📁 آخر الأخبار

صفحات من حياتي.. مستشار هنية احمد يوسف صالح نصف قرن مع الحركة الأسلامية (من حلقة 10 إلى حلقة 22)




صفحات من حياتي.. مستشار هنية احمد يوسف صالح  نصف قرن مع الحركة الأسلامية  (من حلقة 10 إلى حلقة 22)

صفحات من حياتي

مؤتمر "الإسلام والغرب: تعاون لا مواجهة".. محاولة لوقف التحريض والإسلاموفوبيا

الحلقة (١٠)

 

كان وجودي في واشنطن العاصمة، قد منحني فرصةً لمتابعة مشهدية الحياة السياسية والإعلامية بشكل أفضل في الولايات المتحدة..

ففي مشهدية الديمغرافيا، تعاظم الحضور الإسلامي في أمريكا متجاوزاً العشرة ملايين،  والذين توزعت جالياتهم على طول أمريكا وعرضها، وخاصة في ولايات مثل: نيويورك وكاليفورنيا وتكساس وميتشجان والينوي ونيو جيرسي، وقد تمظهرت تعبيرات هذا الوجود بأشكال مختلفة، فالمؤتمرات السنوية للعديد من المؤسسات الإٍسلامية قد أعطت لهذه التجليات من الأنشطة والحشود بأن (المسلمون قادمون)، وهو آخذٌ بالتجذر في هذه الحواضر الغربية، من خلال هؤلاء الطلاب المسلمين القادمين للدراسة في الجامعات الأمريكية أو المهاجرين القادمين إليها والمقيمين فيها من أبناء الجاليات المسلمة، وبالتالي فإن المظاهر الإسلامية والمسلمين المغتربين قد أصبحوا جزءاً من الخارطة الاجتماعية والحضارية في أمريكا.

جاءت محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، وتوجيه الاتهام لشخص مسلم اسمه رمزي يوسف من بلوش باكستان، اعترف انه قام بهذا العمل للانتقام من السياسة الخاجية الأمريكية الموالية لإسرائيل.

لا شك أنَّ هذه العملية الإرهابية قد حرَّكت ردات فعل وموجات من التحريض والغضب على الإسلام والمسلمين في أمريكا، استغلتها جماعات يهودية صهيونية متطرفة لإطلاق حملة استهداف الإسلام والمسلمين في أمريكا؛ أي الإسلاموفوبيا.

 بدأت الجالية المسلمة مع هذه الحملة تستشعر الخطر على مستقبل وجودها، أو فرص حضورها في مشهدية العمل والمكانة في دوائر الخدمة الحكومية.

وعليه؛ فإن المخاوف التي بدأنا نشعر بها، جعلتنا نفكر في القيام بتحرك لدحض هذه الموجة المغرضة من التحريض والتشهير والتشويه للإسلام والمسلمين وضرورة التصدي لها.

كان العمل على مواجهة حملات الاستهداف تلك، والتي تقف ورائها جمعيات ومؤسسات ولوبيات صهيونية نشطة على الساحة الأميركية، هو التحدي الذي فرض علينا أن تكون هناك استجابة له.

جرى التنادي لعقد اجتماع لعدد من المؤسسات والجمعيات الإسلامية، لتدارك ما يمكن عمله للذود عن حياض الإسلام والمسلمين في أمريكا، وكان القرار بعقد مؤتمر في نادي الصحافة الدولي (Press Club) في العاصمة واشنطن، على أن يشارك فيه شخصيات إسلامية مشهورة في مجالات العمل السياسي والدعوي، من العالمين العربي والإسلامي، مع حضور فاعل لشخصيات أكاديمية وبحثية أمريكية مختصة بدراسة الإسلام والحركات الإسلامية، وكذلك دعوة شخصيات أيضاً أمريكية يهودية – صهيونية ممن هم على قائمة مروجي الإسلاموفوبيا، مثل: الصحفية جوديث ميلر بجريدة نيويورك تايمز، ودانيال بايبس مدير منتدى الشرق الأوسط وجوزيف بودانسكي وآخرين.

كان الهدف من المؤتمر هو التركيز على الجوانب الإيجابية في علاقة الإسلاميين بالغرب، وأن تاريخ الإسلام وفضله على الحضارة الغربية تعود بداياته للوجود الإسلامي في الأندلس قبل قرون من الزمان، وإن التاريخ الإسلامي بشكل عام ليس صفحات من المواجهة الدامية مع الغرب، بل هو التعاون والتعايش والتسامح بين الشعوب.

وبناءً على ذلك، شارك في المؤتمر من الدول العربية شخصيات وازنة، مثل: د. عبد اللطيف عربيات، والأستاذ كامل الشريف، ومن باكستان البروفيسور خورشيد أحمد، والأستاذ كمال الهلباوي (رحمهما الله)، ومن السعودية د  عبدالله بن نصيف؛ أمين عام رابطة العالم الإسلامي، ومن المراكز الإسلامية الأستاذ عبد الرحمن العامودي، والأستاذ جمال البرزنجي، وكذلك د. جمال بدوي من كندا، والاخ د. سامي العريان، وإمام مجاهد رمضان، مع د. سيد سعيد الكشميري، والسيدة د. عزيزة الحبري، ومدير معهد منارة الحرية (MFI) د. عماد الدين أحمد، والقيادي الفلسطيني د. موسى أبو مرزوق، والأستاذ سليمان العلي، والأستاذ خليل دهلوي وخليل الخليل من السفارة السعودية...كما شارك في المؤتمر د. امتياز أحمد؛ المختص بمجالات العلاقات الدولية ودراسات الإسلام والغرب، وكذلك د. فتحي ملكاوي؛ رئيس تحرير مجلة "إسلامية المعرفة"، والأخوة د. طارق سويدان والشيخ عمر الصوباني، وكذلك  د. نبيل السعدون... الخ

كان المؤتمر أول هبَّة للرد على جماعة الإسلاموفوبيا، وكشفٍ لمخططاتهم في تشويه صورة الإسلام والمسلمين.

ومن الجدير ذكره، أن الجالية المسلمة ومؤسساتها في الغرب قامت بالتنديد بذلك العمل الإرهابي، وأعلنت عن شجبها لأي جهة (إسلامية) تحاول القيام بأعمال إرهابية داخل أمريكا باسم الإسلام، وأن الإسلام هو دين عالمي، يدعو إلى المحبة والسلام وينبذ العنف.

ربما كان هذا المؤتمر منطلقاً لقيام العديد من المراكز الإسلامية وواجهاتها الإعلامية من صحف ومجلات لإعطاء مساحةٍ لتأكيد تلك الحقيقة، وهي أن المسلمين في أمريكا هم في وطنهم الجديد، وإن أمريكا التي يقطنها الملايين من المسلمين لم تعد (دار حرب) بل هي (دار دعوة)، ومثابة آمنه لمن يقطنها أو يلجا إليها مستجيراً وطالباً للأمان من المسلمين.

للأمانة، كان للعديد من الدعاة والشخصيات الإسلامية في أمريكا وخارجها دوراً كبيراً في توطين هذه الأفكار في أذهان الجيل الجديد من أبناء المسلمين، والذين ولدوا في أمريكا، وتشكلت عقلية الكثير منهم بالثقافة الأمريكية، مع التزام بالضوابط الأخلاقية والدينية التي تنشأوا عليها في المدارس والمراكز الإٍسلامية.

ومن أهم أعلام الفكر الإسلامي وفقهاء الدعوة الذين تناولوا هذا الموضوع، والمتعلق بأوضاع المسلمين في الغرب، وقدَّموا رؤيةً متقدمة حول التعايش وتوطين الدعوة، الشخصيات التالية:

-الشيخ يوسف القرضاوي،

 الذي تناول في كتبه وفتاواه قضايا التعايش في الغرب، واعتبر أن البلاد التي تتيح حرية الدعوة وممارسة الشعائر يمكن اعتبارها "دار دعوة".

- الشيخ عبد الله بن بيه، والذي

تحدث عن فقه الأقليات، وأكد على أهمية التعامل مع المجتمعات الغربية على أساس السلم والدعوة.

- الشيخ محمد سليم العوّا، إذ

ناقش مفاهيم دار الإسلام ودار الحرب في ضوء الفقه السياسي الإسلامي الحديث.

- المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والذي

أصدر فقهاؤه العديد من الفتاوى والدراسات حول فقه الأقليات، والنظر إلى البلدان الغربية على أنها ساحات للدعوة وليس ساحات صراع.

 - وهناك كتاب "فقه الجاليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية"، والذي تناول فيه المؤلف وجهات النظر المختلفة حول هذا الموضوع، وإن كان الإجماع هو أن البلاد التي تتيح حرية الدعوة وممارسة الشعائر يمكن اعتبارها "دار دعوة".

في الحقيقة، كان لمثل هذه الرؤى الفقهية ما أسهم في التخذيل ودحض حملات الشيطنة للإسلام والمسلمين في أمريكا.

كان المجلس الإسلامي الأميركي (AMC) والمعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT) ورابطة مسلمي شمال أمريكا (ISNA) مع عدة مراكز وروابط إسلامية أخرى، مثل: مركز دراسات الإسلام والعالم (WISE)، والمؤسسة المتحدة للبحوث والدراسات (UASR) قد لعبت هي الأخرى دوراً كبيراً في دحض ادعاءات مراكز وشخصيات يهودية صهيونية توسعت أجنداتها لربط كلِّ شيء إسلامي بالتطرف والإرهاب، وهو ما أدى لأن تُكثف الأجهزة الأمنية الأميركية (FBI) جهودها في رصد تحركات وأنشطة الجمعيات والمراكز الإسلامية ووضعها في دائرة الرصد والمراقبة.

كان لانفتاح بعض الشخصيات الإسلامية، مثل: الأستاذ عبد الرحمن العامودي؛ مدير المجلس الإسلامي الأميركي، على العديد من المؤسسات الأميركية، التي تمثل توجهات العرب والمسلمين مثل: اللجنة العربية لمكافحة التمييز (ADC) والمعهد العربي الأمريكي (AMI)  الذي يترلسه جيم زغبي، واللجنة الوطنية للعرب الامريكيين (NAAA)، ومديرها خليل جهشان، وأيضاً التواصل مع المسلمين ذوي الأصول الأفريقية من جماعة وارث الدين محمد، وجماعة "أمة الإسلام" التي يقودها لويس فرخان، وكذلك  شخصيات  أمريكية أكاديمية أو بحثية مختصة بالدراسات الإسلامية، مثل: جون اسبوزيتو؛ مدير مركز التفاهم الإسلامي المسيحي (CMCU) بجامعة جورج تاون، وكلٍّ من الاساتذة د. لويس كانتوري، د. إيفون حداد،  د. جون فول،  د. تشالز بيترورث  وآخرين، إضافة لانفتاحه وتواصله مع نواب في الكونجرس الأميركي، وآخرين في البيت الأبيض، حيث غدا عنواناً مهماً كممثلٍ لملايين المسلمين في أمريكا، ينقل قضاياهم واهتماماتهم لصنَّاع القرار في الإدارة الأميركية، إلى جانب بعض الشخصيات الأخرى، مثل: د. حسان حتحوت؛ مدير المركز الإسلامي بمدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا.

وكذلك د. سهيل الغنوشي؛ رئيس الجمعية الإسلامية الأمريكية (AMS).

ثم مع تأسيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (CAIR) عام ١٩٩٤، الذي يترأسه الأستاذ نهاد عوض وشريكه الأمريكي المسلم الأستاذ إبراهيم هوبر، توسعت واجهات ومنابر الدفاع عن الحقوق المدنية للمسلمين وحماية حرياتهم .

كان هذا المؤتمر حول الإسلام والغرب، واحداً من بواكير الأعمال التي قمت بها مع مجموعة من إخواني بجهد إسلامي مشترك، حاولنا فيه ضبط مؤشرات الحِراك في بوصلتنا الإسلامية، بغرض تجنيب الجالية المسلمة ومؤسساتها الاستهداف من قبل جماعات الإسلاموفوبيا الصهيونية على الساحة الأميركية.

قد نكون نجحنا بعض الشيء في التخفيف من حدة تلك الهجمة، ولكن ما وقع بعد ذلك في الحادي عشر من سبتمر ٢٠٠١، قد أعطى زخماً كبيراً لحملات الإسلاموفوبيا من جديد.

(وللحديث بقية)

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصف قرن مع الحركة الإسلامية

الحلقة (١١)

الحرب الأهلية في اليمن ١٩٩٤.. التفاعل والانشغال بالكتابة عنها!!


كنت متابعاً للتطورات على الساحة اليمنية، وكنت دائم  التطلع والأمل بأنَّ الإسلاميين يمكن أن يُقدِّموا نموذجاً متميزاً في الحكم، من خلال مشاركتهم مع حزب المؤتمر الشعبي العام برئاسة علي عبدالله صالح، وكنت أراهن أن "الحكمة يمانية"، وبالتالي فإنَّ الإخوة في التجمع اليمني للإصلاح (حزب الإصلاح) بقيادة الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر (رحمه الله)،

 غير مستعجلين للتفرد بالسلطة، فاليمن مجتمع قبلي وليس من السهل أن تسوسه عقلية القبيلة، ولذلك، لابدَّ لأركان الحكم أن تُشاركه شخصياتٌ قيادية من قبيلتي حاشد وبكيل، حتى تمضي أمورُ حكمه وتستقر.

كان يقيم معنا في واشنطن كثير من اليمنيين، وتربطني بهم صلة صداقة قوية، وتأخذنا الحوارات معهم بعيداً إلى ما يجري هناك في اليمن، من صراعات دامية بين الشمال والجنوب.

كان الأستاذ أحمد عبده ناشر؛  ناشط ودبلوماسي يمني، ينتمي إلى حزب الإصلاح، ويقيم معنا بالقرب من مسجد (دار الهجرة) في منطقة واشنطن الكبرى، وكان يضعنا أولاً بأول  بحقيقة ما يجري من مواجهات مسلحة في بلاده. في الحقيقة، كان الأخ أحمد ناشر يتحدث بثقة، ويبشرنا بأن الأمور إيجابية، ولا يمكن أن ينتهي النزاع بما تخطط له جماعة الحزب الاشتراكي او يحلمُ به قادته من الشيوعيين في الجنوب، فاليمن بفطرته هو إسلامي العقيدة والهوى، وإن كان هؤلاء القادة الشيوعيين في الجنوب يراهنون على القيام بانقلاب عسكري يطيح بالرئيس علي عبدالله صالح، وجماعة الإخوان المسلمين الممثلة بحزب الإصلاح.

في  الخامس من مايو 1994، بدأت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وكانت المواجهات العسكرية تحمل الكثير من القلق، ومؤشراتها لا تعطي امتيازاً لأحد، وإن كانت قدرات الشمال أكثر، مع وجود حضور لا بأس به لحزب الإصلاح في ولايات الجنوب.

من المعروف، وهنا كان مبعث الخوف والقلق عندي، أن دولاً خليجية وازنة كالسعودية والإمارات كانت تقف إلى جانب انفصال الجنوب مع علي سالم البيض، الذي كان نائباً للرئيس صالح!!

ومن باب خوفي على المشروع الإسلامي في اليمن، بدأت أكتب سلسلة من المقالات في مجلة (المجتمع) الكويتية؛ لسان حال الحركة الإسلامية حول العالم.

وبناءً على استشراء المواجهة المسلحة في اليمن، بدأت شخصيات يمنية وازنة من الشمال في التوافد والقدوم إلى أمريكا، بهدف اللقاء بالجاليات العربية واليمنية وأعضاء الكونجرس، لشرح وجهة نظرها حول حقيقة ما يحدث في بلادها، بغرض كسب التعاطف والتأييد والتأثير على اتجاهات الرأي العام والموقف الرسمي الأمريكي.

ومن الجدير ذكره، أنَّ الهجرة اليمنية إلى الولايات المتحدة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً بعد عام ١٨٦٩، حيث استقر الكثير منهم في مدن صناعية مثل ديترويت للعمل في مصانع السيارات، ويبلغ تعداد اليمنيين في أمريكا اليوم حوالي ٤٠٠ ألف نسمة؛ يتوزعون في عدة مدن وولايات أمريكية، مثل: ولاية ميشغان (ديربورن وديترويت)، وولاية كاليفورنيا ونيويورك، ومدينة شيكاغو.

قبل الحرب، كان السيد أبو بكر العطاس رئيساً للوزراء وهو من الجنوب، فالتقيت به في محاولة لفهم حقيقة ما يجري، وخلال الحوار الطويل معه في أحد فنادق واشنطن، أيقنت أنَّ الرجل يحكي بلغةٍ هي في خلاصتها إدانة للشمال وللرئيس علي عبد الله صالح وشركائه في الحكم من حزب الإصلاح، ثم التقيت بعده -في نفس الفترة تقريباً- بقيادات من حزب المؤتمر الشعبي العام، وكذلك ببعض الشخصيات البرلمانية والدعوية من حزب الإصلاح، وقد كانت -بالطبع- وجهات نظرهم هي إدانة القيادة في الجنوب،  والممثلة بشخصيات محسوبة على الحزب الاشتراكي من الشيوعيين.

لم تكن الصورة التي تشكَّلت عندي بعد هذه اللقاءات أكثر من أن هناك حالةً من التدافع على السلطة، والقبيلة لم تكن بمنأى عن المشهد، وأنَّ لدى الطرفين طموحات بالسيطرة المطلقة على البلاد.

ظل قلمي حائراً فيما أكتبه، ولم يكن موضوعياً في الحكم على الأشياء، فأنا إسلامي ونبض قلبي ومشاعري مع الشمال، وأتطلع كغيري من الإسلاميين أن يخرج حزب الإصلاح من هذه المعركة أو الحرب منتصراً.

كنت أقرأ وأتابع مجريات الحرب والسياسة في اليمن، إلى أن التقيت بأحد القيادات المهمة من حزب الإصلاح، وهو السيد محمد اليدومي، وهو شخصية سياسية معتدلة بخلفية أمنية، حيث كان ضابطاً في الأمن الوطني (المخابرات)، وكان رئيساً لتحرير صحيفة (الصحوة)؛ الناطقة باسم حزب الإصلاح، وكان الرجل في تركيبته الشخصية يحاول الموازنة بين مكوناته الإسلامية والقبلية.. جلست معه لأكثر من ساعتين بمكتبي في المؤسسة التي كنت مديراً لها، وهو يشرح لي تاريخ الصراع في اليمن بين الشمال والجنوب، بتفاصيل لا تُمل، ولا يعرفها إلا شخصٌ مثله،  وبخلفيته التي ذكرت لذلك، كانت التفاصيل -كما يقولون- "من طقطق لسلام عليكم".

كان الرجل صادقاً وحريصاً على أمن اليمن واستقراره، وقد أشفى غليلي بمعرفة كلِّ شيء، ولكنه أشار لي بعدم ذكر اسمه، واعتبار  أنَّ ما تحدث به يبقى سراً بيننا.

في الحقيقة، كانت لي رغبة في نشر المقابلة على صفحات مجلة (المجتمع)، ولكنَّ أمانة المسؤولية تجاه رغبة الرجل كشخصية سياسية وأمنية رفيعة في الدولة، جعلتني ألتزم بما طلب.

مرت الشهور،  والحرب لم تضع أوزارها، إلا في  السابع من يوليو ١٩٩٤؛ أي مع دخول قوات الشمال إلى عدن، وهروب علي سالم البيض إلى سلطنة عمان، وإلغاء الانفصال. كان انتصار الشمال بالنسبة لي هو انتصارٌ للمشروع الإسلامي في اليمن، وهذا هو ما كان يقوله ويردده الكثير من قيادات حزب الإصلاح، الذين كنا ندعوهم للمشاركة في مؤتمرات رابطة الشباب المسلم العربي (MAYA) كالشيخ عبد المجيد الزنداني.

كان يقيم بيننا في الجوار أيضاً شخصية إسلامية يمنية معارضه، وهو السيد إبراهيم بن علي الوزير (رحمه الله)، وكانت له وجهات نظر أخرى بكل ما يجري في بلاده من صراعات، وهو شخصية واسعة العلم والثقافة، ويتمتع باحترام كبير داخل أوساط جاليتنا المسلمة، وكنت التقيه في الكثير من الأنشطة السياسية والفكرية التي تعقد في العاصمة واشنطن.  

بعد نهاية الحرب، نشرت بحثاً مطولاً في خريف عام ١٩٩٤ بمجلة "قراءات سياسية"،  الصادرة عن مركز دراسات الإسلام والعالم (WISE)، بعنوان:

"من الوحدة إلى الحرب: الأزمة اليمنية والبديل الإسلامي"، أوضحت فيه بلغة تحليلية أكاديمية حقائق هذا الصراع القبلي ذو الطابع السياسي بين الشمال والجنوب.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، جاء الكثير من الزعماء العرب لتعزية الرئيس جورج بوش الابن، واستعدادهم لتقديم المعلومات عن التنظيمات الإسلامية (المتطرفة) في بلدانهم للأجهزة الأمنية الأميركية.. وكان من بين من قدموا إلى واشنطن الرئيس علي عبدالله صالح، خاصة وأن بعض من تورطوا في تلك الأحداث الإرهابية هم من أصول يمنية، وكان بعضهم ينتمون إلى شبكة أسامة بن لادن السعودي ذو الأصول اليمنية.

خلال زيارة الرئيس علي عبدالله صالح تلك إلى واشنطن جاءتنا دعوةٌ للقاء به في أحد فنادق العاصمة واشنطن.

وهناك وجدت عشر شخصيات أخرى من قيادات الجالية ورموزها المعروفة بفاعلياتها السياسية على الساحة الأمريكية.

كان من بين هذه الشخصيات: 

- د.كلوفيس مقصود؛ رئيس مركز الجنوب العالمي (CGS) بالجامعة الأمريكية. 

- الأستاذ خليل جهشان؛ رئيس  الجمعية الوطنية للعرب الأمريكان (NAAA).

- الأستاذ عبد الرحمن العمودي؛ مدير المجلس الإسلامي الأمريكي (AMC).

 - الأستاذ نهاد عوض؛ رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (CAIR).

 - السيد زياد عسلي؛ رئيس اللجنة الأمريكية العربية لمناهضة التمييز (ADC).

- السيد جيمس زغبي؛ رئيس المعهد العربي الأمريكي (AAI).

إضافة إلى شخصيتين من الجالية اليمنية. 

بدأ اللقاء بالتعارف، وبعده تحدث الرئيس علي عبدالله صالح عن هدف زيارته لواشنطن لتعزية الرئيس بوش بضحايا الحادي عشر من سبتمبر، وعبَّر عن استنكاره لمثل هذه الأعمال الإرهابية، وأشار إلى أنه يتفهم كلَّ ما تقوم به الأجهزة الأمريكية من استهدافٍ للجالية المسلمة والعربية؛ فالحدث جلل وخطير، ويمكن تبرير بعض التجاوزات والإجراءات التي تمّٰ اتخاذها عقب هذا الحدث!!

طرح  بعض الإخوة الحاضرين على الرئيس صالح إمكانية التدخل والحديث مع الرئيس بوش والطلب منه التخفيف من إجراءات الملاحقة والتضييق التي تتعرض لها جالياتهم، كون من قاموا بذلك العمل الإرهابي ليسوا من أبناء الجالية المسلمة في أمريكا، بل جاءوا من الخارج.

فكان جوابه الذي أثار دهشتنا واستغرابنا: إنَّ هذا العمل الإرهابي لو وقع عنده في اليمن لحبس نصف الشعب وقام بتصفية الكثير منه!!

بالطبع؛ لم يفعل شيء خلال لقاءاته وأجهزته الأمنية مع جهاز التحقيقات الفيدرالي (FBI), ولم نسمع إلا أنه عبَّر للأمريكان عن استعداده التام للتعاون وتوفير المعلومات عن كلِّ المجموعات الإسلامية المتطرفة في بلاده، والتي لها علاقة بتنظيم القاعدة، الذي يقوده أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.

باختصار.. كان ذلك العام ١٩٩٤، هو من بين الأعوام التي تفرَّغ فيها قلمي للهمِّ اليمني، حيث استحوذت مجريات الحرب الأهلية فيها على إنشغالاتنا الفكرية وحواراتنا مع النخب السياسية، خشيةً على تجربة الإسلاميين هناك من الإخفاق أو الفشل، وقناعاتنا بأن الإسلاميين عليهم أن يُثبتوا لشعوبهم أنهم أهلٌ للثقة، وللأصوات التي جاءت بهم إلى سدِّة الحكم.

للأسف، لم تستقر أحوال اليمن، ولم تهدأ الصراعات فيه بين الشمال والجنوب على خلفيات قبلية وسياسية،  وكذلك  بسبب تدخلات دول خليجية ترى في استقرار اليمن وازدهاره خطراً عليها.

اليوم، اليمن تتنازعه ثلاث قوى: جماعة أنصار الله من الحوثيين في الشمال، والإشتراكيون من المجلس الإنتقالي في الجنوب، أما الإسلاميون من حزب التجمع اليمني للإصلاح فقد فرقتهم -للأسف- الجيوب!!

وعليه؛ يمكن القول: إن قدر اليمن أن يبقى على هذا الحال من التشظي والانقسام، وممنوع عليه أن يكونَ واثق الخطوة يمشي ملكاً!!

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصف قرن مع الحركة الإسلامية  

الحلقة (١٢)

مسيرة المليون رجل.. حضور مذهل للمسلمين السود في أمريكا 

د. أحمد يوسف


كانت مشاهدتي لفيلم (مالكوم إكس) في نوفمبر ١٩٩٢ بالعاصمة واشنطن، محطة فارقة في حياتي، من حيث نظرتي لهذه القوة الإسلامية الواعدة، التي أهملناها طويلاً ولم ندرك قيمتها كلَّ هذه السنين.

جاء هذا الفيلم، الذي يُجسِّد حياة الزعيم الأمريكي المسلم، الناشط الحقوقي، هو المدخل بالنسبة لي للاهتمام بمعرفة تاريخ الإسلام في أمريكا، وإن كانت الانطباعات الأولى والنظرة التي تشكلت عندي سابقاً أنَّ جماعة "أمَّة الإسلام" ليس أكثر من كيانية لبعض تجمعات السود في الولايات المتحدة، الموسومة بالعنصرية والانحراف العقائدي، وتقدِّم نفسها كمكون إسلامي ينتمي في جذوره إلى الأمة الإسلامية الواسعة الانتشار في كلِّ القارات، ومنها إفريقيا. 

 بعد هذا الفيلم، تعاظمت اهتماماتي بهذه الطائفة المسلمة أكثر، وبدأت أقرأ واسأل، وكانت خلاصات هذا التاريخ، الذي عبرت عنه بقلمي -آنذاك- على الشكل التالي:

إنَّ صرخة الوعي الأسود في وجه عالم البيض الظالم في أمريكا، يرسمها هذا الفيلم (Malcolm X)، للمخرج سبايك لي. 

كانت سردية الفيلم تجعلك وأنت تتابعها أمام حقيقةٍ أن ما تشاهده ليس مجرد سيرة رجل، بل هو مشهدٌ لمسيرة أمة، كانت تحرقها نار العنصرية والاضطهاد، لتنبعث من تحت رمادها روحٌ جديدة، ترفض أن تُذلّ أو تُسحق.

"دينزل واشنطن" لم يكن يُمثل مالكوم إكس، بل كان يتلبّس شخصيته ببراعة، ويلتقط انكساراته الأولى في الشوارع الخلفية لبوسطن، ثم يرينا كيف أعاد الإسلام تشكيل وعيه، وحرّره من قيد الكراهية إلى فضاء الإنسانية. الفيلم حقيقة ليس عن رجل أسود يحارب البيض، بل عن إنسان حرّ يحارب الظلم أيّاً كان لونه وموطنه.

المخرج "سبايك لي" لم يكن يخاف الحقيقة، حيث كان يُرينا أمريكا كما هي بوجهها القبيح، بلا تجميل ولا رتوش، ويضعنا بصدق أمام مرآة قاسية، لكنها عادلة. إن العدالة عند مالكوم إكس أو بلقبه المسلم "مالك الشباز" كانت حُلماً لا يتجزأ، سواءً في هارلم أو مكة.

خلال فترة تواجدي في شيكاغو وبعد ذلك في واشنطن العاصمة، تعرَّفت على بعض الشخصيات الإسلامية من هؤلاء المسلمين ذوي الأصول الأفريقية، مثل: إمام وارث الدين محمد، والسيد لويس فرخان، والإمامين مهدي بريه وجوهري عبد الملك من منطقة واشنطن، بالإضافة إلى إمام سراج وهاج من مدينة نيويورك.

كانت الفرصة الأكبر لرؤية قوة وتأثير هذه الجماعة، التي أطلقت على نفسها "أمة الإسلام"،

خلال مسيرة المليون رجل، والتي ملئت حشودها ساحات واشنطن العاصمة في السادس عشر من أكتوبر ١٩٩٥؛ من مبنى الكونجرس (الكابيتول) وحول المسّلة الوطنية وتمثال أبراهام لِنكلن.

كان وجه العاصمة في ذلك اليوم إطلالة عالمية لهذا الوجود من المسلمين ذي الأصول الإفريقية..

إن هذا التجمع للمسلمين السود يمثل ٢٠% من المسلمين في الولايات المتحدة؛ أي بتعداد يتجاوز المليون ونصف المليون نسمة.

وبهذه القوة العددية التي قاربت مليون مسلم في اكبر ساحات العاصمة (National Moal)،  والتي لم يسبق لواشنطن العاصمة أن شهدتها في تاريخها المعاصر. 

بدأت أتحرك بحيوية مبتهجاً

وسط تلك الجموع، بغريزتي كإسلامي يشعر بالفخر لهذا الحضور الكبير لتجمعات مسلمة من أهل البلاد، وأيضا بشخصية الإعلامي، الذي يرى في قدومه مجرد أداء مهمةٍ مهنية، لإعداد تقريرٍ صحفي يقع ضمن اهتمامات المجلة التي يعمل معها، والتي تمثل لسان حال الإسلاميين حول العالم.

بعد هذا الحدث الكبير، نشرت مقالاً مطولاً في مجلة (المجتمع) الكويتية عن هذه التظاهرة؛ باعتبارها دليلاً على صعود الإسلام في أمريكا، ومظهراً بأنَّ هذا "الإسلام القوي" البالغ الحضور والتأثير في الغرب، سيتحرك باتجاه الشرق يوماً ليفرض هيبته واحترامه ومكانته الأممية من جديد، وهذا ما عبر عنه لويس فرخان من فهمه لمعنى "طلوع الشمس من مغربها"، كأحد علامات قرب قيام الساعة.

ولإلقاء نظرة على تاريخ المسلمين من أصول أفريقية في أمريكا، تأتي هذه الرواية حول حركياتهم وشخصياتهم منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الآن.

من المعروف تاريخياً، أنَّ بداية ظهور القوة السوداء للمسلمين في أمريكا كانت جزءاً مهماً من تاريخ النضال الأفرو-أمريكي من أجل الكرامة والهوية والعدالة، وكانت مرتبطة بشكل وثيق بالحركات الدينية والسياسية التي مزجت بين الإسلام والوعي العرقي.

وبناءً على ذلك،  سنعرض هنا للخط الزمني منذ البدايات.

كما ذكرت سابقاً، جاء أول المسلمون إلى أمريكا ضمن الأفارقة الذين تمَّ استعبادهم، وكان الكثير منهم متدينين ومتعلمين، لكن مع الوقت تمَّ محو هويتهم الدينية بالقوة.

في الواقع، لم تكن هناك "قوة سوداء" وقتها؛ لأن العبودية كانت تكبت أي تنظيم أو تعبير ديني مستقل.

في مطلع القرن العشرين، أخذت تظهر حركات دينية بقيادة سوداء استخدمت الإسلام (أو نسخة متأثرة به) كوسيلة للتحرر النفسي والاجتماعي.

كانت "أمة الإسلام" (Nation of Islam)، التي

تمَّ تأسيسها كحركة منظمة عام 1930، وظهرت في ديترويت على يد شخص غامض اسمه والاس فارد محمد، وقد استلم القيادة بعده إليجا محمد.

مزجت هذه الحركة لامة الإسلام أفكارها بين تعاليم إسلامية وتفسيرات خاصة تعزز من فكرة "تفوق السود" واستقلالهم عن البيض.. وقد نجحت هذه الحركة في جذب آلاف السود الأمريكيين الباحثين عن الهوية والعزة في ظل التمييز العنصري.

لاشك أنَّ مالكوم إكس كان أحد أقوى رموز القوة السوداء المسلمة في أمريكا، وقد انضم لجماعة "أمة الإسلام" في شبابه، وساهم في انتشارها السريع.

بعد زيارته للحج في 1964، اعتنق الإسلام السُنّي، وبدأ يدعو للوحدة بين كلِّ الأعراق، مما أدى لاغتياله لاحقاً.

 لقد ترك مالكم إكس إرثاً هائلاً كمثال للمسلم الثوري، الذي يتطلع لرؤية المساوة والعدالة تسود علاقات البشر في بلاده. 

بعد وفاة إليجا محمد عام 1975، قاد ابنه وارث الدين محمد تحولاً جذرياً نحو الإسلام السُنِّي، مما أدى إلى اندماج غالبية أعضاء "أمة الإسلام" في التيار الإسلامي العالمي.. لكنَّ البعض منهم بقي متمسكًا بأفكار إليجا محمد تحت قيادة لويس فرخان، والذي لا يزال زعيماً قوياً وصاحب كاريزما عالية واستثنائية بين قيادات جماعة "أمة الإسلام" حتى اليوم.

 ومن الجدير ذكره، أنَّ المسلمين السود في أمريكا، بدأوا منذ الثمانينيات ببناء مساجد ومدارس ومراكز اجتماعية مستقلة.

وفي سياق الأمانة التاريخية، كان المسلمون من أصول أفريقية في أمريكا، هم من أوائل الذين تكلموا بجرأة في قضايا العنصرية، السجون، الفقر، والظلم، ولهم حضور كبير في ولايات مثل نيويورك، ميشغان، شيكاغو، وكاليفورنيا.

في الحقيقة، أن المسلسل الدرامي والملحمي "Roots-جذور"؛ والمبني على رواية إليكس هيللي "جذور.. ملحمة عائلة أمريكية"، قد تركت في نفسي وحركية الوعي عندي الكثير، من الفهم والتعاطف لهؤلاء المسلمين، والذين لم نحسن الاستثمار في تجمعاتهم، بما يخدم قضية أمتنا الإسلامية، وظلت تطاردنا النظرة العنصرية لهم كعبيد!!

في الحقيقة، إنَّ بروز شخصيات منهم في مجال الرياضة، مثل:  بطل العالم في الملاكمة محمد على كلاي، ونجم كرة السلة كريم عبد الجبار، وآخرون ممن أسهموا في إلقاء الضوء على هذه القوة التي لم يُدرك المسلمون في الشرق ودول البترودولار قوتها وتأثيرها حتى الآن. 

كنت دائماً أتسائل: ماذا لو قدَّمنا لهؤلاء المسلمين من أصول أفريقية بعض الملايين لتنظيم لوبيات سياسية في واشنطن تخدم قضايا العرب والمسلمين، كالقضية الفلسطينية، كما فعل اليهود الصهاينة في امريكا، والذين أصبحوا من خلال (إيباك) يفرضون أجندة إسرائيل السياسية لتكون أولوية السياسة الخارجية الأمريكية.

إن هؤلاء المسلمين السود في أمريكا هم ثقل حقيقي لقوة الإسلام والمسلمين لو أحسنا الاستثمار فيهم، ولربما لو تحقق هذا البعث لهم، مع باقي التجمعات المسلمة الأخرى في القارة الامريكية المترامية الأطراف، لشكَّلوا قاعدة انتخابية قادرة على فرض التوازن السياسي والحضور داخل مؤسسات صنع القرار بالولايات المتحدة.

( وللحديث بقية)

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصف قرن مع الحركة الإسلامية

الحلقة (١٣)

مؤتمر "أمريكا والإسلام والألفية الجديدة".. محاولة للرد على الإسلاموفوبيا!!


د. أحمد يوسف

 

في إبريل عام 2000، كانت الأجواء في الولايات المتحدة تشهد بعض الاختناق، بسبب السياسات الأمريكية وحملات الطعن والتشهير بالإسلام، والتحريض على  الإسلاميين في سياق سلوكيات التمييز والعنصرية  وخطاب التخويف من الإسلام (الإسلاموفوبيا).وبحثاً عن آلية للتخذيل عن المسلمين في أمريكا، وتخطي حالة العجز التي هم  عليها، حاولنا من خلال هذا المؤتمر، الذي كنا شركاء في ترتيب فعالياته مع جامعة جورجتاون العريقة بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وبالتعاون مع مركز التفاهم الإسلامي المسيحي (CMCU)، الذي يترأسه -آنذاك- البروفيسور جون اسبوزيتو؛ وهو مستشرق أمريكي من أصولٍ إيطالية، وله الكثير من الكتب التي نشرها وأنصف فيها الإسلام والمسلمين، والثورة الإسلامية في إيران، وكان كتابه الأشهر عالمياً والأكثر مبيعاً في مطلع التسعينيات، هو: "التهديد الإسلامي: الأسطورة والحقيقة؛(Islamic threat: Myth or reality).

يعتبر، هذا الكتاب من أبرز الأعمال التي تناولت العلاقة بين الإسلام والغرب، حيث يسلط الضوء على تنوع الحركات الإسلامية، ويفنّد التصورات النمطية التي ترى الإسلام كتهديد موحد.

كان المؤتمر يحتاج إلى دعم مادي كبير، لتغطية تذاكر السفر وأماكن إقامة الضيوف القادمين من الشرق وأوروبا، وهي كلفة نجحنا في توفيرها بالتعاون مع المركز بالجامعة.

كان هدف المؤتمر يتمحور حول التوجهات والأهداف التالية:

أولاً) تعزيز الحوار بين الغرب والعالم الإسلامي، في محاولة لخلق تفاهم متبادل بين الثقافتين.

ثانياً) استكشاف التحديات والفرص، التي تواجه العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي في بداية الألفية الثالثة.

 ثالثاً) دحض الصور النمطية، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين المنتشرة في الإعلام والمجتمع الغربي.

 رابعاً) تسليط الضوء على التنوع داخل العالم الإسلامي، وعدم اختزاله في صورة واحدة نمطية.

وبناءً على ذلك، كانت أهم الموضوعات والطروحات التي تناولها المؤتمر، هي التالي:

• صورة الإسلام في الإعلام الغربي، وكيفية تأثير التغطية الإعلامية على الرأي العام.

• الإسلام والحداثة: كيف يتعامل المسلمون مع مفاهيم الديمقراطية، حقوق الإنسان، والعلمانية.

• السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الدول الإسلامية، وخاصة في ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط.

• دور المسلمين الأمريكيين في بناء جسور التواصل بين الثقافتين.

• مستقبل العلاقات الأمريكية-الإسلامية في ظل التحديات الأمنية والسياسية. 

ونظرا للسمعة العالية للجامعة ومركز التفاهم، فقد بلغت نسبة المشاركة وحجم الحضور ما يكفي لملءِ مقاعد قاعة المؤتمرات بالجامعة، وقد تحدثت في المؤتمر شخصيات مرموقة من كادر المركز أمثال: جون اسبوزيتو، إيفون حداد وجون فول، ومن الشخصيات الإسلامية الأكاديمية كان هناك: بروفيسور علي المزروعي، وسليمان نيانغ، وكان من بين الشخصيات الإسلامية التي شاركتنا الحضور والمداخلات: الشيخ علي البيانوني (سوريا- بريطانيا)، والإعلامي والكاتب الإسلامي د. عزام التميمي (الأردن- بريطانيا)، والشيخ طه جابر العلواني (العراق-أميركا)، وأستاذ علم الاجتماع الهندي المسلم امتياز أحمد، وكذلك د. عماد الدين أحمد (فلسطين – أمريكا) رئيس معهد منارة الحرية (MFI)، والأستاذ عبد الرحمن العامودي؛ مدير المجلس الإسلامي الأميركي (AMC)، وهناك ضيوف آخرون تمت دعوتهم للحضور من المؤسسات الإسلامية العاملة على الساحة  الأمريكية، وخاصة في منطقة واشنطن الكبرى.

كان المؤتمر  وبمن حضره من الشخصيات البارزة والتي تجاوزت الخمسين من المفكرين والأكاديميين والنشطاء الإسلاميين وأيضاً من أعضاء الكونجرس وصنَّاع السياسات، هو في الحقيقة، صفعةً في وجه جماعة الإسلاموفوبيا، ومنطلقاً لفتح الباب أمام مسلمي أمريكا لتوسيع شبكة العلاقات مع العديد من أعضاء الكونجرس وتمهيد الطريق لهم للوصول إلى البيت الأبيض.

لم تكن هذه الخطوة تحركاً بدون حسابات،

 فقد توسعت دائرة العلاقة، وبدأت الجالية وقياداتها في التواصل والتفاعل مع نواب الكونجرس، وتلقي دعوات تهنئة في المناسبات الدينية مثل شهر رمضان والأعياد الإسلامية، بل إن قيادات الجالية قد تم دعوتها إلى إفطار جماعي في البيت الأبيض، وقد كنت من بين المدعويين للحضور، وتمَّ التقاط صور تذكارية للجميع مع سيدة البيت الأبيض هيلاري كلينتون، في إشارة إلى أن المسلمين هم ضمن الخارطة السياسية والاجتماعية والتعددية الدينية  والعرقية في البلاد.

وكشريك في ترتيبات المؤتمر، شعرت بأننا نجحنا بامتياز في وضع الكثير من النقاط على حروفها، وأن من يستهدفون مستقبل هذا الوجود هم واهمون، إذ أخذ الكثير من الأمريكان في استكشاف طريقهم نحو هذا الدين، فاعتنقه الآلاف منهم، وصاروا صوتاً مدافعاً عنه في وسائل الإعلام، وفتحت العديد من الجامعات فيها مراكزاً للدراسات الإسلامية أو الشرق أوسطية، واعتماد شخصيات إسلامية من المختصين للعمل في مراكزها البحثية (Think Tanks).

وعلى هامش هذا المؤتمر، عقدنا مائدة مستديرة في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (CSIS) بالعاصمة واشنطن، شارك فيه عديد من الضيوف القادمين من خارج الولايات المتحدة، وكانت فرصة لتوسيع دائرة الحوار مع شخصيات أميركية قريبة من دائرة صنع القرار في البيت الأبيض والكونجرس الأميركي.

بعد هذا المؤتمر نشرت كتابي الموسوم: (الإسلام والغرب.. حوار لا بدَّ منه)، وشاركني في تحريره د. عماد الدين أحمد، وقمت بترجمته ونشره في المغرب تحت عنوان "مستقبل الإسلام السياسي .. وجهات نظر أمريكية".

ورغم سياسة التدافع بين الشرق والغرب، فإن علاقة أمريكا بإسرائيل والمنحازة بزاوية انحراف لا يمكن تقبلها، وستظل تشكل -بالقطع- توتراً واضطراباً في علاقات أمتنا الإسلامية بالولايات المتحدة، كما أنها ستحرك المسلمين في أمريكا من أجل تنظيم صفوفهم وتوظيف أصواتهم كقوة انتخابية، تجعل السياسيين والمرشحين للرئاسة والكونجرس يسعون لكسبها كأصواتٍ ترجيحية مؤثرة؛ أي بيضة القبان، وتوجيه السياسة الأمريكية الرسمية لتفهم اهتماماتهم، والعمل بصورة متوازنة مع ما يعتبرونه أولويات لهم كجاليات مسلمة.

باختصار.. إنَّ القضية الفلسطينية اليوم هي ضحية سياسات أمريكا المتواطئة مع إسرائيل، وشريك حربها في إبادة الشعب الفلسطيني، وأن الانتخابات القادمة، وثقل المسلمين الأمريكيين  المشاركين فيها، لن تأتي برئيس يتجاهل قضاياهم،ولا يقدم حلولاً سياسية جادة لها.. وتبقى قضية فلسطين هي على رأس تلك الأولويات.

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصف قرن مع الحركة الإسلامية

الحلقة (١٤)

السفر إلى ليبيا ولقاء العقيد القذافي في قصر العزيزية.. في حضرة الزعيم!!


د. أحمد يوسف


في عام 2001، لم يكن اللقاء بالزعيم الليبي معمر القذافي سهلاً، لا من حيث المكانة ولا الموضوع، ولكن كان علينا أن نُصرَّ على زيارة عرينه ومواجهته وجهاً لوجه.

بعد ثلاث سنوات من اللقاءات التي بدأنها في أواخر عام 1998، والتي كنا نجريها سرَّاً في العديد من العواصم الغربية بين قيادات من الجماعة الإسلامية الليبية في أمريكا وأوروبا ووزراء وشخصيات اعتبارية تابعة لنظام القذافي، جاءت اللحظة التي كان علينا أن نختبر فيها صدقيِّة النظام بالمثول أمام الزعيم في عرينه، ومخاطبته مباشرة في قصر العزيزية.

وفعلاً؛ كان الزعيم زعيماً، وكان اللقاء الذي تحقق فيه كلَّ ما طلبناه، فالقذافي (رحمه الله) لم يكن بالصورة المنفرة/الكريهة التي رسمها الإعلام الغربي عنه.. استقبلني في قصره مع صديقٍ آخر (أبو أحمد)، وجلسنا نتبادل معه الحديث قرابة الساعة، كانت كافية لأن نتعارف ونقول له من نحن، ثم نعرض عليه ما توصلنا له في ملف المصالحة التي كنا نقوم بها كوسطاء بين الجماعة الإسلامية الليبية وبين النظام، وما الذي نأمل إنجازه قبل مغادرة طرابلس، ثم أخذنا الحديث باتجاه مشروع الرؤية لدى الإسلاميين بوحدة الأمة واجتماع شملها، وإمكانيات أن يتحقق ذلك إذا ما توفر المال والبيئة الحاضنة.. بالمناسبة، كانت ليبيا القذافي لديها الجاهزية لتغطية كلّ ما يتكلفه هذا المشروع من متطلبات لوجستية ومالية. 

وعدنا الزعيم أن نناقش هذا الموضوع مع إخواننا في قيادة التنظيم العالمي في الخارج، ثم نعود إليه بالجواب بعد شهرين مع احتفالات الفاتح من سبتمبر 2001.

إن كلَّ ما طلبناه في ذلك اللقاء كان مجاباً، وشعرت وصديقي أبا أحمد أننا أمام رجل يعتز بانتمائه الإسلامي؛ بل ويجد في نفسه مؤهلات الزعامة والرؤية لقيادة الأمة أفضل من غيره، ولو أنه وجد البطانة الخيَّرة حوله ربما كان مسار التاريخ في ليبيا قد مضى باتجاهات بعيدة عن هذا الانحراف الذي شهدناه.

وقبل أن نغادر القصر، طلبنا من العقيد القذافي تسهيل مهمتنا باللقاء مع قيادات الجماعة من الإخوان في داخل السجن، لوضعها في صورة ما تمَّ الاتفاق عليه، وما توصلنا له من تفاهمات عبر جهود الوساطة التي نتحرك بها. وقد تحقق ذلك. 

كيف بدأت حكاية هذا اللقاء مع العقيد القذافي، وطول المسافة التي قطعناها منذ الاجتماع الأول في واشنطن أواخر عام 1998، مع رئيس الوزراء الليبي السابق أبو زيد عمر دوردة (رحمه الله)، والذي كان لقاؤنا به في ذلك الوقت فاتحةً لوساطةٍ أخذتنا إلى نيويورك وجنيف ولندن وطرابلس وحتى قصر العزيزية عام 2001، حيث انتهينا هناك إلى وضع النقاط على كلِّ الحروف مع الزعيم الليبي. 

في واشنطن كان اللقاء الأول، والذي جمعني مع بعض الأصدقاء من الإسلاميين على سهرة عشاء مع رئيس الوزراء الليبي الأسبق "أبو زيد عمر دردة"، والذي كان يشغل -آنذاك- منصب الممثل الدائم للبعثة الليبية في الأمم المتحدة.. كان هذا اللقاء بمثابة أول قناة حوار لتناول موضوع المعارضة الليبية في الخارج، وخاصة الجماعة الإسلامية أو من انخرط منهم في جبهة الإنقاذ مع المعارض السياسي محمد المقريف؛ رئيس الجبهة.. وفرص إيجاد آفاق حلٍّ للخلاف بينها وبين النظام في ليبيا.

وبناءً على ذلك، تواصلت اللقاءات بيننا في نيويورك لقرابة نصف العام، ثم انتقلنا إلى جنيف، حيث شاركتنا للمرة الأولى شخصياتُ ليبية أخرى من المعارضة الإسلامية جاءت من كندا وألمانيا، كما شاركنا اللقاء أيضاً السفير الليبي في سويسرا.

في تلك الفترة، قطعنا مشواراً لا بأس به في جنيف، ثم كان الاتفاق أن ننتقل للحوار في بريطانيا، لاستدعاء قيادات على مستوى أرفع ويمكنها اتخاذ قرارات أسرع إذا استدعت الضرورة ذلك.

في لقاء لندن كان حجم المشاركة من جهة المعارضة الإسلامية على مستوى الصف الأول؛ ولعلي أتذكر من بينهم الأستاذ ناصر المانع، وقد حضر من طرف النظام إلى جانب السيد أبو زيد دوردة، سعادة السفير الليبي في بريطانيا محمد الزوي؛ وهو أحد رجالات الثورة الليبية، ومن الدائرة المقربة للعقيد القذافي. كان هذا اللقاء هو الأهم؛ لأن من سينقل فحوى تلك اللقاءات للزعيم الليبي هو السفير الزوي، وهو من سيأتي لنا بالجواب حول مستقبل الخطوة القادمة، وهي نقل الحوار إلى داخل ليبيا. 

في يوليو 2001، جاءت اللحظة التي انتظرناها طويلاً لنشدَّ الرحال إلى ليبيا، وذلك للمشاركة في المؤتمر السنوي لمنظمة الدعوة الإسلامية العالمية، التي يرأسها د. محمد أحمد الشريف؛ وهو من رجالات الرعيل الأول من الإخوان في ليبيا، والذي استقبلنا بحفاوة بالغة، حيث كان مُطلعاً على مبادرتنا في موضوع الوساطة، وقد بارك ما نقوم به من جهود في هذا المجال. كان لنا أيضاً لقاء مع عدد من الوزراء المهتمين بملف المصالحة من بينهم وزير التربية والتعليم، ووزير الإعلام -آنذاك- عبد الرحمن شلغم، والعقيد التهامي خالد؛ رئيس جهاز الأمن الداخلي، أو ما كان يُطلق عليه البعض "قسم مكافحة الزندقة".

كان الاجتماع في مبنى وزارة التربية والتعليم، حيث تحدثنا عما هو مطلوب عند عودتنا إلى أمريكا من أجل إنجاح هذه الجهود.

 كان اللقاء بالعقيد القذافي بعد عدة أيام من انتهاء المؤتمر، إذ كان يتوجب علينا أن نلتقي رئيس قسم التشريفات "نوري المسماري"، لترتيب موعد وطريقة اللقاء. كنت أقيم أنا وصديقي (أبو أحمد) طوال فترة مكوثنا في ليبيا بفندق المهاري الشهير؛ الذي يقع على شاطئ البحر في طرابلس، وكان هناك طاقم من دائرة المراسيم يتولى مهمة الترفيه والسياحة، وإشغالنا طوال فترة الإقامة بزيارة الكثير من المناطق الأثرية، التي تعود لعهدي الفينيقيين والرومان في صبراتة ولبدة وغيرها من الأماكن ذات القيمة التاريخية.

لم تكن المدة التي قضيناها في ليبيا -ولمدة أسبوعين- فيها شيء من الملل، فلقد كانت هناك الكثير من التسهيلات لتحركاتنا، حيث قمنا بزيارة العديد من المساجد والمؤسسات الإسلامية، والمدن المجاورة للعاصمة طرابلس، مثل تاجوراء والزاوية، كما كانت هناك فرصة للتعرف على بعض رجالات الحكم وأركانه.

 وبعد فترة من الانتظار والترقب، اتصل بنا رئيس قسم التشريفات في الصباح، وطلب منا أن نتجهز؛ لأن سيارة الرئاسة ستأتي لاصطحابنا إلى قصر العزيزية للقاء العقيد القذافي.

وفعلاً، ساعة أو ساعتين وإذ بنا في قصر العزيزية، حيث دخلنا إلى قاعة انتظار صغيرة في القصر لبعض الوقت، ثم انتقلنا للغرفة المجاورة الفسيحة، والتي تغطي جدرانها مكتبة كبيرة، حيث كان العقيد جالساً على مكتبه ومعه السيد بشير صالح؛ مدير مكتبه، والأخ أبو زيد دردة.. كانت جلسة تعارف وحوار، وكانت هناك قرارات، حيث وعدنا القذافي بإطلاق سراح جميع سجناء الرأي خلال احتفالات الفاتح من سبتمبر القادم، إلا أن أحداث 11 سبتمبر من ذلك العام خلطت الأوراق، ونسفت الاتفاق، وأرجأت كلَّ شيء إلى أجل غير معلوم .

في الحقيقة، بدأ النظام الليبي المصالحة مع الإسلاميين قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 بسنتين، وكانت هناك توجهات داخل أروقة السلطة تتحدث عن ضرورة إيجاد آلية لفتح حوار مع المعارضة، التي كانت تشكل حالة قلق للزعيم الليبي، بسبب نجاحها في توظيف وسائل الإعلام الغربية للتشهير والتحريض على النظام، وإحراجه في محافل ودوائر ومؤسسات حقوق الإنسان والحريات في العالم، وذلك بسبب كثرة الانتهاكات في ليبيا، وقد ارتأى بعض المخلصين داخل النظام أنه لابدَّ من وضع حدٍّ لهذه القطيعة؛ باعتبار أن الكثير من الطلبة الليبيين المتابعين لدراساتهم العليا في الدول الغربية قد فضلوا عدم العودة إلى بلدهم، بسبب ما كان يُثار حول قضية التجاوزات والتعديات على حقوق المواطنين، وخاصة في أوساط المثقفين، والتي تمارسها الأجهزة الأمنية المسماة باللجان الثورية.

 من الجدير ذكره، أن العقيد معمر القذافي عندما جاء إلى السلطة في الفاتح سبتمبر 1969، كان يعتقد بأن الثورة قد أعطت الليبيين كافة الحقوق، وكفلت لهم كامل الحريات السياسية، ووضعت نظاماً ديمقراطياً يسمح للجميع بتوجيه انتقاداتهم للمؤتمرات الشعبية، باعتبار أنها منابر مفتوحة ولا حاجة هناك لأحزاب سياسية أو تنظيمات سرية، فاللجان الشعبية في نظر العقيد معمر القذافي هي الحزب الأوسع للجميع، وبإمكان كلِّ مواطن أن يعبر عن مطالبه من خلالها، وبالتالي كان مقولته كما جاء في الكتاب الأخضر أن "من تحزب خان".

الإشكالية، كما هي العادة في العالم العربي، هي تغول هذه المؤسسات، وتحول النظام في إطار عملها إلى نظام أشبه بالديكتاتوري، وهذا الذي دفع البعض للتفكير بالعمل في تنظيمات سرية بعضها ظهر وواجه النظام، مثل جبهة الإنقاذ بقيادة "محمد المقريف"، وهو إسلامي ودبلوماسي سابق، كان له حضور تنظيمي داخل وخارج ليبيا، وكذلك الجماعة الإسلامية المقاتلة، والتي حاولت اغتيال القذافي في أكثر من مناسبة، إضافة إلى نشأة عدة حركات إسلامية ووطنية بين الطلبة المبتعثين للدراسة في الخارج، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

وكما هو معلوم في البلاد العربية، أن أجهزة الأمن هي التي تحكم بشكل أو بآخر، لذلك، فقد أوحت أجهزة الأمن الليبية إلى العقيد معمر القذافي -الذي ينظر إلى نفسه كثائر إسلامي- أن هذه التنظيمات تشكل خطراً على حكمه وعلى ثورته، فحصلت اعتقالات تحت ذريعة القوانين التي تُجرِّم الحزبية، وقد استمرت هذه الأجهزة في ملاحقة ومطاردة القوى الإسلامية إلى أواخر التسعينيات، حيث تكاثر سجناء الرأي في المعتقلات، وبدأت تقارير المنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان توجه انتقادات لاذعة لنظام القذافي. ومن هنا، بدأت بعض القوى الوطنية المخلصة في ليبيا في التحرك، وأخذت زمام المبادرة في التعامل مع ملفات القوى الإسلامية المعارضة بدلاً من الأجهزة الأمنية، واستطاعت إقناع العقيد القذافي بالانفتاح على هذه التيارات.

في 1998 حدثت اعتقالات واسعة في ليبيا على إثر محاولة لاغتيال العقيد معمر القذافي، حيث قامت بها بعض العناصر العائدة من أفغانستان، وخلال تلك الاعتقالات التي شنتها أجهزة الأمن الليبية تمَّ اكتشاف الجماعة الإسلامية؛ الاسم الحركي لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، حيث تم اعتقال 153 شخصاً، أغلبهم شخصيات تكنوقراطية من أساتذة جامعيين وطلبة ومهندسين، لذلك أطلقت المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان على هذه القضية اسم "قضية الدكاترة" أو "المهنيين". لكن التحقيقات الأمنية كشفت أن هؤلاء ليس لهم أي نيَّة للقيام بعمل مسلح داخل ليبيا، واقتصرت أنشطتهم في معظمها على الدعوة والعمل الخيري.

بعد سنة من هذه الحادثة، تصادف أن حضرت إلى العاصمة الأمريكية واشنطن إحدى الشخصيات الليبية المرموقة، والتي تتمتع باحترام كبير داخل ليبيا، وهو السيد " أبو زيد دردة"؛ وكان رئيساً سابقاً للوزراء، ثم عين مندوباً دائماً لليبيا في الأمم المتحدة، وفي زيارته تلك للعاصمة واشنطن للمشاركة في ندوة حول ليبيا التقيناه هناك، ودعوناه للعشاء معنا.

خلال سهرة العشاء، كان هناك عدد من شباب الحركة الإسلامية الليبية، ودار بيننا حديث حول ليبيا والظلم الذي لحق بالشباب الإسلامي هناك، وحاولنا أن ندحض اتهامات النظام لهم بالتآمر، وذلك بما سبق وأن عرفناه عن هؤلاء الشباب، حيث كان الكثير منهم طلاباً معنا في الجامعات الأمريكية، وكان لهم الفضل الكبير في دعوة الأمريكيين إلى الإسلام، وفي تنشيط حركة بناء المساجد والمراكز الإسلامية.. كما كان معلوماً لدينا بأن هذه المجموعة من الليبيين من شباب الإخوان المسلمين ليست لها تطلعات للتغيير عن طريق استخدام القوة، إلا أن ممارسة بعض العناصر الإسلامية العائدة من أفغانستان جعلت النظام يضع الجميع في سلة واحدة، وبدون تفريق بين مشروع كل منهما، وقد تفهم أبو زيد هذه القضية، ووعد بمواصلة الحوار حول هذا الملف. وجمعتنا بعد ذك عدة لقاءات بمكتبه في نيويورك، وبحضور شخصيات سياسية أخرى، لبدء حوار مع المعارضة الإسلامية على أن نكون نحن وسطاء هذا الحوار.

فعلاً؛ تمت عدة لقاءات بعد ذلك في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي جنيف بسويسرا، وبالعاصمة البريطانية لندن، حيث أخذ الطرفان في التعرُّف كلٌّ منهما إلى الآخر، وبناء أرضية للتفاهم والمصارحة، ثم وضع الأسس التي يمكن من خلالها تحقيق المصالحة.

لقد تطلب استكمال هذا الملف السفر إلى ليبيا ومقابلة العقيد معمر القذافي، وزيارة قيادات الحركة الإسلامية الليبية في السجون، وتمَّ ذلك في شهر يوليو من عام2001، وقد أبدى العقيد القذافي تفهماً كبيراً، وكانت كلماته مشجعة، ووعد بالإفراج عن هؤلاء الشباب، خاصة بعد التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية، وما توصلت إليه من عدم وجود أي أسلحة أو أي مظاهر عنف لدى هذه الحركة أو أي تطلعات لاستعمال العنف.

لقد تمَّ الاتفاق مع النظام الليبي -آنذاك- أن تتم محاكمتهم بجريرة تشكيل تنظيم سياسي غير مسموح به طبقاً للقوانين الليبية، التي تمنع تشكيل أحزاب سياسية، وبعد صدور الحكم ضدهم، يقوم العقيد القذافي؛ قائد الثورة الليبية، بإصدار عفوٍ عام مع انطلاقة الاحتفالات بثورة الفاتح من سبتمبر.. وكبادرة لإظهار حسن النية، قام النظام بالإفراج عن 66 شخصاً من هؤلاء الشباب يوم 1 سبتمبر2001.

بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر من نفس الشهر، وبعد الاتهامات التي وجهتها أمريكا إلى الليبيين بالإرهاب نظراً لوجود الكثير منهم في أفغانستان، غيَّر النظام استراتيجيته، وقرر الاحتفاظ بما تبقى من هؤلاء الشباب في السجون ليحاجج بهم الولايات المتحدة الأمريكية، على أساس أن ليبيا هي أيضاً ضحية للإرهاب، وأن لديها معتقلين إسلاميين.

لذلك، وفي فبراير 2002، صدرت أحكام تعسفية في حق الإخوان المسلمين الليبيين المعتقلين، وصلت إلى حدِّ الإعدام في حق شخصين، والمؤبد لـ 73 شخصاً، وهذه الأحكام شكَّلت صدمةً للجنة الوساطة التي كانت تدير ملف المصالحة، وقد كتبتُ حينها مقالاً مطولاً مندداً بتلك الأحكام الجائرة بعنوان "هل يُعقل أن ينتهي الحوار بحبل المشنقة؟!"، وإن كان السيد "أبو زيد دردة" قد اتصل بنا وأكدَّ لنا بأن هذه الأحكام مؤقتة، وسيتم إعادة النظر فيها.

كان من المنتظر أن تصدر محكمة الشعب حكمها في قضية الجماعة الإسلامية الليبية قبل الفاتح من سبتمبر 2001، ليتم العفو عنهم في ذلك التاريخ، لكن هذا لم يتحقق لأسباب متعلقة بالمحكمة نفسها وبرمجتها لمختلف القضايا المطروحة عليها.

بعد أحداث ١١ سبتمبر 2001 الإرهابية، أصبحت تحركاتنا صعبة داخل وخارج الساحة الأمريكية، وانقطع التواصل بيننا بخصوص هذا الملف، وإن كانت تصلنا الأخبار عبر الإخوة الليبيين بأن الأمور هي في طريقها للحلِّ النهائي.

بعد عام 2002، بدأت مرحلة جديدة، حيث دخل سيف الإسلام القذافي على خط المصالحة، وعمل على استكمال ما بدأناه من هذا الملف، وواصل الاتصالات بشكل مباشر مع قيادات هذه الجماعة في العاصمة البريطانية لندن، ونجح في النهاية بالتوصل معهم إلى حلٍّ مرضٍ للطرفين، ووعدهم بقرب الإفراج عن هؤلاء الشباب، وفعلاً؛ تحقق ذلك في عام 2005.

ومن الجدير ذكره، أن تحركات الوساطة التي كنت أقوم بها مع الصديق (أبو أحمد) كانت قيادة الحركة على علم بكل تفاصيلها، وكذلك الشيخ يوسف القرضاوي (رحمه الله) والشيخ راشد الغنوشي والشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله) والأستاذ على البيانوني.

كان المخطط بحسب اتفاقنا مع القيادة الليبية هو القيام بالجهد نفسه مع النظام في سوريا، حيث كانت علاقة العقيد القذافي قوية بالنظام هناك، لكن -للأسف- ما جرى في ١١ سبتمبر 2001 أجهض أحلامنا في تحقيق ذلك. 

باختصار: كان القذافي في ذلك الوقت وفي نظر الكثيرين بمثابة الفرعون، وكان لا بدَّ من طرق بابه وترويضه، وكان علينا أن نتودد إليه بالقول اللين، لكي نمنع إعدام هؤلاء الشباب من الإخوان. لم تكن المهمة سهلة، ولكنها كانت تجربة أخرى في حياتي، تعلمت منها الكثير.

اليوم، وأنا أتابع مسيرة هذا الزعيم (رحمه الله) ومواقفه القوية في انتقاد خذلان ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية لقضية الأمة المركزية، خلال ما كان يعقد من قمم لدعم القضية الفلسطينية وما يتمخض عنها من قرارات مخيبة للآمال!!

رحم الله العقيد القذافي فقد كانت مواقفه متقدمة على كلِّ زعماء عصره.

(وللحديث بقية)

صفحات من حياتي

الحلقة (١٥)

أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001: الكارثة والتداعيات 

 كانت حالة الصدمة والذهول التي أصابتنا في ذلك اليوم فوق قدرتنا وطاقتنا على التحمل، حيث جرت على إثر ذلك حملةُ اعتقالاتٍ واسعة، طالت الكثير من أبناء جاليتنا الفلسطينية والمسلمة.. 

كانت البداية في التقييد على أنشطتنا الدعوية والإعلامية، والتحريض على المؤسسات الإسلامية، وبدت الأمور وكأننا كمسلمين خسرنا كلَّ شيء، وعلينا أن نبدأ من الصفر من جديد.

كان الاتهام للمؤسسة من قبل جهات إسرائيلية ويهودية متصهينة في أمريكا بأنها واجهة لحركة حماس، وأنها تدعم الإرهاب، وكانت التهديدات المتلاحقة التي تصلنا من جهات مجهولة، الأمر الذي استدعى التفكير في الرحيل إلى مكان آخر، بعدما اشتد علينا طوق الحصار، وأصبحنا مهددين بالاعتقال، وكانت نصيحة البعض لي من الأصدقاء بسرعة المغادرة ف"السكينة حامية"،  أما المحامي ستالني كوهن، فقال لي بكلِّ وضوح وصرامة: "يا أحمد.. إن لم تخرج الآن فلن تخرج إذاً أبداً، فالقرار اليوم ليس للقضاء بل للأجهزة الأمنية"!!

كانت تلك المحطة  الصعبة من حياتي فيها خلاصات كثيرة، ولعل من أهمها النقاط التالية:  

1) رغم أن الغربَ بشكل عام ليس عدواً لنا، ولكنَّ هناك شياطين ومؤسسات ترسم ملامح الشعوب والأمم؛ فقبل سقوط الاتحاد السوفيتي، كان الإسلاميون حلفاءً لأمريكا في أفغانستان، ولطالما أطلقت عليهم وسائل الإعلام الغربية اسم "المجاهدون العرب"، أو "الأفغان العرب".

2) إن إسرائيل هي وراء كلّ البلاء الذي لحق بالإسلاميين في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.

3) إننا كإسلاميين قصَّرنا في الاهتمام بالعمل الإعلامي.. بالرغم من الإمكانيات الكبيرة لنا في الغرب، إلا أننا لم نلتفت -للأسف- لعمل اللوبيات، وتركنا الحبل على الغارب للصهاينة للسطو على كلِّ المنابر الإعلامية، وتأخرنا في دخول معترك العمل السياسي، لإيجاد توازنات في سياسات أمريكا الخارجية تجاه قضايانا، وخاصة القضية الفلسطينية.

4) لقد غضضنا الطرف عن مظاهر التطرف والغلو التي سوَّقتها بعض الجماعات السلفية  المحسوبة على (الحركة الوهابية) ودعاتها حول العالم، حتى سهل اتهامنا بأننا من يقف خلف الإرهاب!!

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 المأساوية، ضاقت علينا الدنيا بما رحبت، حيث إن الاعتقالات طالت الكثيرين من العرب والمسلمين في أمريكا.

ومع القوانين الجديدة التي صدرت -آنذاك- باسم (PATRIOT)، أصبح كلُّ إسلامي أو فلسطيني هدفاً يمكن أن توجه له سهام الاتهام، خاصةً إذا ما كان له نشاط يتعلق بتقديم الدعم المالي أو الإعلامي للضفة الغربية وقطاع غزة.

ومع تنامي ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، لم يعد لشخصيات مثلي أن تراهن على استمرار البقاء، حيث تحركت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من خلال شبكاتها وأذرعها الإعلامية في الغرب، وأخذت تستهدف أنشطتنا كجالية فلسطينية، وتلاحق تحركاتنا الدعوية، وأي أشكال نضالية أخرى للتعريف بمأساة شعبنا وقضيتنا الوطنية.

أدركنا مع اشتداد حملات التحريض والتشهير والتشويه التي تقوم بها ماكينة الدعاية الإسرائيلية في الغرب، بأن رقابنا ستطالها مقصلة الجلاد الأمريكي، حيث غابت النزاهة وطأطأت العدالة رأسها، وتمَّ تسييس القضاء، وأخذت الأحكام الجائرة تطال الكثير من الفلسطينيين، وخاصة كلُّ من كان له سبق في العمل من أجل القضية على المستويين الإغاثي والإنساني!!

كانت الفترة التي أعقبت تلك الأحداث المأساوية في ١١ سبتمبر 2001، بالغة الشدة علينا، وكنَّا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نغادر أمريكا ونضرب في فيافي أرض الغربة من جديد، وأما البقاء واحتمال الاعتقال والسجن بتهم ظالمة وإدعاءات واهية، كما جرى مع عدد من الشباب الفلسطيني.

وبناءً على هذه المخاوف والتوجسات، تشاورت مع عددٍ من الأصدقاء المقربين، وأجريتُ أكثر من صلاة استخارة، وكان القرار: أغادر أمريكا أولاً إلى مصر، وهناك يفعل الله ما يشاء.

وفعلاً، حصل ما لم أتوقعه في مطار القاهرة، إذ كان القرار هو طلب عودتي إلى أمريكا على نفس الطائرة أو البقاء في "حجز المطار" حتى أجد مكاناً آخر أتابع سفري إليه، وما هي إلا أيام وتم توفير مكان إقامة في الجزائر فكان مقصدي في السفر إليه

(وللحديث بقية)

صفحاتٌ من حياتي في الوطن والشتات

نصفُ قرنٍ مع الحركة الإسلامية

الحلقة (١٦)

وداعاً أمريكا.. وكانت الجزائر الوجهةَ وأحلام الوطن!! 

د. أحمد يوسف


بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 واشتداد موجة الإسلاموفوبيا، واعتقال أعدادٍ كبيرة من الإسلاميين الفلسطينيين الناشطين في مجال العمل الخيري، بدأتُ أشعر أنَّ الحلقة آخذةٌ في الضيق حول عنقي، خاصة وأن مؤسسة "UASR" دخلت في دائرة الأحاديث الإعلامية والاستهداف، واتهامها بأنها واجهة لحركة حماس في أميركا، وأنَّ ما تقوم به كمنتدى فكري ومركز أبحاث له شبكة من العلاقات مع الكثير من المعاهد ومراكز الدراسات (Thinktanks)

 الواسعة الانتشار في العاصمة واشنطن.

بعد اعتقال د. موسى أبو مرزوق في يوليو ١٩٩٥، وانكشاف علاقته بالمؤسسة كرئيسٍ لمجلس إدارتها، أصبح من الصعب إنكار أننا واجهة إسلامية، تضع القضية الفلسطينية والنضال الذي تمارسه حركة حماس ضمن اهتماماتها البحثية، والقيام بنشر العديد من الكتب والدراسات والمقالات، وما ينعقد فيها من الندوات التي تخدم هذا الخط المعرفي والأكاديمي، بالرغم مما تتعرض له المؤسسة من تحريض وتشويه وتشهير، واتهامات بأنها تدعم  بمواقفها وإصدارتها وندواتها التطرف والإرهاب على الساحة الفلسطينية!! ومن الجدير ذكره، أنني كنت قد نشرت -آنذاك- كتابين ترد على تلك الاتهامات والادعاءات الباطلة، وتكشف حقيقة ما تقوم به بعض المنظمات والجمعيات اليهودية الصهيونية في هذا المجال.

وبعد اعتقال مجموعة من الإخوة الفلسطينيين العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية والمنتسبين لصندوق الأرض المقدسة (HLF)، الذي كان يقوم بتقديم مساعدات إغاثية إنسانية للمدارس والمخيمات في قطاع غزة والضفة الغربية، وتبني لآلاف الأيتام الفلسطينيين.

وبناءً على هذه التطورات في مجريات الأمور،  استشرت بعضَ الأصدقاء والمحامين حول ما يتوجب عمله بالنسبة لي كمدير للمؤسسة التي تقع في دائرة الاستهداف منذ سنوات، ودخول الأجهزة الأمنية على خط التقييد على حرية التعبير، والتعامل مع هذا النهج  بسياسة (الجريمة والعقاب)!!

لم يعد المشهد الأمريكي بالأريحية التي سبق وأن تمتعنا بها لأكثر من عقد ونصف العقد من الدراسة والعمل في أمريكا، إذ غدت الأمور بالنسبة للإسلاميين والفلسطينيين منهم على وجه الخصوص محل ملاحقة واستهداف مكشوف لاتهامات التطرف والإرهاب ومعاداة السامية ونحو ذلك!!

 وفي سياق تلك المخاوف والتوجسات، همس المحامي ستانلي كوهين في أذني بالكثير من الكلام، وطلب مني أن أتهيأ لمغادرة أمريكا قبل أن يقع المكروه، ويصبح مصيري كالآخرين من أصدقائي الذين تمَّ اعتقالهم، ويحتاج الدفاع عنهم إلى الكثير من المال والحراك القانوني في ظلِّ أجواءٍ معادية لكلِّ ما هو إسلامي وفلسطيني، وعلو يهودي صهيوني متطرف، طالت مقصلته الكثير من الوجوه الإسلامية والفلسطينية في حملات مسعورة، وجدت لها كلَّ الدعم من إسرائيل ولوبياتها القوية على الساحة الأميركية!!

وبعد اعتقال الناشط الفلسطيني د. سامي العريان في ٢٠ فبراير ٢٠٠٣،  على خلفية الادِّعاء بأن له ارتباطات بتنظيم جهادي فلسطيني، بدأت المخاوف تأخذ طريقها إلى قلبي، خاصة أنَّ عدداً من العاملين معي في المؤسسة بدأوا يغادرون أمريكا ويعودون إلى بلادهم.

بقيت وحدي خائفاً أترقب، فيما الأجواء في أمريكا تميل كفتها لصالح تلك الحملات التي تتقصد الشخصيات والمؤسسات الإسلامية والفلسطينية منها على وجه الخصوص.

وعليه؛ كان قراري في منتصف عام 2004، بسرعة المغادرة وترك كلَّ شيء، حيث وصلتني من بعض الأصدقاء رسائل مفادها: إن الملأ يأتمرون بك، فاخرج إنَّا لك من الناصحين.

حجزت للسفر إلى مصر،    وقلت في نفسي: من هناك سأتدبر أمري إلى مكان آخر، قد يكون سوريا أو الجزائر.

سافرت إلى القاهرة، تاركاً خلفي كلَّ شيء،  إلا من حقيبة يدٍّ خفيفة، وضعت فيها أهم أوراقي وقطعتين من الملابس الخفيفة، وتوكلت على الله، بعد أن كنت صليت الاستخارة وعزمت أمري.

في مصر، وجدت أن أمور الإقامة ستكون صعبة، وكان القرار أن أفتش عن بلد آخر.

اتصلت ببعض أهل المسؤولية والمكانة من الأصدقاء، فأشاروا عليَّ بالتوجه إلى الجزائر، كونها بلد عربي مضياف، من أفضل البلدان لإقامة الفلسطينيين، حيث إنَّ سياسة الجزائر الحرة كانت -دائماً- تشي من خلال مواقفها أنها  في الجبهة المدافعة عن المظلومية الفلسطينية، وكان الشعار الذي رفعته منذ عهد الرئيس هواري بومدين (رحمه الله) "نحن مع فلسطين ظالمةٌ أو مظلومة".. في الحقيقة، كانت الجزائر في مواقفها السياسية تاجاً على كلِّ الرؤوس، وفخراَ لهذا البلد صاحب الثورة الأطول في تاريخ الشعوب والامم.

وفعلاً؛ كانت معاملة أهل هذا البلد كما توقعت، إذ وجدت في بلد المليون ونصف المليون شهيد،

كلَّ الحفاوة والترحاب. ففي المطار، كان أخي (عز الدين) بانتظاري في العاصمة الجزائرية، حيث أقمت معه وعائلته لبعض الوقت، قبل أن انتقل إلى بيت آخر في منطقة (بير مراد رايس).

في الجزائر العاصمة، التقيت بشخصيات جزائرية إسلامية سبق لي معرفتها في أمريكا، مثل: الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله)؛ رئيس حركة مجتمع السلم، والشيخ محمد بوسليماني (رحمه الله)؛ رئيس جمعية الارشاد والإصلاح، وكذلك الداعيةالشيخ سعيد مرسي؛ من أعلام الدعاة الإسلاميين بالعاصمة الجزائرية.

بدأت أتردد على مقر حركة مجتمع السلم بحي المرادية في العاصمة الجزائرية، وكان لا يبعد كثيراً عن مكان سكني الذي كنت أقيم فيه، ووجدت منهم حُسنَ الضيافة وبشاشة الترحاب، وكانوا يوجّهون لي دائماً الدعوات لحضور الأنشطة الفكرية والدعوية، وأحياناً التنظيمية منها،  والتي كانت تقيمها الحركة في مقرها بالعاصمة أو خارجها، وتفتح لي أبوابَ علاقاتٍ مع قياداتها وكوادرها، وقد استعنت بهم في فتح مكتبٍ لي بحي المدنِيَّة (بلكور سابقاً)، وهو أحد الأماكن التي كانت موطناً للكثير من مناضلي الثورة الشعبية والفدائية الجزائرية.

ومن الشخصيات التي تعرَّفتً عليها هناك الصديق فاروق طيفور؛ وهو شابٌ ألمعي متميزٌ فكرياً وحركياً وإعلامياً، وقد سبق لي أن التقيته في مؤتمر لجمعية الدعوة الإسلامية العالمية في العاصمة الليبية طرابلس عام ٢٠٠١، وهو اليوم أستاذٌ أكاديمي بجامعة الجزائر. ومن الشخصيات القيادية التي التقيتها، وكان لها بصمة وأثر  في حياتي،  الإخوة: د. عبد الرزاق المقري، والشيخ أبو جرة سلطاني، والشيخ عبدالله جاب الله، والمهندس عبد المجيد مناصرة، والداعية بو جمعة عياد، والإعلامي أحمد دان، وآخرون.

في الحقيقة، كان الإسلاميون في الجزائر، من أكثر الحركات التي تفاعلت

 مع الانتفاضة الفلسطينية، وكانت الأنشطة المتعلقة بها تحظى بتغطية إعلامية واهتمام كبير لدى أوساط السياسيين والإعلاميين والطلاب الجامعيين، وكذلك لدى التجمعات الشعبية في المساجد والمراكز الإسلامية.

وبناءً على هذه الحماسة والتفاعل الكبير مع الانتفاضة الفلسطينية، اصطحبني الصديق العزيز الشيخ سعيد مرسي بسيارته في جولة امتدت أياماً من العاصمة الجزائرية إلى مناطق شرق الجزائر، حيث كنَّا نتوقف في العديد من المدن والقرى لإجراء أحاديث عن الانتفاضة وعن حياة الشيخ المجاهد أحمد ياسين (رحمه الله)، والذي كنت أحد تلاميذه، وسبق لي أن وضعت كتاباً عن حياته، باسم "الشيخ أحمد ياسين.. الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي".

ومن باب الشهادة في حق هذا الرجل (الشيخ سعيد مرسي)، والذي لم تنقطع صداقتنا به إلى هذا اليوم، فإنه صاحب فضل كبير  في جعل الجزائر البلد الأحب إلى قلبي من بين دولنا العربية، وقد استفدت من دائرة معارفه الواسعة في كلِّ مدينة كُنَّا نحط رحالنا فيها، حيث كان أولئك الأصدقاء المقربون منه، ينظمون لنا الفعاليات واللقاءت والاستضافات البيتية للتحدث عن المشهدية الإسلامية النضالية والكفاحية على الساحة الفلسطينية ضد الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي.

في الحقيقة، كانت الجزائر هي المحطة الثانية لي بعد أمريكا، والتي فتحت لي الباب لاكتساب المزيد من المعرفة والوعي بالتجربة الجهادية والنضالية للشعب الجزائري، واللقاء بالكثير من رجالاتها، كالسيد عبد الحميد مهري والسيد جلول ملايكة (رحمهما الله)، وكذلك اللقاء برئيس الوزراء عبد العزيز بلخادم. 

 لقد تشكلت معرفتي بالكثير من الشخصيات الإسلامية في الجزائر من خلال التعامل والمشاهدة عن قرب للكثير منهم  بمختلف تياراتهم وأحزابهم الدعوية والسياسية.

كانت الجزائر -وأقولها بفخر ووفاء- هي

المكان الذي سكن في قلبي كوطن، وكانت إقامتي فيه لقرابة العامين تتشكل بهذه الأحاسيس، حيث كنت أسافر منه للمشاركة في أنشطة ومؤتمرات خاصة بالقضية الفلسطينية في دول عربية وإسلامية ثم أعود إليه بشعور العائد إلى وطنه. كنت أجد في الجزائر كلَّ الدعم والأمان والإقامة والاستقرار.

بصراحة؛ كانت الجزائر تاريخياً البلد الذي أعطى الفلسطينيين كلَّ شيء؛ من المثابة الآمنة إلى الدعم السياسي والعسكري، إذ وجدت فيه الثورة الفلسطينية والرئيس عرفات (رحمه الله) كلَّ الاحتضان والنُصرة والمواقف المتميزة في المحافل الدولية، ولم تبخل الجزائر في تقديم الدعم المالي، فقد كانت يدها في العطاء كمن "أندى العالمين بطون راحِ"،  فاستضافت قيادات وكوادر منظمة التحرير عندما ضاقت بهم الأرض بما رحبت بعد  إخراجهم من لبنان في الثمانينيات.

كانت حركة حماس وقياداتها، تلقى ترحيباً كبيراً على المستويين الرسمي والشعبي، وكانت الحركات الإسلامية في الجزائر توجه الدعوات لقيادات هذه الحركة، لمشاركتها الحضور وإلقاء كلمات في تجمعاتها الجماهيرية، وكانت مشاركتنا تلقى ترحيباً استثنائياً خلال هذه المهرجانات الخطابية الداعمة لفلسطين وانتفاضتها الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

في ظل هذه الاقامة المريحة بالجزائر، شغلتُ الكثير من وقتي هناك بالكتابة والسفر، وكانت لي مساهمات فكرية في صحيفة (البلاد)؛ لسان حال حركة مجتمع السلم (حمس).

ومن المفارقات في مشهدية العلاقة بين الإسلاميين والسلطة الحاكمة في الجزائر، أنني زرت الجزائر اول مرة عام ٢٠٠١ قادماَ إليها من ليبيا، خلال فترة العشرية الدموية (السوداء)، التي كانت مظاهرها لا تُخطئها العين، ثم بعد ذلك زرتها للإقامة كمثابة آمنة في منتصف عام ٢٠٠٤، بعدما استقرت الامور نسبياً في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقه، وبدأت جهود  المصالحة وتحقيق الوئام الوطني تأتي أُكُلَها، وكانت دافعاً لمشاركة الإسلاميين الواسعة في الانتخابات ودخول الحكومة، وإن كان واقع الحال على رأي أحد القياديين الإسلامين هناك: "نحن في الحكومة ولسنا في الحكم"!!

وفي لحظة فارقة من حياتي، جاء

فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في 25 يناير 2006، فأخذت قراري بالعودة إلى أرض الوطن، حيث عملت مستشاراً سياسياً لرئيس الوزراء الشهيد إسماعيل هنية (رحمه الله).

أتاح لي موقعي الاعتباري ومنصبي الحكومي، القيام بزيارة الجزائر للمشاركة بأحد مؤتمرات حركة مجتمع السلم، وتم استقبالنا بالمطار استقبالاً رسمياً كضيف شرف.

وخلال فترة الحصار على قطاع غزة، توافدت الكثير من الشخصيات الجزائرية الإسلامية والحزبية مع قوافل كسر الحصار في تحركات كان  غرضها دعم الحكومة، التي تقودها حركة حماس، وبهدف رفع معنويات الفلسطينيين في القطاع، وتوجيه رسالة تضامنية بأن إخوانهم من العرب والمسلمين يقفون معهم خلف مشروعهم التحرري، حيث كانوا يجلبون معهم الدعم المالي أيضاً، لتعزيز صمود شعبنا في وجه الحصار الإسرائيلي والتآمر الإقليمي والدولي عليهم.

ولعلي أذكر

الأخ محمد الذويبي؛ أحد الشخصيات التي أصيبت خلال مشاركتها في قافلة أسطول الحرية (مافي مرمرة)، وهو من قيادات حركة النهضة، كما كان هناك مجموعة من النشطاء الجزائرين على نفس السفينة وتمَّ أسرهم  واعتقالهم في أحد السجون الإسرائيلية، وبعد أيام جرى إطلاق سراحهم . 


وكما سبق وأن ذكرت، فإن الجزائر كانت وستظل هي نبض قلبي الثاني، ولي هناك الكثير من الإخوة ممن ولدتهم أمي وممن لم تلدهم، من أصحاب المواقف وأهل المروءة والعطاء، وأذكر منهم:

- الشيخ عبد الرحمن شيبان؛ رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

- الأستاذ رابح محمودي؛ النائب  السابق في البرلمان والقيادي في حركة النهضة، وصاحب دار قرطبة للطباعة والنشر والتوزيع.

- د. أحمد بن محمد؛ المفكر والسياسي البارز والأستاذ الجامعي، ورئيس حزب (الجزائر المسلمة المعاصرة).

- د. عمار الطالبي، المفكر الإسلامي الإصلاحي؛ ورئيس سابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائرين.

- الصحفي مراد اوعباس؛ من أبرز الوجوه الإعلامية.

ومن الشخصيات التي شدَّتني إليهم اهتماماتي الأدبية: 

- الأستاذ عز الدين ميهوبي؛ رئيس اتحاد الكُتَّاب الجزائريين.

- الأستاذ الطاهر وطار؛ رئيس جمعية الجاحظية.

- الأمين الزاوي؛  مدير عام المكتبة الوطنية (الحامة).

وفي سياقات التوثيق والاعتراف بالجميل، صدر لي ثلاثة كتب، تناولتُ فيها حركيِّة الإسلام السياسي في الجزائر، من خلال ثلاثة شخصيات إسلامية قيادية بارزة، وهي:

-الشيخ محفوظ النحناح: الجزائر الأزمة والرجل الرشيد (2005).

-الشيخ أبو جرة سلطاني: الجزائر الأزمة وسِفر الخروج (2006).

-الشيخ عبد الله جاب الله: الجزائر سنوات الدم والمحراب (2007).

(وللحديث بقية)

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصفُ قرنٍ مع الحركة الإسلامية

الحلقة (17)

العودة إلى الوطن:

وموقع المستشار السياسي لرئيس الوزراء


د. أحمد يوسف


عندما قررت حركة حماس المشاركة في الانتخابات التشريعية، كانت المشهدية السياسية في قطاع غزة، أن المنافسة ستجري في غياب سيطرة الاحتلال على القطاع.

جرت الانتخابات بشفافية ونزاهة، كما شهدت بذلك جهات دولية واسعة، وكانت النتائج التي لم تتوقعها حركة حماس، ولا مراكز الاستطلاع التابعة لها.

كان فوز حركة حماس بالأغلبية هو لحظة ذهول ليس للإسلاميين في فلسطين وحدها، بل لكلِّ الإسلاميين في العالم، فيما أصيبت حركة فتح بالصدمة التي لم تتحملها، وشرعت كخصمٍ سياسي بالتآمر لقطع كلّ فرص نجاح الحركة في عملها الحكومي.

كانت التوقعات ترجح فوز الحركة بنسبة 40%، وإن مضت الانتخابات بدون تلاعب فمن الممكن أن تصل إلى 50%، أما أن تفوز بالأغلبية وبنسبة أعلى من 60%، فهذه هي النتيجة التي لم يتوقعها أحد في الداخل أو الخارج.

شكلت حماس الحكومة العاشرة وكان على رأسها إسماعيل هنية (رحمه الله)، وتم اختياري كمستشار سياسي له.

في الحقيقة، لم يكن لي سابق معرفة به، إلا عبر ما كنت أشاهده على شاشات التلفزة، حيث كنت في سنوات تألقه كخطيب مفوه وظهوره الإعلامي كقيادي حمساوي أقيم في أمريكا.. كان أبو العبد هنية، يتمتع بجاذبية وابتسامة وقوة كاريزما، وله القُدرة على بناء علاقات واسعة مع الجميع؛ من فصائل العمل الفلسطيني إلى جماعات وحركات الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي.

كان واقع عملي كمستشار سياسي أن أكون إلى جانبه معظم ساعات تواجدنا  بالمكتب في مجلس الوزراء، والذي كان يفرض علينا العمل لساعات طويلة للقاء بالشخصيات السياسية والدبلوماسية العربية والدولية.

وفي ظل تلك الأجواء المعقدة سياسياً، كان التحدي الكبير الذي ينتظرنا هو كيفية تقديم الحركة خارج الصورة النمطية والانطباع السلبي السائد بشكلٍ عامٍ عن الإسلاميين، والذي سبق أن تمَّ تأسيسه في الذهنية الغربية، التي غدت بعد تشكيل حركة حماس والحكومة موضع اختبار.

وبناءً على ذلك، حاولنا في لقاءاتنا مع الشخصيات الغربية البرلمانية والسياسية والدبلوماسية أن نقدم الحركة من خلال رئيس الحكومة ووزرائها، وقد نكون قد نجحنا في ذلك لدرجة أن بعض مخضرمي السياسة في الغرب كان يقول لي: إن حماس ليست حركة متطرفة أو إرهابية، وإنه بالإمكان التعامل معها(Yes; I think we can do business with them).

كانت مهمتي هي تقديم الحركة من خلال شخصية رئيس وزرائها إسماعيل هنية بمواقفه ورؤيته الإيجابية، واستعداده للانفتاح على الجميع، والتعاون مع الغرب للاتفاق على صيغة حلٍّ عادل ينهي الصراع، ويفتح الباب للتعايش بين الشعبين، وتجنيب الطرفين اللعبة الصفرية

(zero sum game)، وأن بالإمكان عقد هدنة لتهيئة الظروف لدى الطرفين لحلِّ نهائي يجد فيه الطرفان ما سبق أن كان قائماً بينهما عبر التاريخ الطويل على هذه الأرض التي باركها الله للعالمين، وقد يكون ذلك في سياق حلِّ الدولتين أو الدولة الواحدة.

لاشك أن بعض هذه الأفكار قد أخذت طريقها إلى عقول النخبة، وإن كان الكثيرون لا يفكرون في تبادلها في تلك المرحلة الحرجة من الصراع.

كانت قناعتي والتي شكلتها معرفتي بالكثير من التجارب الأوروبية التي عاينتها خلال زياراتي لعدد من دول أوروبا، حيث نجح الكثير منهم في تجاوز خلافاتها العرقية والدينية من خلال قيام أشكال من أنظمة الحكم الفيدرالي أو اتحادات عابرة لجذور الخلاف بينها مهما كانت أسبابه.

كانت السنوات الأولى لعملي الحكومي مليئة باللقاءات مع السياسيين والدبلوماسيين الغربيين، مع تنقلات وسفر  لنفس الغرض، وبهدف اكتساب المعرفة والمواقف التي عليها الكثير من الدول، وخاصة من حاولت منها التواصل مع حركة حماس؛ كالنرويج وسويسرا والسويد، والتي بادرت في طرح مواقفها  لاحتمالية التوصل إلى تسوية سياسية للصراع، وفتحت أبوابها لقيادات حركة حماس ونوابها للقدوم إليها وعرض وجهات نظرها، التي كانت تحظى بالكثير من الوجاهة والتفهم لدى تلك الدول، وهو ما شجَّعها لفتح أبوابها لما اعتبرته مساعٍ لتليين مواقف حركة حماس، للمستوى الذي يمكن معه استيعاب الحركة والحكومة خارج دائرة التطرف والإرهاب.

كانت بداية الاتصالات مع السفير السويسري لدى السلطة الفلسطينية، والذي استشعر فيما كنا نناقشه أن هناك فرصة لحوارات ومواقف يمكن أن تتمخض عنها مبادرة ترى فيها حركة حماس مدخلاً لتأجيل المواجهة لعشر سنوات قادمة، في حين أن تلك المبادرة وبالرؤية التي كانت تحملها، يمكن أن تضع أسس حلٍّ مبني على فكرة الهدنة، وهي رؤية سبق أن طرحها الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)؛ أي أنها تحظي بسابقة في التاريخ الإسلامي يمكن الاستشهاد بها والبناء عليها.

كنت وأخي د. غازي حمد، من أكثر الشخصيات في الحكومة التي التقت تلك الوفود السياسية والدبلوماسية، وكذلك الوفود البرلمانية  ونشطاء المجتمع المدني، التي جاءت من كلِّ فج عميق لتلتقي رئيس الوزراء الأخ إسماعيل هنية، والذي كنا دائماً إلى جانبه نسمع ونرى ونقيم تلك اللقاءات.

بالنسبة للشخصيات التي كانت تقيِّدها مشاهد الظهور العلني مع حركة حماس؛ كونها على قائمة الإرهاب، فقد كنَّا نرتب لها لقاءات جانبية بعيدة عن أعين الكاميرات، فيما كان البعض منهم يقول إنه استأذن حكومته في إجراء مثل هذه اللقاءات كمهمة خاصة أو لاعتبارات البحث العلمي.. أما نحن، فكانت أبوابنا مشرعة للجميع، حتى الصحفيين الإسرائيليين وجدوا لهم طريقاً لإجراء حوارات مع رئيس الوزراء هنية.

بدأت أتحرك في اتجاه دول أوروبية، لتقديم رؤية حركة حماس، وأنها حركة تحرر فلسطيني براية إسلامية، وأنها منفتحة للاستماع إلى آراء المحافل السياسية وإجراء حوارات معها.. سافرت إلى العديد من الدول العربية والإسلامية لتقديم رؤية حماس وحكومتها، والتعريف ببرنامجها السياسي، وللمشاركة بإلقاء كلمات في ندوات ومؤتمرات كانت تعقد في تلك الدول، حيث أخذتني النداءات والدعوات إلى تركيا، واللقاء بالرئيس أردوغان وتسليمه رسالة من رئيس الوزراء هنية، وكذلك انطلقت إلى مصر والجزائر وتونس والمغرب وسوريا ولبنان والإمارات، وكذلك إلى دول أوروبية، مثل: بريطانيا وسويسرا والنرويج، والتقيت في سويسرا بشخصيات رسمية فرنسية وسويدية، وكان لنا في مصر أيضاً لقاءات مع وفود رسمية هولندية وأمريكية.

في الواقع، كنت في الكثير من تلك اللقاءات أحمل رسائلَ من رئيس الوزراء، ويتم تسليمها باليد أو عبر شخصيات مقربة من حكومات هذه الدول.

بعدما وقع الخلاف مع رئيس السلطة الوطنية محمود عباس، أصبحت الكثير من هذه الأنشطة والتحركات الدبلوماسية تثير حفيظة السلطة وتستفز الرئيس أبو مازن، لذلك صرنا نتحفظ على سرّيتها؛ لأنَّ هناك رغبة من هذه الدول بعدم إغضاب الرئيس أو سلطته في رام الله.

بعد تعذر التوافق والتنسيق وارتفاع منسوب المناكفات بين الطرفين؛ فتح وحماس، كان "اتفاق مكة" لجسر هوَّة الخلاف بينهما، وبغرض رأب الصدع قبل أن يتسع الخرق على الراقع.. وعليه؛ تمَّ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي ترأسها أيضاً الأخ إسماعيل هنية، ودخلتها شخصيات  حزبية وتنظيمية أخرى، مثل: القيادي في فتح عزام الأحمد كنائب لرئيس الوزراء، والسيد د. سلام فياض كوزير للمالية، وكذلك د. زياد أبو عمرو للخارجية، والقيادي د. مصطفى البرغوثي للإعلام.

في هذه الحكومة الحادية عشر، ظل منصبي كما هو؛  المستشار السياسي لرئيس الوزراء.

في الحقيقة، كان بالإمكان أن تنجح تلك الحكومة، وكان أداؤها مقبولاً، ولكن كان لإسرائيل وبعض الشخصيات الفلسطينية من فتح وحماس، رأيٌّ آخر، إذ عملوا جميعاً على إفشال تلك الحكومة، والعودة بنا إلى مربع الصدامات والمناكفات السياسية، والظهور بمظهر الخصومة السياسية، كإخوة متشاكسون، إلى أن آلت الأمور إلى مشهدية مضحكة (حكومتان.. لشعب بلا وطن)!!

لم تستمر تلك الحكومة طويلاً، إذ بعد أقل من أربعة شهور، وفي ١٤ يونيه ٢٠٠٧، وقعت الواقعة،  والتي لم تقم بعدها لوحدتنا قائمة.

في نهاية عام 2010، بلغت سن التقاعد، وخرجت من الحكومة رسمياً، وإن كان عملي خلف الكواليس هو لخدمة هذه الحركة والتخذيل عنها، حيث كان هناك الكثير من واجهات الكيد لها فلسطينياً وعربياً وغربياً.

في الحقيقة، كنت قد أعددتُ العدةَ لمرحلة ما بعد التقاعد، حيث باشرت بتأسيس معهد بيت الحكمة قبل ذلك بعامين، ليكون لي وبما أمثله من رؤية فكرية وسياسية، وما احتفظ به من علاقات إقليمية ودولية واسعة منبراً، تقدم من خلال أبحاثه وندواته وإصداراته وجهة نظرٍ تعزز من مبدأ الشراكة السياسية والمصالحة الفلسطينية، والبحث عن مخرج لحلِّ النزاع مع إسرائيل، بعيداً عن صراعات الوجود (أنا أو أنت)، التي كانت  يتحدث بها قادة دينيون وسياسيون متطرفون، خاصة من الجانب الإسرائيلي، بافتعال أن كلَّ مواجهة أو فعل مقاوم هو تهديد وجودي لدولة إسرائيل!!

لقد غادرت الحكومة، ولكنني لم أغادر ما كنت أعتقده أبجديات لا بدَّ من الأخذ بها إذا أردنا أن نبني صرحاً وطنياَ، وأن نستكمل ما بدأه الرئيس عرفات (رحمه الله) من إقامة كيانية فلسطينية نغالب بها إسرائيل، ونكسب تأييداً عالمياً لقضيتنا ودولتنا التي كانت -وما زالت- حلم الفلسطينيين في الوطن والشتات.

(وللحديث بقية)

,↚

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصفُ قرنٍ مع الحركة الإسلامية

 الحلقة (١٨)

الانفتاح على الغرب.. لقاءات وتحركات خلف الكواليس!!


د. أحمد يوسف


عندما فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية يناير 2006، وقامت بتشكيل الحكومة العاشرة، تقاطرت للقاء رئيس وزرائها وقياداتها كثير من الوفود الغربية، وسفراء أوروبيين لدى السلطة الفلسطينية، إضافة لشخصيات مقربة من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.


كانت معظم تلك اللقاءات تتم بحذر شديد، وغالباً ما يتم التكتم عليها، خوف الاتهام بالتواصل مع حركة (إرهابية)، خاصةً وأن حركة حماس كانت تتعرض لعمليات شيطنة مستمرة، قادتها إسرائيل وأذرعها الإعلامية في الدول الغربية، مع ما تقوم به اللوبيات الصهيونية والجمعيات اليهودية المتطرفة في أمريكا من استهدافات لتشويه صورة حماس والتحريض عليها، بغرض عزل الحركة وإبقائها بمنأى عن إيصال صوتها إلى رئاسيات وبرلمانات الدول الغربية.

ومن باب إحقاق الحق؛ فقد تمكن الإعلام الغربي الذي تفاجأ بفوز حركة حماس وتصدرها للمشهد السياسي في فلسطين، من القيام "بهبة مشهودة" للتعريف بالحركة وشخصياتها وأفكارها وما تمثله رؤيتها السياسية، وما الذي يعنيه هذا الفوز لحركة إسلامية على مستقبل الصراع مع إسرائيل، ونحو ذلك.


كنت حينها مستشاراً سياسياً لرئيس الوزراء إسماعيل هنية (رحمه الله)، ومن أكثر الشخصيات في الحكومة التي قامت بترتيب أمر هذه اللقاءات أو من تمَّ التواصل معها لإجراء  مقابلات وحوارات معها، حيث كان موقعي الرسمي كأحد المقربين من رئيس الوزراء هنية، وأحد المتحدثين باللغة الإنجليزية، يمنحها الكثير من الأهمية،  وهو ما لفت أنظار السياسيين والإعلاميين الغربيين للحرص على الجلوس معي وقراءة خريطة الأحداث والتوجهات من خلالي.

وعليه؛ كانت هذه اللقاءات والتغطيات الإعلامية هي من فتح الباب لتلقي دعوات لزيارة بعض العواصم الغربية.

في نوفمبر 2006، كانت الزيارة الأولى إلى العاصمة البريطانية لندن، والتي استمرت عدة أيام، التقيت خلالها بنوابٍ من مجلسي العموم واللوردات، وكانت هناك أيضاً لقاءات مع وسائل الإعلام، وخاصة صحيفة (الغارديان) وبعض القنوات التلفزيونية.

سافرت أيضاً إلى بلفاست، والتقيت هناك بعدد من قيادات الحزب الجمهوري الإيرلندي (IRA) وحزب (الشين فين)، للاطلاع على تجربتهم النضالية والسياسية.


كان السؤال الرئيس في تلك اللقاءات السياسية والإعلامية: من هي حركة حماس؟ وما أهدافها السياسية والنضالية؟ وهل ستعترف بإسرائيل؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي تعكس غياب حركة حماس من المشهدية المعرفية في الغرب.


بعد ذلك، وجهت لي دعوة لزيارة سويسرا، والدخول في اتصالات تتعلق برؤية هذه الدولة الأوروبية لإمكانية تحقيق السلام، وإيجاد حلٍّ للقضية الفلسطينية.

وفعلاً؛ تمخضَ عن هذه اللقاءات المقترح السويسري، والذي حمل اسم "رؤية جنيف-أحمد يوسف".. 

رغم أن هذا المقترح القائم على فكرة عقد هدنة لمدة ثلاث سنوات، يتم خلالها وعلى ثلاث مراحل إنجاز حلِّ الدولتين، جاءت مواقف الدول الأوروبية مباركةً لهذه الخطوة،  أما أمريكا فقد التزمت الصمت، فيما فُهم منه أنها لا تعارضه، إلا أنَّ إسرائيل رفضته جملة وتفصيلاً.


بعد ذلك، انفتحت أبواب أوروبا لاستقبال شخصياتٍ من حماس،؛ برلمانية وحكومية، وهذا ما شجَّع رئاسة الحكومة وخارجيتها على توجيه رسائل إلى كثيرٍ من الدول الأوروبية، عرضت فيها الحكومة رؤيتها السياسية  لتحقيق السلام وإغلاق ملف القضية الفلسطينية، إلا أن إسرائيل ظلت ترقب وتحذر هذه الدول من تهمة "التعامل مع الإرهابيين"!!

ومن باب الشهادة والتوثيق لجلسات كنت  شاهدَ حضورها، كانت لقاءات المبعوث الفرنسي الخاص للرئيس ساركوزي برئيس الوزراء هنية، والذي حمل معه رسالةً منه، ثم التقيناه مرة ثانية في جنيف للاستماع منه عن نتائج تلك الزيارة.

ومن الوفود رفيعة المستوى أيضاً؛ كان وفد الخارجية الهولندية، الذي استضفناه في مكتبي في غزة، ثم التقيناه بعد ذلك خلال لقاءٍ مهمٍّ مع د. موسى أبو مرزوق بالقاهرة، وجرى هناك كذلك لقاءٌ آخر مع المبعوث السويسري الخاص مع الأستاذ خالد مشعل بالقاهرة.

وللحقيقة، كان سفير النرويج لدى السلطة الفلسطينية في القدس من أنشط السفراء فعالية، وتواصل كثيراً مع حركة حماس، وكان دائماً مبادراً، ولديه كالسفير السويسري أفكار جديدة.

كانت السويد ممثلة بشخصيات برلمانية وحزبية أيضًاً من

أوائل من التقيناهم في جنيف وغزة، كما التقيت شخصيات ألمانية وبريطانية في تونس على هامش ملتقى حواري خاص يجمع شخصيات إسلامية وأوروبية .


أما العلاقة مع أمريكا، فقد ظلت تقتصر على بعض الاتصالات مع شخصيات جاءت ترتدي عباءة البحث العلمي والأكاديميا للتواصل وإجراء حواراتٍ مع الحكومة، ولكنها -وهذا ما عرفناه عبر الوسطاء- كانت مقربة من البيت الأبيض، وخاصة في عهد الرئيس باراك أوباما.

وقد التقيت ببعض هؤلاء، حيث أشاروا لي بأنَّ تحركاتهم هي بعلم الجهات الرسمية.


في عام ٢٠٠٩، كانت هناك زيارة للرئيس أردوغان للبيت الأبيض، مما شجَّع رئيس الوزراء إسماعيل هنية على توجيه رسالة منه إلى الرئيس أوباما، حملها معه الرئيس التركي والذي بارك مثل هذه الخطوة؛ باعتبار أنَّ إدارة الأزمات السياسية تتطلب دائماً أن تظلَّ قنوات الاتصال مفتوحة .


لم تمضِ إلا بضعة شهورٍ على تلك الرسالة، حتى جاءني اتصال من شخصية أمريكية خبيرة بالشرق الأوسط (.Prof. T.S)، وكانت تربطني بها علاقات صداقة، خلال فترة وجودي في واشنطن كمديرٍ لمركز (UASR) للأبحاث وتحليل السياسات.

كان ملخص الاتصال: أحمد.. إنَّ عليك أن تتجهز للسفر، فإنَّ هناك مهمةً بانتظارك في أوروبا، وأنَّ وفداً أمريكياً -رسمياً- يرغب في اللقاء بك بالعاصمة النرويجية أوسلو.

أجبته على الفور: يا صديقي.. إنَّ أوسلو غير مفضلة لي، لسمعتها السياسية "السيئة"، والمرتبطة باتفاق أوسلو التاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأنا من ناحيتي أرغب في أن يكون اللقاء في مدينة زيورخ السويسرية، إذ بإمكاني الحصول على  الفيزا بسهولة، وكذلك ضمان سرية التحرك. 

اتفقنا على ذلك، وأخبرت رئيس الوزراء هنية بالمهمة، الذي أعطاني الموافقة على السفر.


في تلك الفترة من عام 2009، لم تكن العلاقة مع مصر في أفضل حالاتها، مما جعل تحركاتنا كشخصيات حكومية عبر معبر رفح بالغة الصعوبة.


في الحقيقة، كانت علاقاتي مع رجالات المخابرات المصرية المختصة بالملف الفلسطيني قائمة على الاحترام والتقدير، وكان اللواء محمد إبراهيم من أكثر الشخصيات التي تحظى باحترام الجميع وتقديرهم في حركة حماس، وكذلك الحال تجاه العقيد أحمد عبد الخالق. 


لذلك، كان لدي شعور بأن مهمتي ستمضي إلى غايتها، ولن يُعيق أمر سفري أحد.

مكثت في معبر رفح بانتظار قرار الموافقة والسماح لي بالمرور إلى القاهرة لأكثر من أربع ساعات.. وللأسف، جاء الرد بالرفض. 

عُدت إلى بيتي، قائلاً: "وما تدري.. لعلَّ الله يُحدث بعد ذلك أمرا". اتصلت بالشخص المقرب من البيت الأبيض، وقصصت عليه ما كان من رفضِ السماحِ لي بالمرور، وأنَّ الأمر يتطلب الاتصال باللواء عمر سليمان (رحمه الله)؛ رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، لتسهيل أمر سفري. 

جاءني الرد بسرعة: إنَّ المهمة يجب أن تظل طي الكتمان وفي إطار السرية المطلقة، وأنَّ أي إشارةٍ لها هنا أو هناك قد تصل الإسرائيليين، وستخلق إشكالية تسريبها فضيحةً للبيت الأبيض، وسيقوم اللوبي الصهيوني في أميركا باستغلال ذلك للتشهير بالرئيس أوباما، واتهامه بالتواصل مع الإرهابيين!!

 وبناءً عليه، تمَّ تأجيل الزيارة لحين يتيسر أمر السفر، ولكن -للأسف- ظلت العلاقة مع مصر على حالتها من التوتر وتشديد القيود على سفر أمثالنا من الشخصيات الحكومية من خلال معبر رفح.

في إبريل ٢٠٠٩، كانت هناك محاولة للرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر للقدوم إلى غزة ولقاء قيادات حماس فيها، ولكنَّ إسرائيل عطلت حدوث ذلك، بإدعاء وجود مخاطر أمنية تهدد حياته!!

وعليه؛ قرر الرئيس كارتر السفر للقاء الأستاذ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي للحركة، في مقر إقامته بالعاصمة السورية دمشق، ثم اللقاء بقيادة الحركة في قطاع غزة بالعاصمة المصرية القاهرة.

كان لقاء القاهرة سرّياً في فندق سميرميس، وقد شاركت في جلسته التي استمرت لخمسة ساعات مع د. محمود الزهار والأخوين د. خليل الحية والشهيد سعيد صيام (رحمه الله).

كان الرئيس معنياً بتحقيق إنجاز تاريخي شبيه بكامب ديفيد، ولكنه اصطدم بعقلية صهيونية متطرفة لا تبحث عن السلام وتحاصر كلَّ من يبحث عنه.

كان الرئيس كارتر يتمتع بالكثير من الاحترام بين الفلسطينيين، لمواقفه المُنصفة لقضيتنا،  والتي عبر عنها في العديد من كتبه الصادرة في الغرب.


للحقيقة، لم تكن هذه التسريبات الأخيرة عن لقاءات بين أمريكا وحماس هي المحاولة الأولى للتواصل بين الطرفين، إذ إنَّ خلفيات الكواليس خلال السنوات الثلاث الأخيرة قد شهدت بعضاً من هذه اللقاءات، وكان د. موسى أبو مرزوق؛ القيادي الأبرز في حركة حماس، هو أحد شهودها.

ولكلِّ ذلك؛ فإنَّ الاتصالات الأخيرة مع الحركة بخصوص التفاوض لإطلاق سراح الجنود الإسرائيليين من أصول أميركية، ليست هي الأولى ولن تكون -بالطبع- الأخيرة، إذ إنها تأتي في سياق المصلحة الأميركية، والتي تراها  إدارة ترامب أنها تأتي أولاً.

إن هذه اللقاءات سيكون لها ما بعدها، وستمهد الطريق للانفتاح والتواصل ولو بعد حين، أو كما يقولون: إنَّ وراء الأكمة ما ورائها.

صحيحٌ، أنَّ ترامب رفع شعار "أميركا أولا"، وهذا ما يبدو عليه الحال عامة، ولكنَّ الحقيقة أنَّ هناك استثناءً واحداً  يشذُّ عن تلك القاعدة، وهو إسرائيل.

وقد تحدث عن تلك المسألة الكثير من السياسيين والأكاديميين الأمريكيين، أمثال البروفيسور جيفري ساكس من جامعة كولومبيا، والذي أشار في أكثر من محاضرة ولقاء تلفزيوني أن إسرائيل هي من يدير أولويات الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، وقال: للأسف؛ إنَّ سياسة أميركا الخارجية يصنعها اليوم ويحركها مجرم الحرب نتنياهو.!!

وأن أمريكا متواطئة معه في المجازر التي يرتكبها بحق الفلسطينيين.

(للحديث بقية)

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصفُ قرنٍ مع الحركة الإسلامية

الحلقة (١٩)


لقاءات مع الرئيس عباس بعد تشكيل حكومة حماس..

جلسات بروتوكولية ليس إلا!!


د. أحمد يوسف


بعد أن شكلت حركة حماس الحكومة العاشرة بمفردها، كان موقعي الرسمي هو المستشار السياسي لرئيس الوزراء الشهيد  إسماعيل هنية (رحمه الله). كان هذا الموقع يؤهلني لحضور الجلسات الشهرية الخاصة بين رئيس الوزراء أبو العبد هنية مع الرئيس محمود عباس كلما جاء إلى قطاع غزة. كانت هناك دائماً فرصةٌ في تلك اللقاءات للتحدث مع الرئيس إلى جانب من كان يرافقنا أيضاً من أعضاء الحكومة، وخاصة وزير الداخلية الشهيد سعيد صيام (رحمه الله) .

في الحقيقة، كانت معظم هذه اللقاءات الشهرية ليست أكثر من جلسات بروتوكولية، وأغلبها كان يدور الحديث فيها مقتضباً حول الشؤون الأمنية، وأحياناً قد تطول الجلسة إذا كانت للرئيس أبو مازن جولات خارجية إلى أوروبا أو إلى دول المنطقة، حيث كان يتحدث عن بعض فحوى تلك اللقاءات السياسية وما تمَّ تداوله فيها.

بصراحة، كانت تلك اللقاءات تتم في حضور بعض الشخصيات الفلسطينية القيادية، مثل: د. زياد أبو عمرو؛ وزير الخارجية، أو النائب محمد دحلان؛ مستشار الأمن القومي للرئيس، وأيضاً السفير السابق عبدالله الإفرنجي، والطيب  عبدالرحيم؛ أمين عام الرئاسة الفلسطينية وآخرين.

بعد اللقاء، وما جرى فيه من دردشات  سياسية حول الأوضاع الداخلية والزيا،ات الخارجية، يتوجه رئيس الوزراء أبو العبد هنية لوسائل الإعلام ليتحدث عن لقائه بالرئيس، وذِكر بعض مجريات الحالة السياسية والأمنية، ثم يغادر إلى مقر مجلس الوزراء.

وكما ذكرت، فقد شاركت في أغلب هذه اللقاءات إن لم تكن كلّها، وكنت أشعر حينها أنَّ الرئيس أبو مازن لم يكن منفتحاً بشكل مريح في أحاديثه مع رئيس الوزراء هنية، وكان لدي إحساسٌ بأنَّ هناك  ما يخفيه عنا، ولا يقول كلَّ شيء، حتى لا تحرجه التفاصيل أو خشية أن يتم تسريبها في أحاديث المجالس، حيث كان المشايخ من الوزراء يتندرون أحياناً على بعض ما يرشح منها.

في أحد هذه اللقاءات، قررت البقاء في المنتدى؛ مقر مكتب الرئيس، والجلوس للحديث على انفراد مع د. زياد أبو عمرو، حيث كانت تجمعني به صداقةً تعود إلى سنوات عملي في واشنطن العاصمة، كما كانت علاقته بالرئيس أبو مازن قويةً جداً.

شاهدني الرئيس جالساً معه على جنب نتبادل الحديث، فاقترب منَّا، وسألني بعض الأسئلة تتعلق بخلفية عملي كمستشار للأخ إسماعيل هنية.

كانت في تلك الفترة، تشوب علاقته بالحركة وبعض الوزراء الكثير من التوتر، وخاصة تجاه أؤلئك الذين لا يرقبون فيه إلاً ولا ذمة.. كان السؤال بالنسبة لي مستغرباً، ويحمل في طياته لهجةً استنكاريه: "إيش جابك لهدول (يقصد حماس) وأنت خرِّيج أمريكا؟ 

فهمت قصده، وقلت له: فخامة الرئيس.. أعلمُ أن المشايخ صعبين، ولكن صدقني إنهم طيبون، ولو حاولت التقرب إليهم وجالستهم على طعام وشراب، وأشركتهم في القرار، فسوف تجدهم لك مؤيدين ومرحبين، فالمشكلة لديهم أنك تتخطاهم في كثير من قرارتك، ولا تشركهم فيما تذهب إليه، وهم يشعرون أنك تتعمد تجاهلهم ولا تُعبّرهم، فيما هم يرون أنَّ الشعب قد انتخبهم لإحداث التغيير والإصلاح!!

تفهم الرئيس ما أهدف إليه، 

ولذلك دعاني والأخ زياد لترتيب جلسة له على مأدبة غداء مع قيادات الحركة ونوابها في التشريعي،  ليضعهم في صورة كلِّ ما يجري، وما يفكر فيه ويخطط له في عالم السياسة، حتى وإن كان بعض ما سيتحدث به قد لا يَفهم أسراره وتعقيداته الكثير منهم . وقبل أن يتركنا عائداً إلى مكتبه، أضفت قائلاً: فخامة الرئيس.. إنّٰ حديثك المباشر لهم وأنت بتاريخك صاحب خلفية إسلامية، وكنت من الإخوان المسلمين، فلا تنقصك اللغة الدينية، لتجد طريقاً إلى عقولهم ليفهموك.

ردَّ عليَّ قائلاً: أنا لم أكن من الإخوان المسلمين. أجبته باسماً: إنَّ هذا ما قرأته في كتاب د. عبدالله أبو عزة؛ القيادي في التنظيم الإخواني الفلسطيني، والموسوم "مع الحركة الإسلامية في الدول العربية"، وذكرت له رقم الصفحة، التي اورد فيها د. ابو عزة هذا الكلام.

لم يعلق!!

في الحقيقة، شعرت أنَّ الرئيس

قد انشرح قلبه لفكرة اللقاء بمشيايخ الإخوان في الحكومة والتشريعي.  وقال موجها كلامه للأخ زياد بلغة الأمر: رتبوا هذا الأمر، وأنا جاهز للقاء بهم جميعاً.

للأسف، سافرت في مهمة خارج البلاد إلى أوروبا، وطالت عودتي لأسباب تتعلق بإغلاق المعبر، ومكثت منتظراً حوالي أسبوعين في أحد فنادق العريش، وعندما فتح المعبر عُدت إلى أرض الوطن بعد قرابة الشهر، كانت الأمور في القطاع قد  تعقدت، ووصلت إلى طريق مسدود، وارتفعت التوترات فيها إلى مرحلة من التصعيد جدُّ خطيرة، إذ بلغت عمليات القتل والاغتيال بين الطرفين مستويات غير مسبوقة.

بعد ذلك، ظلت العلاقة بين الرئيس ورئيس الوزراء محكومة -للأسف- بحالة التوتر التي كان عليها الطرفان؛ فتح وحماس،  إذ صار كلُّ طرفٍ يبيت بليلٍ للطرف الآخر، وأوشكت الأمور أن تأخذ طريقها نحو المواجهة المسلحة بشكل واسع.. ولولا حكمة الملك عبدالله بن العزيز (رحمه الله)، والذي وجه دعوة للطرفين للقدوم إلى السعودية.. وبناءً على تلك اللقاءات في مكة المكرمة، تمَّت المصالحة الوطنية، وتعاقد الجميع على الالتزام بما جرى التوافق عليه في "اتفاق مكة" المعروف.

شعرنا بعد هذا الاتفاق، أن الأمور سيصفو كدرها، وانَّ الخلافات هي في طريقها للحلِّ والتوافق على ما يعزز وحدتنا الوطنية، وحماية مصالح الطرفين في الحكم، من حيث تقاسم السلطة وتداولها؛ باعتبار أن الشراكة السياسية هي خيار الطرفين؛ فتح وحماس.

للأسف، لم تستقر الأمور طويلاً، إذ عاد مسلسل الاغتيالات، فقتيلٌ من هنا وآخر من هناك!! على المستوى الشخصي، كنت أشعر أن هناك عناصر من فتح ومثلها من حماس، لا تريد لهذه الوحدة أن تستمر، وأنَّ الرهان على  الاتفاق والتعويل عليه لن تطول، وأنَّ حسم مشهدية الحكم بالسلاح بدات تلوح في الأفق.

على إثر "اتفاق مكة" تمَّ تشكيل الحكومة الحادية عشر (الوحدة الوطنية)، وظل الأخ إسماعيل هنية رئيساً للوزراء، وكان عزام الأحمد من فتح نائباً له، ثم توزعت باقي الحقائب الوزارية بين الطرفين، مع مشاركة د. سلام فياض كوزير للمالية، ودكتور زياد أبو عمرو كوزير للخارجية، والقيادي د. مصطفى البرغوثي وزيراً للإعلام.

من خلال منصبي كمستشار سياسي لرئيس الوزراء، كنت أشارك في جلسات المجلس الأسبوعية، وكانت هذه الجلسات تتم في مقر رئيس الوزراء هنية، ويشارك فيها وزراء الضفة عبر الفيديو كونفرنس.

حاول الأخ إسماعيل هنية أن يعطي انطباعات بأن حكومته هذه ستكون مختلفة عن حكومته السابقة، وأن الجميع سيتقيد بما تتطلبه الشراكة السياسية من الجميع، وأن علينا أن نكيّف العلاقة بيننا بما يحفظ وحدتنا، ويعزز من  قدرتنا على التصدي للاحتلال، الذي يتربص بنا الدوائر.

كانت إسرائيل تراقب عن كثب كلَّ ما يحدث بيننا، وتعمل على تخريب ما يمكن أن يُقربنا من بعضنا البعض، وما تفرضه الشراكة السياسية من توافقات وقواسم مشتركة، تعلو  فوق كلَّ السلوكيات الفردية لهذا الوزير من فتح أو ذاك الذي من  حماس.

بعد قرابة الأربعة أشهر، وعلى إثر اغتيال القيادي الفتحاوي جمال أبو الجديان من فتح، والشيخ محمد الرفاتي إمام مسجد العباس،  اشتعلت نيران الفتنة في كلِّ الاتجاهات، وتعطلت لغة السياسة والكلام لحساب لغة الرصاص والألغام!!

وبعد أن حاولنا وقف تلك المواجهات، والتي تدخل الرئيس ورئيس الوزراء في محاولةٍ جادة لإطفاء جذوة لهيبها، شعرنا للمرة الأولى أنَّ هناك جديةً لقطع الطريق على كلِّ من يحاول تخريب وحدتنا الوطنية، وأن هناك مجلساً عسكرياً مشتركاً قد تمَّ تشكيله، وسيقوم بالاشراف على متابعة شأن هذا "الفلتان الأمني"، والضرب بقوة على يد كلِّ من يؤجج سعيره.

أتذكر أننا في تلك الليلة، التي شاركت فيها قيادات سياسية وأمنية من الطرفين؛ فتح وحماس، واستمرت حواراتها ومتابعاتها الميدانية حتى الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، حيث كان يحدونا الأمل والتفاؤل بأنَّ  الأمور ستمضي على خير، حيث كانت قيادات فتح ممثلة بالأخ ماجد أبو شمالة وعبد الحكيم عوض واللواء عبد الرزاق المجايدة، وكان الأخ أبو العبد هنية وسعيد صيام وأنا والأخ غازي حمد؛ الناطق الإعلامي باسم الحكومة،  وكان الرئيس أبو مازن معنا على الخط من رام الله، يسمع ويتابع ما تمَّ الاتفاق عليه ويعطي تعليماته..

كان يشارك في الحضور العميد شريف  إسماعيل من المخابرات العامة المصرية، كطرفٍ وسيط وشاهدٍ على الاتفاق والتفاهمات التي تمَّ التوافق عليها.

للأسف، لم يكد اللقاء ينفض، ويتنفس الجميع الصعداء، ويخرج المندوبون الثلاثة: د. غازي حمد والعميد شريف واللواء المجايدة من مبنى مجلس الوزراء في طريقهم إلى لقاء ضباط اللجنة الأمنية المشتركة، بغرض وضعهم في صورة ما جرى الاتفاق عليه، حتى تعرضوا بالقرب من المجلس التشريعي لمحاولة اغتيال؛ أصيب فيها العميد شريف في يده فيما نجا حمد والمجايدة؛ لأن سيارتهما كانت مصفحةَ ضد الرصاص.

وبناءً على هذا الذي حدث، عدنا من جديد إلى نقطة الصفر، حيث رجحت الكفّةُ بعد ذلك للجهات المولعة بالعنف من قبل الطرفين.

ومع تلك الأحداث المأساوية، خسرنا الكثير الكثير، وأهم تلك الخسائر كانت إخفاقنا في تحقيق المصالحة والحفاظ على وحدتنا الوطنية من ناحية، وتوتر علاقتنا مع المملكة كدولة راعية للاتفاق، وبالملك عبدالله (رحمه الله) من ناحية ثانية، وهو ما أدى لوقف الدعم المالي من السعودية للحكومة في قطاع غزة.

لا شكَّ أّنَّ كلَّ طرفٍ حاول أن يبرر موقفه  ويُلقي باللوم على الطرف الآخر، ولكنَّ شمس الحقيقة لا يمكن إخفاؤها أو حجبها بغربال؛ فالطرفان كانت سيوفهما مشرعة خارج الغمد، وكان هناك من المتطرفين بينهما من يتربص بالآخر ليقتله.

في يوليو ٢٠١١، كانت هناك لقاءات تجري بين الفصائل الفلسطينية في سياق المصالحة الوطنية، وكانت هناك أيضاً لقاءات تشاورية يُجريها الرئيس عباس مع سفراء فلسطين حول العالم، بهدف التحضير للتوجه إلى الأمم المتحدة لطلب الاعتراف بفلسطين كولة بصفة مراقب، وهي خطوة دبلوماسية استراتيجية لتعزيز مكانة فلسطين الدولية.

اتصلت بسفير فلسطين في تركيا سعادة نبيل معروف، واعربت له عن رغبتي بمقابلة الرئيس عباس لحديث خاص بالمصالحة الفلسطينية.

جاء الترحيب من الرئيس، وفي اليوم التالي، ذهبت وصديقي بالخارجية محمود المدهون (أبو زكريا)،  حيث التقينا الريس عباس، وكان هناك كلٌّ من د. صائب عريقات وسعادة السفير معروف.

ذكرت للرئيس ما يجري على ساحة إستانبول من لقاءٍ بين الفصائل لتحقيق المصالحة الوطنية، وأنني قد اتصلت بالاخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حينذاك،  والمقيم في العاصمة للسورية دمشق، واخبرته أنني سالتقي الرئيس، فإذا كان لديه كلام يمكن أن أحمله له، فأنا جاهز لذلك. 

قال لي: بلِّغ الرئيس تحياتي، وأنا جاهزٌ للقدوم غداً للقاء به، واستكمال ما بداناه من جهود لتحقيق المصالحة.

كانت الجلسة مع الرئيس

 إيجابية، إلا أنه اعتذر عن اللقاء بالاخ خالد؛ لانه سيغادر تركيا في اليوم التالي.

في ذلك اليوم ٢٢ يوليو ٢٠١١، وقعت المجزرة التي ارتكبها شاب نرويجي يميني متطرف في اوسلو وجزيرة اوتويا، وراح ضحيتها ٧٧ شخصاً.. ظل الرئيس يتابع تطوراتها على شاشة التلفزة طوال فترة جلوسنا، ولعله كان مدفوعاَ بالخشية أن يكون وراءَ هذا العمل الإرهابي شخصٌ فلسطيني، خاصة وأنَّ النرويج من أفضل الدول الأوروبية في مواقفها الداعمة للقضية الفلسطينيى سياسياً ومالياً. 

بعد ذلك اللقاء لم التقِ الرئيس، وكنتُ دائمَ الشعورِ أنه يقف خلفَ الكثير من المصائب التي وقعت بين فتح وحماس، كما أنني لم أُبريء قيادة حماس من استشراء تلك الخلافات بين الطرفين.

نعم؛ كان الرئيس أبو مازن سياسي مخضرم وله علاقات واسعة في أوروبا وبعض البلدان العربية والإسلامية، إلا أنه في المشهدية الفلسطينية لم ينجح في قيادة شعبه، وإنهاء الانقسام، ووضع سلطته -للأسف- في صورة من باع نفسه للاحتلال!!

(وللحديث بقية)


صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصفُ قرنٍ مع الحركة الإسلامية


الحلقة (٢٠)


الانقسام الدامي والتشظي الوطني..

صفحاتٌ سوداء من تاريخ الصراع الفلسطيني على السلطة


د. أحمد يوسف


في ١٤ يونيو 2007، بدأت فصول جديدة من الصراع تأخذ بتلابيب أعناقنا جميعاً، سواء من أطلقوا عليها اسم الانقلاب أو الحسم، فقد كانت (الحالقة) في علاقاتنا الوطنية، والتي لم  نستطع جبر كسرها أو تضميد جراحها إلى يومنا هذا..

كان السلاح في يد الجميع، والجموع مُعبأة بالكراهية والعداء ورغبات الانتقام، وغابت الحكمة والتفكير بالعواقب عند الطرفين؛ فتح وحماس، فأخذ القتل مأخذه، وسقطت المئات من الكوادر التنظيمية المحسوبة على كلِّ منهما، والتي كان أكثرها من الأجهزة الأمنية وكتائب القسّٰام، وبلغ عدد الضحايا الإجمالي ١٢٠ شخصاً.

لم يفق الطرفان من سكرة النشوة أو الموت إلا بعد أن أدرك كلٌّ منهما أنَّ الخسارة كانت وحدة الوطن، وإيغار الصدور والتربص، ومحاولاتُ كلِّ طرفٍ إفشال عمل الطرف الآخر، والإجهاز عليه في مناطق نفوذه أو سلطة حكمه!!

لم تقم لأحدٍّ من الطرفين؛ فتح وحماس، قائمة، ولم تنجح كلُّ الجهود التي بُذلت لإصلاح ما خرَّبته تلك المواجهات المسلحة، وما ترتب عليها من دماءٍ وتشظي بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

جرت الكثير من المحاولات لإصلاح ذات البين، ولم تبقَ جبهة وطنية إلا وتدخلت بين الطرفين، ولم تتخلف دولةٌ في الإقليم إلا وبذلك جهودها من مصر إلى قطر إلى اليمن إلى لبنان إلى الجزائر، وكانت هناك أيضاً جهودٌ بذلتها السنغال وجنوب أفريقيا،

ولكن هذه المحاولات -للأسف- تبددت، وذهبت أحلامها أدراج الرياح!! 

لم يتوقف الرهان عند دول المنطقة، بل انتقلت تلك الجهود إلى دول عظمى كروسيا والصين!!

للأسف، كانت عقلية الطرفين؛ فتح وحماس، معبأةَ سياسياَ بطريقة خاطئة، ذهبت معها أحلام الرجال، وتعطلت عقولهم، وصار التعامل مع بعضهم البعض بعقلية يغلب عليها الشك والتربص وأقرب للمعادلة الصفرية (zero sum game).

لقد كانت صفحات المواجهة المسلحة حقيقةً من أكثر الصفحات سواداً في تاريخنا الوطني.. لقد كنت شاهداً على كثير من وقائع تلك الأحداث الدامية، وكنت كغيري في دائرة الاستهداف والتصفية، رغم ما هو معروف عني كشخص إصلاحي ووطني معتدل.

تحول قطاع غزة إلى مربعات أمنية، وعندما قررت مغادرة مكتبي بمدينة غزة إلى بيتي في رفح، أبلغت سائقي أن يُحضر لنا سيارة أجرة، حتى لا يتعرف علينا من يقفون على تلك الحواجز الأمنية، حيث كان القتل يتم أحياناً على الهوية.

وعند وصولي إلى بيتي في الجنوب، تم نقلنا إلى مكان آمن مع حماية خاصة، حتى لا تتم تصفيتنا في تلك الأيام المجنونة، والتي أرخى فيها الليل سدوله، وأصبح الموت والاستهداف يطاردنا من كلِّ جانب.

وفي سياق هذه الكارثة الوطنية،  حاولت مع الكثير من العقلاء وعلى رأسهم الأستاذ  أبو حسن شمعة (رحمه الله) أن نضع حداً لهذه المقتلة، ووقف حمام الدم الذي سيُخلّف ثارات لن يعود معها الوطن بخير.

كان أبو حسن شمعة؛ رئيس مجلس شورى الحركة ومسطرتها العقلية، ولكن حجم الضحايا كان ثقيلاً، واتسع الخرقُ على الراقع، ولذلك لم تُفلح كلًّ الجهود لوقف التداعيات التي أصابت كل بيت، حتى إنَّ بعض العائلات والأسر كان من بين أبنائها من ينتمون إلى فتح وحماس، وهذا ما انعكس سلباً على الكلِّ الفلسطيني برمته.

إنَّ الشرخ الذي حدث داخل النفوس، لم يتمكن أحدٌّ من جسره، بل أخذ يتسع ويتمدد مع الأيام، ليس في قطاع غزة وحده بل أيضاً في الضفة الغربية.

باختصار .. لقد شربنا مع هذا الانقسام كأسَ المنون، وإلى الآن لم يتوفر الترياق لأحدٍّ منا، وتعاظم الصراع بيننا، حتى بعد أن شكّٰل كلًّ طرفٍ مملكة له، ولم يستطع إقامة أركان حكمه، حيث قامت إسرائيل بأربعة حروب عدوانية على قطاع غزة، أنهكت قوى أهله، وإن كانت مقاومة الاحتلال ظلت قائمة، كذريعة لاستمرار العسكرة في القطاع.. أما السلطة في رام الله، فظلت تلاحقها إهانات الاحتلال والتهميش المتدرج لنزع شرعيتها، وتخطي كلَّ ما تمَّ الاتفاق عليه في واشنطن 1993؛  والمعروف باسم اتفاق أوسلو.

كانت حركة حماس تفاخر بأنها قادرة على التصدي والردِّ العسكري ضد عدوانية إسرائيل.

في المقابل، كان الرئيس أبو مازن -للأسف- ينحني ويستسلم للعجز، ويكرر القول: أنا تحت بسطار الاحتلال!!

كانت هذه المقولة مرفوضة سياسياً ووطنياً لدى الكلِّ الفلسطيني، وتضع الرئيس في خانة من الاتهام الشعبي بفقدان الثقة بالأهلية القيادية.

باختصار.. ما وقع بين فتح وحماس في ١٤ يونيه ٢٠٠٧، كان في الحقيقة "صفحةُ عارٍ" يتحمل مسؤوليتها قيادة الطرفين، وأن القضية الفلسطينية بسبب تلك المواجهات المسلحة قد تراجعت مكانتها، ومنحت إسرائيل عمراً أطول مما كانت تتحدث عنه الحسابات الدينية أو ما يأتي في سياق النبوءات.

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصفُ قرنٍ مع الحركة الإسلامية

الحلقة (21)


زيارة قطر..

اللقاء بسمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني


د. أحمد يوسف


خلال عملي كمستشار سياسي لرئيس الوزراء أو كوكيل في وزارة الخارجية خلال الفترة (٢٠٠٦-٢٠١٠)، اتيحت لي فرصة اللقاء بالقيادة القطرية، كما أنَّ مشاركتي في اجتماعات مجلس الوزراء منحتني الكثير للاطلاع على الجهود والعطايا والمواقف للكثير من الدول التي كانت تتعامل معنا، لا شكَّ أنَّ قطر وأميرها السابق سمو الشيخ حمد كانا في الصدارة، من حيث الاتصالات والتواصل، ومفتاحُ حلٍّ للأزمات الإنسانية والسياسية التي كنا نتعرض لها.

لقد كنت شاهداً على الكثير مما قدمته قطر وأميرها، وقد سجّلت بعضاً من تلك المواقف واللقاءات في دراسة باسم (قطر وحماس: كرمُ العطاء وجدل السياسة)، كشهادة مني للتاريخ؛ لأنَّ غرس المعروف لا يضيع كسبه، ولا يُنسى ذكره، وكما قالوا: "لا يذهبُ العُرفُ بين اللهِ والناسِ". 

بعد تشكيل حكومة إسماعيل هنية الأولى في مارس 2006م، قمت أنا ورئيس الديوان د. محمد المدهون (أبو مصعب) بجولة عربية ودولية مع نهاية شهر يونيو من نفس العام، شملت تلك الزيارة كلّ من مصر وسويسرا وسوريا والإمارات وقطر، حيث تسنى لنا اللقاء بالعديد من المستويات السياسية في تلك البلاد.

في الحقيقة، كانت مقابلة سمو الشيخ حمد؛ حاكم دولة قطر آنذاك، هي من بين اللقاءات الأكثر  أخوية وأريحية وصدقيّة في التعهد والوفاء.

كانت وجهتنا الأولى هي سويسرا، وبعد انتهاء جولتنا هناك، وسماعنا لبعض الأفكار والمبادرات من طرف الخارجية السويسرية، ارتأينا أن نُطلع عليها بعض أصدقائنا المقربين من قادة العرب والمسلمين.

كانت قطر هي إحدى الدول التي وجدنا أنَّ من الجيد التعريج عليها، وعرض ما تداولناه مع السويسريين من أفكار، وما قدموه لنا من عروض واقتراحات.

اتصلت بصديقٍ لنا في قطر له علاقات وطيدة بالأسرة الحاكمة، وقلتُ له إنَّ لدينا رسالةً نريد إيصالها إلى سمو الأمير حاكم البلاد، ونأمل أن تساعدنا في ترتيب ذلك. أجرى الرجل اتصالاته، وقال إنَّ سُموه يُرحب باللقاء بكم في الديوان الأميري. 

ذهبنا في الموعد المحدد، ووجدنا سمو الشيخ حمد بانتظارنا هناك، حيث استقبلنا باسماً ومرحباً، وجلس سموه يُنصت لحديثنا حول الوضع في غزة، والعلاقة مع إخواننا في حركة فتح ومع الرئيس أبو مازن، وأيضاً حول الموقف الأوروبي وما تحمله زيارتنا لسويسرا من المعاني والأسرار، كما أخذنا الحديث باتجاه إيران؛ دورها ومواقفها، وسياسة الإدارة الأمريكية الرافضة للتعامل مع حكومة هنية، وإمكانيات الدور الذي يمكن أن تلعبه قطر لمساعدة الحكومة المنتخبة، وفكِّ الحصار عنها.

بصراحة، شعرت في ذلك اللقاء بأنني أتحدث مع أخي الأكبر، ومع زعيم عربي متابع باهتمام لقضيتنا، وأن لفلسطين وشعبها وقيادتها مكانة خاصة في قلبه وسياسات بلاده.

استعرضنا مع سموه لقاءاتنا مع الخارجية السويسرية، وتبادلنا معه الرأي والمشورة حول ما يفكر به بعض الأوروبيين للتواصل مع حركة حماس، ولكنَّ بعضهم يتعذرون بسبب "العقبة الأمريكية الكأداة"، التي تقفُ حجرَ عثرةٍ في وجه أيّ تقدم للأمام.. لقد وعدنا سموه ببذل الجهد مع الأمريكان، وإن كان يعلم بأنَّ المسار ما زال معقداً، وأن هناك ضغوطاً على قطر -من جهة الأمريكان- كي لا تتوسع في دعمها وعلاقاتها مع حركة حماس.

وفيما يتعلق بإيران، استمع سموه لوجهة نظرنا، وبارك توجهاتنا بالانفتاح على الجميع؛ باعتبار أن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة المهمة، وأنَّ إيران دولةٌ مركزية بالمنطقة، وأنَّ توطيد العلاقة معها هو رصيدٌ للشعب الفلسطيني وكسبٌ لقضيته. 

بالطبع؛ لم يغب عن بال سمو الأمير أن يذكرَ الإسهام التاريخي للفلسطينيين منذ الخمسينيات في بناء المؤسسة التعليمية بدولة قطر، كما أشار سموه للسنوات الـتـي عاشها الرئيس أبو مازن كمدرسٍ في قطر، وأنه يُكّن له على المستوى الشخصي احتراماً خاصاً.

لا يفوتني أن أذكر أن سمو الشيخ حمد لديه حِسٌّ للفكاهة ومزاجٌ للدُعابة، وقد أعجبته الكثير من النِكات التي  رواها زميلي د. المدهون؛ وهو يمتلك قدرة على عرض النكتة بطريقة تجعلك تُفرط من الضحك. شعرت بانسجام سموه في الإنصات للكثير من تلك النكات، وبادلنا بعضاً مما عنده، الأمر الذي كسر رسميِّة اللقاء، وجعلنا نشعر وكأننا نجلس ونتسامر مع أخانا الأكبر.

بعد تلك الجلسة والحديث الطويل مع سمو الأمير، تغيرت لديَّ الكثير من الانطباعات السلبية، التي سادت ثقافتنا السياسية تجاه أهلنا في الدول الخليجية، وشعرت أنني في ضيافة رجلٍ صاحب مقامٍ كريم، حيث إننا ما قصدناه في أمر إلا وكان الاستعداد والترحيب.. 

قبل نهاية الجلسة، قدّم لنا كُرّاساً من عدة صفحات، وطلب منا أن نُسجِّل له كلَّ ما نراه عاجلاً وإنسانياً من احتياجيات ضرورية للحكومة، وما نرجو تحقيقه كأولويات، وما نتمناه في سياق الرغبات.

وشهادةٌ للتاريخ، أن سمو الشيخ حمد (أطال الله في عمره) قد أنجز -بوفاءٍ عظيم- كلَّ ما طلبناه منه ودوَّناه في ذلك اللقاء، وكان آخره هو زيارته التاريخية لقطاع غزة في أكتوبر 2012، وتدشينه للعديد من المشاريع التي كانت -قبل حرب الأبادة الأخيرة- علامة بارزة، وشاهدةٌ على شهامته وكرمه، وأحد المعالم الحضرية، التي تتلألأ على أرض قطاع غزة، حاملةً رسالة تقول لنا ولأجيالٍ تأتي من بعدنا: "مرَّ الأمير من هنا.. وهذا هو الأثر".

باختصار: إنَّ قطر بأميرها السابق سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني (حفظه الله ورعاه)، كانت يدُ الخير التي لم تبخل على أحد، بل جادت بما أنعم الله عليها من فضله، وكان أميرها الأب ومن بعده الأبن سمو الشيخ تميم، لهما قصب السبق في الجود والكرم، وإذا كان سمو الأمير الشيخ حمد قد عظمت عطاياه وسخائه لأبناء أمته، حيث "أندى العالمين بطونَ راحِ"، فإن سمو الأمير الابن الشيخ تميم كان هو الآخر على خطى والده، ونهجه القويم، في تعاطفه ومشاعره القومية، ومواقفه السياسية، ومآثره وعطاياه الإغاثية والإنسانية.

لقد شاهدنا كيف تقدمت قطر قافلةَ أهل الكرم والعطاء لفلسطين، خلال مؤتمر المانحين الذي انعقد بالقاهرة في 12 أكتوبر 2014، لإعادة إعمار قطاع غزة بعد تلك الحرب العدوانية عليه، حيث سبقت قطر الجميع، وكانت منحتها السخيِّة مليار دولار.

إن شعبنا لن ينسى الزيارة التاريخية لسمو الشيخ حمد لقطاع غزة، حيث كان أول رئيس عربي تطأ قدماه أرض قطاع غزة في زيارة تاريخية لكسر الحصار عنه، ليس فقط بموكبه الأميري الذي طاف شوارع القطاع، بل أيضاً بتبرعه الكريم بنصف مليار دولار للنهوض بالبنية التحتية للقطاع، وذلك عبر العديد من المشاريع الاستراتيجية، والتي نجحت في تحريك اقتصاد القطاع، وتقليص نسبة البطالة فيه. 

ختاماً.. لن ننسى ونحن نتذكر هذه الصفحات المضيئة من التاريخ أن نشهد لقطر ولسمو الشيخ تميم أنه ووالده كانا أيضاً من أول المبادرين بتقديم الدعم للمتضررين جراء الحروب العدوانية المتكررة على قطاع غزة، إذ أنَّ لجنة الإعمار القطرية ومنذ تأسيسها ما تزال تقدم الإعانات الأولية والإغاثات الإنسانية العاجلة لأسر الشهداء والجرحى، وإصلاح البنى التحتية لكلِّ ما خرَّبته تلك المعارك والحروب. 

إنَّ شعبنا الفلسطيني لن تغيب عن ذاكرته تلك الوقفات القطرية الداعمة لقضيته في المحافل الدولية، وتقديره لكلمات ومواقف سمو الأمير الشيخ تميم المنددة بالعدوان الإسرائيلي الدائم على قطاع غزة، ومطالبته المجتمع الدولي بتسوية سياسية عادلة تلزم إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 67م.

ستبقى قطر بأميرها الشيخ حمد وابنه سمو الشيخ تميم، ورئيس الحكومة والشعب القطري الوفيِّ "نخوة المعتصم" لشعبنا وقضيتنا، وقديماً قالوا: من يفعلِ الخيرَ لا يعدم جوازيه.

باختصار.. إن حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني اليوم، وما تقوم به مع قطر دول مركزية أخرى بالمنطقة كمصر وتركيا، لخير شاهدٍ على عروبة هذا البلد ونخوة قيادته، التي لم تدع طريقاً فيه نُصرَّةً لقضية فلسطين إلا وسلكته.

صفحات من حياتي في الوطن والشتات

نصفُ قرنٍ مع الحركة الإسلامية


الحلقة (٢٢)

تيدكس؛ منصَّة المشاهير العالمية..

إطلالة ورواية!!


د. أحمد يوسف


في حضور مشهود لمنصة المشاهير العالمية (TEDx)

بجامعة فلسطين، تمَّ اختيار عشر 

شخصيات

متميزة في عالم الأكاديميا والسياسة ونماذج أخرى اجتماعية، أبدعت ونجحت في تخطي حالة الإعاقة والعجز والألم، وتفوقت على ظروفها الصعبة، وفرضت نفسها كأيقونات على مشهدية الإعجاز وسط ظروف إحتلالية صعبة، فكانت كالعنقاء أو طائر الفينيق الذي يُبعث من تحت الرماد. 

جاء اختياري من قبل لجنة نخبوية مكلفة من القائمين على هذه المنصة العالمية؛ كوني شخصية سياسية بمواقف متميزة، وصاحب تجربة طويلة في الدراسة والعمل في الولايات المتحدة، ومفكر له الكثير من الكتب المنشورة باللغتين العربية والإنجليزية  حول القضية الفلسطينية والحركات الإسلامية والإسلام والغرب ونحو ذلك.

سأحاول هنا تقديم وقائع هذا الحدث، كما جاء في عرض (Chat GPT)، أو برنامج الذكاء الاصطناعي الأمريكي..

في مداخلته خلال فعالية TEDx بجامعة فلسطين – غزة عام 2017، قدّم د. أحمد يوسف خطابًا ملهمًا بعنوان "التعايش" (Coexistence).

تضمنت مداخلته مجموعة من الأفكار والتجارب التي تهدف إلى تعزيز ثقافة التسامح والانفتاح والتفاهم بين الشعوب والثقافات، خاصة في السياق الفلسطيني.

إليك أبرز النقاط التي ركّز عليها:

1. أهمية التعايش والتنوع:

أكّد د. يوسف أن الاختلاف سُنّة كونية، وأنَّ المجتمعات لا تزدهر إلا حين تتقبل التعددية.

كما دعا إلى تجاوز الحزبية والانقسام الداخلي الفلسطيني عبر خطاب إنساني جامع.

2. تجربته الشخصية الدولية:

تحدث د. يوسف عن رحلاته إلى أكثر من 35 دولة، وكيف كوّنت لديه رؤية عالمية منفتحة، مشيراً إلى إقامته الطويلة في الولايات المتحدة وعمله في عدة مراكز أبحاث فكرية هناك، وما تعلمه من قيم الحوار والاحترام المتبادل.

3. الفرق بين "التعايش" و"التطبيع": ميّز د. يوسف بوضوح بين مفهومي التعايش مع الشعوب واحترام الآخر، وبين التطبيع السياسي الذي يُفرض دون عدالةٍ للقضية الفلسطينية.

4. الحاجة لبناء جيل منفتح:

شدد د. يوسف على ضرورة أن يتربى الجيل الجديد على قيم الحوار وقبول الرأي الآخر، بدلًا من ثقافة الإقصاء. كما دعا الجامعات الفلسطينية لتكون منابر فكرية حرة.

5. رسائل موجهة للفلسطينيين:

طالب د. يوسف الفلسطينيين بأن يكونوا قدوةً في التعايش فيما بينهم، قبل المطالبة بتعايش العالم معهم.. ونادى بمراجعة الخطاب الديني والسياسي ليكون أكثر انفتاحاً حضارياً وإنسانياً.

وفي سياق آخر، أثار زواج ابنته من شاب هندي اهتمامًا إعلاميًا واسعًا.

وفي مقال بعنوان "زواج برسم القضية"، أوضح د. يوسف أن هذا الزواج جاء بعد تعارف من خلال حملات التضامن لكسر الحصار عن قطاع غزة، وتمَّ وفق الأعراف والتقاليد الإسلامية.

وأكد على أهمية احترام حرية الاختيار والانفتاح على الثقافات المختلفة، رغم الانتقادات الاجتماعية التي واجهها.

ومن المعروف عن د. يوسف، أن ابنته الثانية قد تزوجت من شابٍ تركي، كان يعمل مراسلاً لوكالة الأناضول في قطاع غزة. كما أشار د. يوسف إلى أنه يأمل أن يتزوج ابنه الذي يحمل الجنسية الأمريكية من فتاة روسية أو صينية، ليكون بعلاقات النسب هذه، قد جمع تعاطفاً عالمياً لصالح القضية الفلسطينية.

أما عن عودته إلى قطاع غزة، فقد أعرب عن حزنه لوفاة والده قبل أن يلتقيه ويعرض عليه الشهادات والألقاب التي حصل عليها، والتي كانت  أحلاماً تراود أباه، خلال سنوات غيابه الطويلة عن الوطن.

غادر د. يوسف الجزائر في فبراير ٢٠٠٦، ليتولى منصب المستشار السياسي لرئيس الوزراء -آنذاك- إسماعيل هنية.

منذ ذلك الحين، واصل د. يوسف نشاطه الفكري والسياسي، وكتب العديد من المقالات التي تعالج قضايا سياسية واجتماعية تخص غزة والقضية الفلسطينية.

 في الحقيقة، كانت هذه المنصة العالمية (تيدكس) لي بعد ذلك مصدراً للمعرفة والإلهام، فالشخصيات المعروضة عليها من مشاهير العالم في كلِّ مجالات الحياة تستحق أن يستمع لها الطامحون في الشُهرة والتميز والإبداع.