قراءة في رواية (شوشا)
يكتبها: إسحاق بندري
شوشا
إسحاق باشيڨيز سينجر
ترجمة: سمير أبو الفتوح
إصدار سلسلة الجوائز
الهيئة المصرية العامة للكتاب
في مقدمة هذه الرواية يؤكد لنا الأديب
الپولندي/ الأمريكي إسحاق باشيڨيز سينجر
( ٢١ نوڨمبر ١٩٠٢ / ٢٤ يوليو ١٩٩١ )
"أنها لا تمثل يهود پولندا قبيل الحرب العالمية الثانية بحال من الأحوال، وإنما هي قصة بضع شخصيات متفردة في ظروف متفردة، ظهرت في جريدة (نحو الأمام) اليهودية عام ١٩٧٤ ، تحت عنوان (رحلات نفس)".
إلا أن القارئ الفطن يلاحظ الكثير من تفاصيل حياة المؤلف في بطل روايته " هارون جريدينجر."
إسحاق باشيڨيز سينجر ( كبطل روايته أيضاً) هو ابن حاخام يهودى پولندي عاش في وارسو ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام ١٩٣٥. وكان يكتب أعماله بلغة الييديش ( لكنة ألمانية قديمة تُكتب بالحروف العبرية ويتحدث بها يهود شرق أوروبا) . وتتجلى شخصيته بوضوح في أحداث الرواية، التي تبدو كسيرةٍ ذاتية بها تسجيل لحياة اليهود في الجيتوهات المغلقة في پولندا، وتأريخ مفصل لملامح الحياة السياسية والفكرية آنذاك، تتصارع فيها الفلسفة الماركسية والشيوعية مع قوانين التوارة وأحكامها، في عقول اليهود وقتها. مرثية للراحلين وتذكار الدمار وضياع الأصدقاء والأحباء.
في الافتتاحية الساخرة نقرأ جُمَلاً مفتاحية :
"تربيت على ثلاث لغات ميتة: العبرية، الآرامية، والييدية. وعلى ثقافة تطورت في بابل؛ التلمود. وكان الحدير الذي درست فيه حجرة, فيها يأكل المعلم وينام وتطهو له زوجته الطعام. لم أدرس فيه حساباً أو جغرافيا أو فيزياء أو كيمياء أو تاريخاً. بل القواعد التي تحكم بيضة موضوعة في يوم عيد ديني. وما يُقَدَّم من ذبائح أو قرابين في المعبد الذي تحطم منذ ألفي عام. مع أن أجدادي استقروا قبل أن أُولد بنحو ستمائة أو سبعمائة عام، فقد كانت معرفتي بالپولندية لا تعدو بضع كلمات فحسب. "
هذه الكلمات يسردها بطل الرواية
" هارون جريدينجر" وهو ابن حاخام يهودى يُولَد قبل الحرب العالمية الأولى في الحي اليهودي بوارسو. ويتربى على تربية دينية محافظة مليئة بالأوامر والنواهي، عامرة بالمحرمات والممنوعات. و نقرأ عن صداقته في الطفولة مع ابنة الجيران ( شوشا) التي تعاني من التأخر البدني والذهني، فلا تكبر مع الوقت وتظل طفلةً جسدياً وفكرياً. يتمرد هارون على نشأته الدينية المتزمتة ويقرر احتراف الكتابة ليغدو من أدباء الييديش المهمين، ومن المسرحيين الواعدين. يغادر الحي اليهودي ليندمج مع الصفوة المفكرة في وارسو وتتكون لديه نزعة تشاؤمية وعلاقات نسائية متتعدة.
يقدم لنا سينجر في سرده الذي يتسم بالتشويق الصحفي الملائم للنشر المسلسل للرواية في الصحف، أنماطًا متعددة من الشخصيات المُرَّكبة المعقدة في دائرة أصدقاء هارون. وأطرفهم شخصية الأكاديمي الفيلسوف پروفيسور موريس فيليتزوهن صاحب كتاب ( الهرمونات الروحية) وهو زير النساء اللعوب, وأفكاره جعبة متناقضات وأخلاقيات متعاكسة.
فيقول ذات مرة : "أحب اليهود رغم أنني لا أطيقهم، لا أعتقد أن تطوراً قد خلقهم. أظن أنهم الدليل الوحيد على وجود الله."
وهناك سام ديريمان المليونير الأمريكي وعشيقته الممثلة بيتي سلونيم التي بعدما فشلت في اجتذاب الأضواء في مسارح الييديش في نيو يورك، تأتي إلى پولندا أملًا في تحقيق حلم النجومية. فيعرض سام على هارون تأليف مسرحية لها. وتتطور العلاقة إلى أن تتحول إلى عشيقة لكليهما.
وإن كانت علاقات هارون ونزواته لا تتوقف عندها،فهو صديق ل ( سيليا شينتشنر) التي لا يغار زوجها ذو الميول المثلية عليها لاعتقاده أن مشاعر الغيرة هي أمر قد ولُّى زمانه ولا يُبدي ممانعة لنزوتها مع هارون. وتظهر سيليا كحالة لتأجج الليپيدو الذي لا يرتوي.
وعلاقته أيضاً مع (دورا ستولنتز) ذات الأفكار الماركسية المناهضة لتدني الرأسمالية وقيمها الهدامة.
مع تسارع الأحداث و قرع طبول الحرب واستفحال خطر النازية، يشعر هارون أن غزو هتلر لپولندا أمر محتوم، و يلفي نفسه ساقطاً أخلاقياً عندما يعرض عليه سام عرضاً بالفرار إلى الولايات المتحدة بشرطين، أن يتزوج من بيتي و أن تظل بيتي في نفس الوقت صديقة له( أي لسام). يشعر هارون أنه باع نفسه للشيطان. يُفًضِل الزواج من شوشا صديقة طفولته رغبة في التطهر مما اعتراه من فساد، شوشا على تأخرها الذهني والبدني تمثل النقاء والطهر والبراءة. من يتجلى فيها التقبل الطفولي لكل ما في الحياة من خير وشر في براءة. تحتفظ بإيمان ساذج أمام عالم ضخم يموج بالحروب والقتال. ربما تبدو أسئلتها الطفولية عن الله والخير والشر وما بعد الموت، وجزاء الأفعال، تافهة في مقابل أفكار الصفوة المفكرة. ولكن المفارقة أن أحداً لا يملك إجابة لما تطرحه، لا الحاخامات و لا صفوة رجال الفكر.
"لماذا تقول الجنس البشري؟ إني أريد السلام وشوشا تريد السلام، وملايين من البشر تريده كذلك. مازلت مُصِراً على أن معظم الناس في العالم لا يريدون حروباً، أو حتى ثورات. ولو خُيِّروا لاختاروا أن يعيشوا حياتهم إلى النهاية على أفضل نهج مستطاع بقليل أو بكثير. في قصور أو في حجرات قبو مادام لديهم كسرة خبز أو وسادة يضعون عليها رءوسهم، أليس هذا حقيقياً يا شوشا؟ "
" المشكلة أن الناس الصابرين الوادعين سلبيون، وأن المتربعين على كراسي الحكم أشرار عدوانيون، لو أن الأغلبية الساحقة قررت على نحو ٍما الاستحواذ على السلطة فلربما كان هناك سلام".
تتقدم الأحداث ليهاجر هارون إلى أمريكا ويبدأ حياة جديدة. ويختفي من المشهد كل من كانوا في حياته، سواء شوشا التي تموت في پولندا، أو من قتلهم النازيون.
هذه الأحداث القاتمة في عقد الثلاثينيات يرسمها إسحاق باشيڨيز سينجر بكل تفاصيلها المكانية الدقيقة التي تجسد المشهد في حيوية وصخب. طقوس الحياة اليومية في الجيتو اليهودي بدايةً من المتعصبين الأرثوذكس الملتزمين بالسبت والأطعمة الشرعية، نهاية برجال العصابات وبيوت البغاء. من لا يصدقون بوجود الله, وإن كانوا من أنصار الحركة الصهيونية وتأسيس وطن لليهود.
نوادي الكُتّاب التي تجمع كل الأطياف، من المواهب الواعدة إلى الانتهازيين والمتسلقين.
وعلى ما في السرد من حياة وحيوية وروح الدعابة، إلا أن القارئ يطالع الكثير من المقاطع الطويلة ذات الجدل الفلسفي والشرح السياسي، التساؤلات الوجودية عن الله، والغاية من الحياة، كيفية تكيف الإنسان مع الألم والشر، وكيف يتجاوز كل ذلك سواء بالاستسلام والقنوط، أو الإنهماك والاستغراق في المتعة واللذة.
حتى لتبدو لنا أن كل تلك المغامرات والنزوات العاطفية، سواء الإيروتيكية أو الأفلاطونية هي انعكاس لضيق سينجر نفسه مما تعرض له في نشأته من تضييق وكبت ومحرمات متعددة، فإذا به يتمرد على كل ذلك ويطلق لنفسه العنان.
عبر فصول الرواية يبحث عن دوافع الإنسان تجاه الحياة والألم والمتعة حتى وإن كانت أبواب الجحيم على وشك أن تفتح مصراعيها.
"ومنذ وعيت على الدنيا وأنا أسمعه يكرر عبارة هذا مَنهيٌ عنه وهذا حرام، وأن كل ما أتوق إلى أن أفعله إثم وخطيئة، فلم يكن مباحاً أن أرسم أو أصور إنساناً فهذا خرق للوصية الثانية".
"إن كل جوانب الضعف والانحراف لَديّ ناشئة عن إصراري الشديد على الحرية المطلقة وتمسكي بها، وهذه الحرية المزعومة حولتني إلى عبد."
كل هذه المتناقضات تتجلى في سؤال توبخ به "بيتي" في ذات مرة "هارون" إذ تقول له أنه ملحد وأيضاً يهودي متعصب، متطرف مثل جدها الأكبر، فكيف يمكنه أن يجمع النقيضين؟
لتأتي إجابته أن اليهود يفرون وجبل سيناء يطاردهم، وهذه المطاردة أصابتهم بالإعياء والجنون.
ليجسد لنا إسحاق باشيڨيز سينجر أن ذروة المأساة الإنسانية تتجلى في الفشل والهروب والفرار من مواجهة ما يعمل في النفس من متناقضات. قد تتمثل الكارثة فيما تصوره بعض الپولنديين وقتها أن الخلاص قد يأتي على يد هتلر، لينتهي الأمر بإحراق الأخضر واليابس وهدم المعبد على رؤوس الجميع.
"كل الأشياء مجتمعة، اليهود في پولندا قد وقعوا في شَرَك. هاجمونني حين قلت هذا في نادي الكُتّاب، إني على يقين أن هذا سوف يدمرنا جميعا ً. الپولنديون يريدون التخلص منا، فهم ينظرون إلينا كجسم غريب وهم تنقصهم الشجاعة للقضاء علينا بأنفسهم. وإذا صنع هتلر ذلك من أجلهم فلن يذرفوا الدمع علينا، ولن يدافع عنا ستالين بالتأكيد فلقد أصبح الشيوعيون ألد أعدائنا منذ بدأ تروتسكي معارضته لهم و هم يطلقون عليه في روسيا يهوذا."
الرواية من إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب وترجمة الأستاذ سمير أبو الفتوح.
يذكر لنا المترجم عن الأديب إسحاق باشيڨيز سينجر الذي كان أبوه وجده من حاخامات اليهود، وأنه تلقى تعليماً دينياً متزمتاً، ولكن ميله للكتابة الأدبية سَبّب الكدر والغم لوالديه كثيرا ً. إذ كان الأدب في نظرهما تخلياً عن العقيدة ومن سوء الخُلق. بعد هجرته للولايات المتحدة عام ١٩٣٥ عمل كاتباً ومحرراً في جريدة إلى الأمام اليهودية. كانت كل كتاباته بلغة الييديش حتى غدا كاتب الييدية الأول, مكرساً حياته كما يقول أحد النقاد، للكتابة عن عالم تحطم بوحشية , وأنجز عمله بلغةٍ هي نفسها على وشك الانقراض والاندثار. راعى في كتاباته الخطوط الأساسية لتقاليد الييدية ووجهات النظر الأخلاقية والاجتماعية السائدة لدى يهود پولندا، مع تأثره بالكتابة الغربية وخاصةً ذلك النوع المتسم بروح العائلة الذي كان يلقى قبولاً ورواجاً في أوروپا في القرن العشرين.
جاء فوزه بجائزة نوبل في الأدب للعام ١٩٧٨ تتويجاً لمكانته الأدبية وذلك وفقاً لما ورد في حيثيات فوزه: بسبب فنه الروائي البليغ الذي يفيض بالعاطفة ويضرب بجذوره العميقة في التقاليد الثقافية اليهودية الپولندية، فيبعث إلى الوجود حالات إنسانية عالمية عامة الانتشار".
وفي كلمته التي ألقاها في حفل تسلمه جائزة نوبل في الأدب قال إسحاق باشيڨيز سينجر:
"إن الأديب في أيامنا، كما في أي عصر آخر، لابد له أن يكون ممتعاً للروح بأقوى إحساس للكلمة، وليس فقط كمن يُبَشِر بالمثاليات السياسية والإجتماعية. ومع ذلك فعليه أيضاً أن يكون معنياً بمشكلات جيله، ومنها تقلص قوة الأديان ووهن مؤسسة العائلة."
يلخص لنا المترجم المأساة والملهاة على غلاف الرواية في تلخيص وافٍ:
"أراد كل منهم رسم خلاصه الفردي في عالم يبدو كسفينة مثقوبة من جراء الحروب والإبادة والعنف. يحاول كل منهم أثناء البحث عن خلاصه فهم حقيقة الكون, تتوالى الأسئلة العظمى حتى نهاية صفحات الرواية لتصل إلى حقيقة أنه لابد وأن يكون هناك في موضعٍ ما, في مكانٍ ما, يُحفَظ فيه كل شيء يحدث في العالم, وإذا لم يكن هذا حقيقيًا فلسوف يكون الكون ناقصًا مشوهًا."