتناولها علم المنطق)، وقيم الجمال والقبح (يتناولها علم الجمال)، وقيم الخير والشر (يتناولها علم الأخلاق الذي نحن بصدده).
أودّ لفت انتباهك أيها القارئ الكريم إلى أنّ الأمر أكثر تعقيدًا ممّا يبدو، لذلك أرجو ألّا تكون قد تسرّعت بالإجابة عن التساؤلات السابقة وكأنّها أمر بديهي، وإن كنت قد فعلت، فأدعوك إلى مراجعة إجابتك بعد تأمّلك للمعضلات الأخلاقية التالية، وهي تمثّل غيضًا من فيض المعضلات والإشكالات الأخلاقية التي ما زالت موضع جدلٍ بين الفلاسفة حتى اليوم:
معضلة القطار (trolley problem)
تم طرح هذه المعضلة من قبل فيلسوفة بريطانية تدعى "فيليبا فوت" عام 1967، وقد حظيت هذه التجربة الفكرية برواج واسع في الأوساط العلميّة وحتى الشعبيّة، واتخذت إصدارات وهيئات عديدة منذ ذلك الحين، وهي تكشف مدى تأثير الظروف والمشاعر على الموضوعيّة الأخلاقية للإنسان، ويمكن تلخيص فكرتها العامّة بالآتي:
تخيّل لو كنت واقفًا على مقربة من سكّة حديديّة ليلفت انتباهك خمسة أشخاص مقيّدين عليها، في حين توجد سكّة حديديّة فرعيّة مقيّد عليها شخص واحد فقط، ولا تملك الوقت الكافي لفكّ وثاقهم، لأنّ القطار يقترب بسرعة شديدة باتجاه أولئك الخمسة، لكنّك تستطيع اتخاذ القرار بتغيير مسار القطار نحو سكّة الحديد الفرعيّة من خلال عصا التحكّم القابعة أمامك، فماذا ستفعل؟!
هل ستترك الأمور تجري على أعنّتها كما لو كنتَ معدومًا حينها، ليفتك القطار بأولئك الخمسة؟! أم أنّك سوف تتدخّل لتحويل مسار القطار وإنقاذ خمسة أرواح في مقابل إزهاق روح واحدة؟!
إن كانت هذه هي المعادلة الأخلاقيّة الأصحّ بالنسبة لك (واحد مقابل خمسة)، فهل ستواصل تنفيذها إذا اكتشفت أنّ ذلك الشخص المقيّد على السكة الفرعيّة هو أحد أقاربك الأعزاء إلى قلبك كأن يكون والدك أو والدتك أو شقيقك أو ابنك؟!
تصوّر لو كان الأمر في هذه الحالة بِيَد "س" من الناس، الذي قرّر العمل وفق معادلة "واحد مقابل خمسة"، هل ستلقي عليه باللائمة لتفضيله الإبقاء على حياة خمسة أشخاص مقابل التضحية بقريبك؟! مع الأخذ في الحسبان أنّه وإن كان قريبك العزيز، إلّا أنّه بالنسبة إلى "س" مجرّد "شخص واحد مقيّد على السكة الفرعيّة"، وهو المبدأ نفسه الذي انتهجتَه أنت عندما اتخذت القرار نفسه، وذلك قبل أن تكتشف أنّ "الشخص الواحد" هو أحد أقاربك!
كأنّي أراك تقول وقد اعتراك التردد: إنّها بالفعل معضلة!
يتّضح من خلال الحقائق التاريخية والشواهد الواقعيّة والافتراضات الفلسفيّة (التي أوردنا هذه المعضلة كمثال عليها) أنّ الإنسان خاضع بطبيعته إلى المؤثّرات الخارجيّة (الظروف المحيطة) والداخليّة (المشاعر والانفعالات)، التي تلعب دورًا في تشكيل انحيازاته، ومن ثمّ اتخاذه للقرارات الأخلاقيّة، وسأكتفي باستحضار مثال واحد يبيّن تفاضل المعايير الأخلاقية بين الأجيال فضلًا عن المجتمعات، بل بين شخص وآخر من المجتمع نفسه، وهو أنّ العالم اليوم ينبذ الاستعباد بمختلف أشكاله، في حين أنّه – أي الاستعباد- ظلّ حتى زمن قريب – نسبيًّا - أمرًا مستساغًا يرتضيه السيّد والعبد على حدٍّ سواء، وفي جميع أنحاء العالم، وربّما كانت بعض عاداتنا الحاليّة إحدى الموبقات الاخلاقيّة للأجيال اللاحقة.
وهنا يجب أن نتوقّف لنسأل: هل الإنسان مؤهّل لتحديد معايير الخير والشر ورسم الحد الفاصل بينهما؟! أم أنّ الخير والشر مجرّد تلاعب لفظي استحدثه الإنسان للتمييز بين ما يتوافق مع أهوائه وما يتعارض معها؟! ماذا لو كان للخير والشر وجود حقيقي، ولم يكن الإنسان هو مرجعها، وإنّما تلك القوّة المطلقة الحكيمة التي تتجاوز المستوى البشري بضعفه وتخبّطه، أو بعبارة أخرى: ماذا لو كان المرجع هو الإله؟! هذا ما سوف نناقشه في المعضلة التالية..
معضلة يوثيفرو
يُطبق أتباع معظم الأديان على أنّ الإنسان عاجز عن الاهتداء إلى مواطن الخير واجتناب مواطن الشر لولا التوجيه الإلهي الذي يشكّل المرجع الأوحد لتحديد ماهيّة الخير والشر، لكنّ هذا الرأي أيضًا لم يكن بمنأى عن سهام الاعتراض والنقد، ولعلّ أوّل من تقدّم باعتراضه هو الفيلسوف الإغريقي الشهير "أفلاطون"، وذلك على لسان أستاذه سقراط في "الحوارات السقراطية"، وقد تضمّنت تلك الحوارات – فيما تضمّنت - ما يشبه المناظرة بين سقراط والشخصيّة المتديّنة التي تُدعى "يوثيفرو"، وشاهد الاعتراض هو سؤال طرحه سقراط على محاوره "يوثيفرو" مفاده:
هل أَمَر الإله بالخير لأنّ الخيرَ خيرٌ في ذاته؟! أم أنّ الخير كان خيرًا لأنّ الإله أمر به؟!
يمكن إجمال "معضلة يوثيفرو" في السؤال السابق، فلو افترضنا أنّ الخير خيرٌ في ذاته، فهذا يعني أنّه مستقلّ عن المرجعيّة الإلهيّة لأنّه يحمل مسبقًا قيمته في ذاته، فلا حاجة إلى توجيهٍ إلهي يرشد الإنسان إلى الخير، فالخير حينها سيكون أمرًا معلومًا بالفطرة، ومن ثمّ ينتفي أن تكون المعايير الأخلاقيّة ذات مرجعيّة إلهية!
ولو افترضنا أنّ الخير لم يكن خيرًا إلّا لأن الإله أمر به، فهذا سيؤدّي بالضرورة إلى انهيار المنظومة الأخلاقيّة برمّتها (ينعدم المعنى الأخلاقي)، فلن يصبح للخير أو الشر أيّة معانٍ في ذاتها ما دامت مدلولاتها مرهونة بالأوامر الإلهية، فالخير كان يمكن أن يكون شرًّا، والشرّ كان يمكن أن يكون خيرًا، تخيّل أنّ القتل والسرقة والحسد والنميمة وغيرها من الأمور التي نعتبرها نوعًا من الشرور، كان من الممكن أن تمثّل الخير، أو أنّ الإحسان إلى الناس وصلة الرحم وإيتاء الصدقات وغيرها ممّا نصفه بالخير، كان من المرجّح أن تكون في عداد الشرور!
وعلى أيّة حال، حين نستحضر علم ..
------------------------------------------
لقراءة المقال كاملا يرجى زيارة الرابط :