في الذكرى الـ 76 لنكبة فلسطين
استذكار دور الرئيس الـ33 للولايات المتحدة الأمريكية في إنشاء إسرائيل
أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
يحيي شعبنا الفلسطيني الذكرى الـ«76» للنكبة، في ظل استمرار المأساة، وتواصل المجازر في الضفة والقطاع، بدعم وتواطؤ أمريكي بارتكاب حرب إبادة جماعية، لم تعد خافية من حيث حجمها ونتائجها ودوافعها، والدور الأمريكي حاضر دوماً كالعادة في منع اتخاذ قرار وقف إطلاق النار من خلال استخدام حق النقض الفيتو في مجلس الأمن، الذي يدل على مواقف العداء لشعبنا وقضيته من قبل الرؤساء الأمريكان بدءاً من هاري ترومان الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية، والذي تولى المنصب من 12 أبريل 1945 حتى 20 يناير 1953، تلك الفترة التي تفاعلت أحداثها ونسج خيوطها لتقع النكبة الفلسطينية في العام 1948، وفي عهده انتهت الحرب العالمية الثانية، وبدأت الحرب الباردة، واحتدم الصراع في فلسطين، ممهداً لقيام دولة إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة، كان للرئيس هاري ترومان دور كبير في إقراره، لتكون إسرائيل أول دولة في التاريخ يجرى إنشاؤها بطريقة عجيبة بقرار أممي ظالم، خارج إرادة سكانها الأصليين المقيمين فوق ترابها منذ آلاف السنين، كان ترومان أول رئيس في العالم يعترف بـ«الدولة الإسرائيلية»، بعد لحظات فقط من إعلان قيامها، ثم تابع تقديم المساعدات لتثبيت أركانها وحماية أمنها ودعم توسعها وتغطية عدوانها، وبقي هذا الدور الأمريكي راسخاً تتبعه الإدارات الامريكية التي جاءت بعده.
لعب ترومان دورا ًرئيسياً في الأحداث والترتيبات التي أدت إلى قيام الكيان الصهيوني في فلسطين، متعاوناً وضاغطاً على الانتداب البريطاني في فلسطين لتقديم كل مساعدة ممكنة لأجل ذلك، خدم ترومان إسرائيل والصهيونيين ولم يخدم اليهود بل ورطهم وورط المنطقة بصراع طويل ومرير، لا يعرف أحد متى ينتهي، وساهم ترومان بإغراق المنطقة بالدم، وهذا ما أكدته أحداث ما مضى، وتؤكده الأحداث الحالية، دوافع رغبته وإصراره في صناعة هذا الصراع الدموي، تثير الاستغراب، عندما اُكتشِف رأيه السلبي باليهود عموماً وعدم ثقته بهم.
بتاريخ 21 يوليو/ تموز 1947 كتب ترومان في مذكراته واصفاً اليهود بالأنانية، وعدم الاهتمام بعدد القتلى من الشعوب الأخرى إذا كانوا يتلقون معاملة حسنة في الدول التي يعيشون فيها، وكتب أيضاً: «ما أن يتمتع اليهود بنفوذ سياسي أو مالي حتى يصبحوا أسوأ من هتلر وستالين في إساءة معاملة الآخرين». أي بالمعنى الشائع stoop to conquer » » وبالعربية الدارجة:« يتمسكنوا حتى يتمكنوا وإذا تمكنوا أساؤوا وأفسدوا».
لقد كان اكتشاف مذكراته مفاجئة وأحدثت صدمة للمجتمع اليهودي قبل غيره من المجتمعات، ملاحظات الرئيس ترومان تهين اليهود، على أنهم يصبحون قاسيين مثل مضطهديهم بمجرد حصولهم على الثروة والسلطة. كتب ترومان في 21 يوليو/تموز: « أعتقد أن اليهود أنانيون للغاية، إنهم لا يهتمون بعدد الإستونيين، أو اللاتفيين، أو الفنلنديين، أو البولنديين، أو اليوغسلافيين، أو اليونانيين الذين يتعرضون للقتل أو سوء المعاملة باعتبارهم مشردين. طالما أن اليهود يحصلون على معاملة خاصة. ومع ذلك، عندما يمتلكون السلطة، سواء كانت جسدية أو مالية أو سياسية، لا يمتلك هتلر أو ستالين شيء من هذه القسوة أو سوء معاملة المستضعفين. ضع مستضعفاً في المقدمة، ولا فرق سواء كان اسمه روسياً، أو يهودياً، أو زنجياً، أو إدارياً، أو عمالياً، أو مورمونياً، أو معمدانياً، لقد وجدت عدداً قليلاً جداً ممن يتذكرون حالتهم».
والآن ألا يمكن القول: إنهم لا يهتمون بعدد القتلى من العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً؟. ويقولون علانية: العربي الميت هو العربي الجيد، ويدعو وزيرهم الفاشي وزير التراث إلى إبادة سكان غزة بقنبلة نووية.
أذهلت مذكرات ترومان الجميع لأن ترومان معروف بأنه أكثر رئيس أمريكي عمل على مساعدة الحركة الصهيونية «اليهود»، وبادر إلى الاعتراف بإسرائيل، عندما عارض الاعتراف وزير الخارجية جورج مارشال، الذي كان يخشى أن ذلك سيضر بالعلاقات مع الدول العربية. وأثارت تعليقات ترومان الجدل بين من يقول إنه كان معادياً للسامية، وآخرون ينفون معاداته للسامية، بعض وسائل الإعلام ولا سيما شبكة CNN الأميركية رأت في انتقادات ترومان لليهود صبغة معادية للسامية. وآخرون قالوا: أي شخص لعب الدور الذي لعبه في إنشاء دولة إسرائيل لا يمكن أن يُنظر إليه بهذه الطريقة. ويقول جون لويس جاديس، أستاذ التاريخ في جامعة ييل: «كان ترومان في كثير من الأحيان ينتقد اليهود، وأحياناً مفرطاً في انتقاده، في يومياته وفي مراسلاته، لكن هذا لا يجعله معادياً للسامية».. أين من هذا ؟؟؟ الضجة التي تفتعلها الجهات الصهيونية الآن إزاء أقل تصريح ينتقد اليهود أو إسرائيل؟.
تقول سارة ج. بلومفيلد، مديرة متحف ذكرى الهولوكوست في الولايات المتحدة: « رد فعلي هو: واو!!! لقد فاجأني ذلك بسبب ما أعرفه عن سجل ترومان، كان تعاطف ترومان مع محنة اليهود واضحاً للغاية»، وأضافت أن «تعليقات ترومان كانت نموذجية لنوع من معاداة السامية الثقافية التي كانت شائعة في ذلك الوقت في جميع أنحاء المجتمع الأمريكي، لقد كانت هذه طريقة مقبولة للحديث»، إذاً حسب هذا يا سارة: هل المعاداة للسامية مقبولة على خلفية ثقافية وغير مقبولة على خلفية سياسية؟.
إن هذا التناقض الظاهر في فكر وسلوك ترومان، يتضح في الباطن، من خلال حقيقة أن الأمر لا يتعلق بالذرائع الإنسانية، ولا بتعاطف مع اليهود بسبب الهولوكوست، ولا معاداة السامية، ولا يهود مشردين يبحثون عن ملاذ آمن، إنه تناقض يفسر بالذرائع النفعية والنوايا الاستعمارية والبحث عن النفوذ والهيمنة للقوة الأمريكية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، في زمن الوراثة الأمريكية لكنوز النفوذ الاستعماري، وانتقاله من بريطانيا العظمى التي تراجعت هيمنتها الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الولايات المتحدة، أدرك زعماء الحركة الصهيونية هذا التحول ونجحوا في نقل تعهد مشروعهم الاستعماري الاستيطاني إلى الراعي الأمريكي.
لقد كان ترومان على دراية بالكارثة الإنسانية التي سيحدثها قراره بقصف هيروشيما وناكازاكي بقنبلتين نوويتين، ولم يهتم بعدد الضحايا، وكان على دراية بما تحدثه قنبلته الثالثة التي فجّرها في فلسطين والإقليم من ضحايا النكبة وما بعدها، أشعل فتيلها العصابات الصهيونية بالتطهير العرقي، وبحملات إبادة جماعية لسكانها الأصليين، واغتصاب الأرض، فقط منذ 7 تشرين أول /أكتوبر 2023، على الآن يُقدر ما سقط على غزة من متفجرات -صنع في الولايات المتحدة- ما يعادل القنبلتين معاً في قوتهما التفجيرية.
يقول ترومان في التطهير العرقي غير مبال بنتائجه الكارثية على شعب فلسطين: « كان علينا أن نفعلها بجرعات صغيرة، لا يمكن نقل خمسة أو ستة ملايين شخص خارج بلد وملؤه بخمسة أو ستة ملايين آخرين، وتتوقع أن يكون كلا الطرفين راضين، واجهنا شتى أنواع الاعتراضات على كل ما تم القيام به، تحتم فعل شيء لذلك ذهبنا وفعلناها، والآن أفعالنا بدأت تأتي ثمارها، وأعتقد أننا بالنهاية سنرضي جميع الأطراف ولكن إنجاز هذه المهمة سيستغرق وقتاً طويلاً».
كان ترومان من أوائل الرؤساء الذين سهّلوا لليهود هجرتهم إلى فلسطين، ولم يحتج التطهير العرقي وقتاً طويلاً، إذ صرّح أنه «يجب أن تتحرر قوانين الهجرة إلى فلسطين من أي قيود لتسمح بقبول أناس مشردين»، ولماذا لا تأوي هؤلاء المشردين في بلادك؟. فهي واسعة وقد حللتم بها أنتم الأوربيون بعد تطهير عرقي لسكانها الأصليين.
دعا هاري ترومان للسماح بدخول 100,000 مهاجر يهودي الى فلسطين، وفي مبادرة بريطانية لإشراك الأميركيين في تحمل المسؤولية تم يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1945، تشكيل لجنة بعضوية ستة محققين بريطانيين وستة محققين من الولايات المتحدة، وفي أبريل 1946، أوصت اللجنة بقبول المقترح الأمريكي.
وضعت بريطانيا حجر الأساس في المشروع الصهيوني على أرض الواقع بفلسطين منذ وعد بلفور، ودخول قوات الجنرال اللنبي مدينة القدس، ومن نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية، وضعف قوة بريطانيا العظمى، بدأت الحركة الصهيونية تدير ظهرها لبريطانيا، مطالبة الولايات المتحدة أن تضغط على الحكومة البريطانية لكي تفتح أبواب فلسطين مشرعة أمام هجرة يهود أوروبا. إلى الدرجة التي اعتبرت الحكومة البريطانية الرئيس الأمريكي ترومان هو: « شخص موالٍ للصهيونيين بطريقة تتسم بالطيش واللامبالاة». وقال إيرنست بيفن وزير الخارجية البريطاني وقتذاك بسخرية: «نحن نتفهم تعاطف الرئيس الأمريكي مع اليهود إلى هذا الحد.. ونتفهم أن كل دافعه هو الحصول على أصوات انتخابية «يهودية» في نيويورك في الانتخابات الرئاسية الأمريكية .. فإذا كان الأمر كذلك، لماذا لا يقوم هو بفتح أبواب الولايات المتحدة أمام الهجرة اليهودية؟.»