لم يحبوك ....... و لم يعرفوك ..... يا دوستويفسكي !
.
هذه الحقيقة التي آن أوان إعلانها ، لم يحبوا دوستويفسكي ولم يعرفوا عنه شيء سوى اسمه .
هم أحبوا الاقتباسات التي تُذيل باسمه في المواقع ، حتى و إن كانت مليئة بالأخطاء الإملائية ، و على درجة عظيمة من السطحية و التفاهة !
هم أحبوا العبارات التي لا تزيد عن سطرين ، أقرب ما تكون لكلمات من أغنية من أغاني عصرنا . و لأنهم لا يجيدون الكتابة ، تناقلوها فرحين بها ، و حتى قدسوها !
الأغلب و بعد تجربة دامت لأكثر من أربع سنوات في إلتصاقي بدوستويفسكي و عالمه ، أقولها صراحة إن الأغلب لم يحب دوستويفسكي ، بل و فشل في إتمام قراءة عمل واحد للكاتب !!!
قلة قليلة هم من فازوا بمعرفة دوستويفسكي و من استشعروا بلذة القراءة له . و هؤلاء جميعا عرفوه عبر الصفحات الخاصة بكتبه و ليست صفحات التواصل الإجتماعي !
نادرون فعلا ، من ارتعدت أركانهم خوفا و هم يتابعون مشهد راسكولينكوف و هو يتسلل بفأسه ليقتل المرابية . صعدوا معه السلالم خطوة بخطوة . أرعبهم مصادفته لأخت المرابية في توقيت لم يتوقعه . و تمنوا لو أنهم يستطيعون نثيه عن قراره في ارتكاب الجريمة !
بكوا على صونيا و مارميلادوف و حال عائلته . لعنوا الخمر و الإدمان عليه . تيقنوا أن الإنسان قد يبيع كل شيء في سبيل سعادة من يحب ، تماما كحال صونيا .
قليلون هم من تصدعت رؤوسهم مثل بطل الجريمة و العقاب تماما ، و هو يتساءل كيف أن قتل عجوز مرابية حقيرة يعتبر جريمة ، أما قتل نابليون لملايين البشر فيعتبر عملا بطوليا !!!
هؤلاء هم من تعبوا مع دوستويفسكي ، و منه ، و هم يبحثون عن تعريف صالح للجريمة ، و من الذي يحدد إن كان الفعل جريمة أم لا .
نادرون هم من بكوا مع العجوز نيكولاي أخمنيف ، و هو يدوس بقدمه صورة ابنته الحبيبة على قلبه جدا ، بعد أن هجرت بيته و هربت منه مع ابن عدوه اللدود .
هؤلاء النخبة الذين كانوا يموتون حرفيا في كل صفحة من صفحات الرواية هم من عرفوا دوستويفسكي .
رؤية أب محطم أصيب في مقتل من ابنته التي لم يقع اختيارها الا على ابن عدو والدها ، و على خلاف شكسبير و ( روميو و جوليت ) ، لم يمت العاشقان ، بل قتل الغم و الهم الأب و الأم .
قليلون هم من عاشوا مع ناتاشا و غضبوا من سلوكها ، و قلة نادرة هي من عايشت اليتيم فانيا ... الشاب العاشق من الطراز الأول ، اليتيم و الفقير . و لما رُفض ممن يحب ، آثر أن يبقى بجوار محبوبته على حساب كرامته .
كم كان صعبا تخيل الموقف برمته !
و كيف أن فانيا لم يكن لديه الجرأة اللازمة للإنفصال عن ناتاشا ! كيف أن العشق يذل الإنسان و يهبط به للدرك الأسفل من جلد الذات و التلذذ بتعذيب النفس !
قليلون هم من عاشوا رحلة روحية كاملة مع الشيخ زوسيما ، و هو يزرع فينا القيم التي ترفعنا لمرحلة الملائكية و تميزنا عن الحيوان ، رغم أن الحيوان الكاسر قد يكون أفضل من كثير من البشر .
تعلمنا منه ألا نكذب ، و أن من يكذب على نفسه سيقع أخيرا ضحية لكذبه ، فلا يصدق أحد بعد ذلك ، بل و قد تنطلي عليه الكذبة فيصدق كذبته نفسها !
قلة قليلة هم من عاشوا مشهد المسيح و هو يعود للأرض ، فيرى أن كل ما جاء به قد تبدل ، و أن الكهنة فعلا قد بنوا عالما مغايرا للعالم الذي جاء به المسيح و إن حملوا اسم المسيح فعلا .
نادرون هم من عايشوا تلك اللحظة و أصابتهم كآبة أن الأديان فعلا قد سُرقت ، و أن من سرقها هم كهنتها .
قليلون هم من صادقوا إيفان و تمرده على هذا العالم ، ورفضه فكرة الحياة الأخرى حيث يُقتص من الجناة .
و كيف أنه لا يرتضي بفكرة عذاب أخروي يتلقاه الجاني بعد أن تعذب المظلوم هنا على هذه الأرض .
فئة بسيطة عرفت قدرة دوستويفسكي و هو يرفض المبادئ الداعية للوطن و الوطنية . ليس كرها في وطنه ، و إنما لأن الوطن للطبقة الحاكمة و ليس للجميع . فشعرت هذه الفئة أن دوستويفسكي و هو يتحدث عن زيف الشعارات الوطنية أنه يقصد بلدانهم و ليس روسيا وحدها.
و كم كان جميلاً و هو يرسم صورة لفساد الحكومة ، ثم يتبعها بصورة أشد في السوء لفساد المعارضة و تعطشها للسلطة . و وصل هؤلاء النخبة للقناعة أن أحداً لا يسعى للسلطة ثم هو يتردد في استخدام أي وسيلة توصله لها مهما كانت هذه الوسيلة .
ثلة قليلة هم من ارتفع ضغطهم و هم يقرأون مشهد المحاكمة ، و مرافعة المحامي عن الجاني في الاخوة كارامازوف . و كانوا أشبه بمن أراد فورا تعلم مهنة المحاماة ليعرف الى ما ستؤول إليه الأمور .
و لا أستبعد أن بعضهم نصّب نفسه قاضيا و بدأ في تفحص الأدلة فعلا .
و محتمل جدا أن سؤال دوستويفسكي البسيط و المعقد : من هو الأب يا سادة ؟ و هل كل من أنجب يستحق هذا اللقب ؟
لا أخفي أنه سؤالا كهذا ظل يدور في رأسي عدة أيام ولياليها .
قلة قليلة هي من عرفت " مراهق " دوستويفسكي وهو يحتقر كل فكرة سوى فكرة امتلاك المال . و اقتناعه التام أنه نكرة لا يساوي شيئا ما دام لا يتملك المال .
هذا المراهق الذي يحلم بالوصول لمرحلة يصبح لاسمه وزنا يدوي عاليا في روسيا كلها . كل ليلة يتخيل كيف سيصبح مشهورا و غنيا و ستتحقق أحلامه كاملة فور امتلاكه للمال .
قلة قليلة هي من عرفت سحر دوستويفسكي و هو يصف جحيم الفقر و عالم الفقراء . و كيف يكون حالة الفقير النفسية لما يشتد فقره فلا يستطيع حتى شراء ملابس تليق به . كيف أننا قد نتعذب أياماً و ليالي لعدم قدرتنا على الظهور بمظهر عام . هؤلاء القراء اقتنعوا أخيرا أن الملبس ليس لنا و لكن للناس . حتى نمنع على الأقل كلامهم .
فئة قليلة محظوظة هي من رأت قبو دوستويفسكي و نزلت فيه . فوجد هؤلاء القراء أنهم من ساكنيه رغم عدم معرفتهم بذلك .
عرفوا مثلا أن الإفراط في امتلاك الوعي ما هو إِلَا علة، علة مرضية حقيقة و تامة.
و فهموا أن " العذاب والألم... ما هما سوى المحرك الوحيد للوعي!
و عرفوا أن الإنسان يتمسك بالوعي ولا يتنازل عنه بالكل، مقابل أي طمأنينة أو سكينة.
أرعبهم سؤال دوستويفسكي المظلم كقبوه تماما و هو يتجرأ فيستوضح :
أيمكن للمرء أن يكون صريحاً بشكل تام، وَإِنْ كان مع نفسه على الأقل،