أخر الاخبار

رواية #وقالت_لي .. الفصل رقم 6 .. دعاء عبد الرحمن

 رواية  #وقالت_لي .. الفصل رقم 6 .. دعاء عبد الرحمن 


الفصل السادس : اختفاء


-1-


لم ينتظر المصعد, قفز درجات السُلم طابقًا ينتهي ليبدأ بآخر حتى وصل إلى طابقه المنشود, ظل يعدو بين أروقته حتى تراءى له جسد هشام من بعيد, كان يتحدث إلى طبيبًا خرج لتوه من حجرة مجاورة, أسرع الخطى وصدره يَنْهت بشدة من الانفعال والمجهود, مجهدًا نفسيًا أكثر منه بدنيًا, منذ أن تلقى الاتصال السريع من هشام قبل قليل, يخبره على عجالة بأن والدته بين الحياة والموت فى المشفى, طيلة الطريق وهو يُحضر نفسه لتلقى صدمة قاتلة له ولصديقه, وعندما رأى الطبيب يقف مع هشام هرول نحوهما بأسرع مما تكون الخطوات, واستقر واقفًا خلف صديقه واضعًا كفه على كتفه, التفت هشام إليه ثم عاد يلتفت إلى الطبيب الذى ألقى نظرة عابرة نحو عادل ثم تحول بعينيه واهتمامه نحو هشام مستكملاً الحديث الذى بدأه للتو:

- كما قلت لك يا أستاذ هشام, تحليل عينات الدم أثبتت أنهما تناولا عقارًا مُهلوسًا, والدتك لم تتحمل مضاعفاته, ولكن لا تقلق هى الآن حالتها مستقرة, ولكن ستبقى معنا هنا لعدة أيام قبل أن تخرج معك

تمتم عادل مصدومًا:

- عقار هلوسة !

لم يظهر على هشام أنه قد استمع لتعليق صديقه, فلقد كان يزدرد ريقه الجاف بجفاف حلقه وهو يتابع تساؤلاته:

- وزوجتى؟

عدل الطبيب من وضع عويناته قبل أن يُجيب بعملية مُنهيًا الحوار:

- بخير, وتستطيع أن تأخذها بمجرد أن تستيقظ .

ابتسم وهو يستدير ليغادر فلم يستطع عادل كتم انفعالاته أكثر من هذا, أدار هشام ليواجهه وهو يهتف بانزعاج:

- ماذا حدث معكم يا هشام, أي عقار مُهلوس هذا؟!

تمتم هشام وهو يتجه نحو أقرب مقعد ليرمي فوقه حمل جسده المنهك, الموشك على الانهيار بالكامل, مستندًا بمرفقيه إلى فخذيه, يتنفس, وهذه فى حد ذاتها مُعجزة, إنه يتنفس أخيرًا, لقد ظن بأنه قد فقد القدرة على التنفس منذ أن سقطت والدته أمام عينيه وحتى خرج إليه الطبيب ليطمئنه بأنها بخير, أخرج انفعالاته فى زفرة طويلة مؤلمة قبل أن يلتفت نحو عادل الذى جلس على المقعد المجاور له مائلاً بجذعه نحوه, عيناه مترقبتان لما سيخرج من بين شفتي هشام بقلة صبر, وبدأ يقص عليه ما حدث منذ دخول الشيخ عبد الفتاح النصاب إلى منزله بعد أن دفع له مئة جنيه عن الزيارة الواحدة, وحتى خروج والدته وزوجته إلى سيارة الإسعاف .

ضرب عادل ركبتيه بقبضتيه وهو يهتف بعصبية لم يستطع التحكم بها:

- النصاب, ابن الـ (.....) , كيف تُدخله بيتك يا هشام, كيف؟!

مرت أمامهما مُمرضة فى هذا التوقيت الخاطئ, فالتفتت نحوهما بتقزز وقد ضرب لفظ عادل أذنيها, وأسرعت خطواتها تتخطاهما بنفور.

وضع هشام يده على قبضة عادل المستقرة على قدمه, وربت عليه مُهدئًا وهو يقول بإنهاك شديد:

- سأُحرر محضرًا ضده فى الصباح, الآن أنا مقتول ذهنيًا يا عادل, أرجوك

استند كلاهما إلى ظهر مقعديهما فى صمت مطبق, كل منهما فى عالمه الخاص, هشام غائب فى زوايا عقله حيث ذكريات اليوم المؤلمة تـمر أمام عينيه بحركات بطيئة والافتراضات تغزوه من كل اتجاه متصورًا بأن عقار الهلوسة ذاك الذى وضعه عبد الفتاح مع الزعفران فى زجاجة المياه, كان بدلاً منه عقارًا آخر, ربما مُنومًا, ماذا لو أصر على أن يشرب هشام هو الآخر, كان ثلاثتهم سينامون منزوعي الإرادة وبصحبة نصاب ومساعدته, ترى ماذا كان سيحدث, نفض رأسه بقوة وهو يرفض تلك الصور البشعة التى مرقت بعقله, تضرب رجولته فى مقتل, عادل معه حق, هو السبب بلا شك, كان محقًا عندما قال له بأنه يفتقر إلى ميزة مواجهة مشاكله, ولا ينظر أبعد من أنفه, شعر بيد عادل تربت على كتفه وصوته الهادئ يتسلل إليه متسائلاً:

- أين جنى و لُجين الآن؟

اكتفى هشام بالنظر بطرف عينيه وهو يجيبه بخفوت:

- هذه ميزة الأحياء الشعبية يا عادل, عندما وقفت سيارة الإسعاف أمام المنزل ورأى الجيران والدتي وزوجتى يدخلان إليها, أصرت أكثر من جارة لنا على اصطحاب بناتى معها فى بيتها, والحمد لله لقد كانتا نائمتين أثناء كل هذا فى شقة والدتي بالأسفل فلم يشعرا بشىء, وفى النهاية استقرتا عند زوجة ياسين جارنا, أنت تعرفه

أومأ عادل برأسه مؤكدًا بوهن قائلاً:

- نعم, وٍسأمر عليه لآخذهما معي إلى بيتي حتى تتحسن صحة زوجتك

رفض هشام رفضًا قاطعًا بعد أن شكره مُمتنًا, فزوجته ستعود معه بمجرد أن تستيقظ من النوم على إثر المُهدىء الذى حقنها به الطبيب وقد كانت حالتها يرثى لها وهى لا تتوقف عن الهذيان والقىء .

وأخذ يُمني نفسه بكل ماهو جميل, سيعود كل شىء على ما يرام, ستتعافى زوجته وبعد أيام ستخرج والدته من المشفى وقد استعادت صحتها, وترجع بناته إلى دار الروضة وستتحسن حالة تأخر الكلام لديهما ويُصبحا مثل أقرانهما فى تلك السن, سيبتاع نفس المجلة بعد صدور العدد القادم منها وسيجد أنه لا رسائل أخرى تحمل عنوان " قالت لي", نعم, سيكتشف بأنها كانت مجرد مُزحة, مزحة سخيفة لا يعلم مصدرها, كل شىء سيكون بخير, لاشك فى ذلك!

***

فى اليوم التالي عادت جدايل بصحبته إلى بيتها, ولكن رافضة لأى تواصل معه, ترفض حتى التواصل البصرى ولو بنظرة واحدة, أخذت الفتاتين من بيت ياسين شاكرة زوجته ثم صعدت حيث شقة حماتها, أصرت على عدم الصعود معه لشقته, انفصلت عنه انفصالاً تامًا لأيام, لم يرها فيها إلا أوقاتًا قليلة جدًا, إما عندما يأتي بعد عودته من العمل ليلاً ليرى بناته لدقائق قبل أن ترفض هى أن ينام معهن بنفس الشقة, أو عندما تذهب لزيارة والدته فى المشفى وفى نهاية الزيارة ترفض أن يُقلها بسيارة اجرة إلى المنزل وذلك فى المرات الشحيحة التى تصادف تواجده مع حضورها هناك .

وكعادته انتظر, انتظر حتى تُحل الأمور من تلقاء نفسها مع الوقت وكأن شيئًا لم يكن, غافلاً عن الاشتعال الذى يزيد بتجاهله لشرارته وتركها تُطفأ وحدها!, هل هذا هو الإهمال التى كانت هالة تتحدث عنه فى وصيتها, الإهمال القاتل, مُشعل الحرائق, ضاربًا كعادته عرض الحائط معرفته الحديثة بأن طرق باب قلب الأنثى يستلزم قبله حمل حقائب الإهتمام.

***

وجاء اليوم الذى كان ينتظره بقلق, يوم صدور العدد الجديد من المِجلة, لم يكن فى كامل تركيزه ذاك اليوم أثناء عمله, ذهنه مُشتت تمامًا لدرجة أن استرعى انتباه عادل من شدة شروده, عيناه واظبتا على مراقبته وكأنه مشهد لا يريد تفويت تفاصيله, وقبل نهاية اليوم حاول أن يسأله بخفوت عن السبب, معتقدًا أنه ربما ساءت حالة والدته الصحية ولكن هشام طمأنه بأنها بخير وأن الطبيب سمح لها بالعودة غدًا إلى المنزل.

كم يحب اهتمام صديقه بما يؤرقه, وكم يكره قيامه بتسليط الضوء على المشكلة الحقيقية بداخله!, لم يكن بمقدور عادل الضغط عليه ليتحدث أكثر من هذا, فهو أيضًا يعيش نوعًا من التوتر مع زوجته رؤى دون سبب واضح, وبرغم إصراره عليها يوميًا أن تحكي له ماذا يوترها, فتبدو وكأنها ستتحدث, وقبل أن تنطق بحرف واحد تُغلق شفتيها وتدعي حاجتها للنوم, زفر ببطء طاردًا جميع انفعالاته المُطردة, والتفت نحو هشام الجالس على المقعد الجلدي خلف مكتبه ومال بجذعه نحوه

ثم قال بخفوت:

- مواعيد العمل شارفت على الإنتهاء, ما رأيك لو تنصرف الآن, فأنت ستُسافر باكرًا ولابد وأن ترتاح جيدًا

سقطت عبارته على منطقة حيوية برأسه يُفكر بها منذ أن جاء إلى العمل صباحًا, متى سيغادر ليبتاع المجلة؟, بل متى سينفرد بنفسه ليبحث فيها عما لا يريد أن يجده؟!, تبرعت عيناه بالإجابة رافقها تحرك جسده وهو ينهض على الفور و يومىء برأسه بتعب مُدلكًا عنقه المُجهد وهو يقول:

- أنا فعلاً فى حاجة شديدة للراحة استعدادًا للسفر

جمع أوراقه المُبعثرة بإهمال فوق سطح مكتبه يَضمهم إلى بعضهم البعض بداخل أحد الدفاتر, ثم أغلق خزانة المُستندات بإحكام قبل أن يلتفت إلى عادل مُحييًا إياه وهو يغادر إلى أقرب بائع جرائد ومجلات يقابله فى طريقه .

***

منذ أن ابتاعها وأمسكها بيده وهى تقذفه بين هواجسه المتوالية, تُشعل فتيلها شيئًا فشيئًا, حتى قرُب صبره على الانفجار, وعندما وصل إلى المنزل لم يمر على شقة والدته كالعادة, لم يكن باستطاعته مُمارسة الانتظار أكثر من هذا !.

وفى غرفة نومه وفوق فراشه استلقى بكامل ثيابه, لم ينزع عنه سوى حذائه فقط, الأمر بالنسبة له حياة أو موت, كمن تأتيه رسائل من قاتل مجهول, وفى كل رسالة يجد بها علامات ترشده إلى شخصيته الحقيقية!, بدأ يُقلب صفحاتها بقلة صبر, حتى توقف أخيرًا أمام صفحة بريد " بين الناس" التهمت عيناه السطور حتى سقطتا على ما لم يتمنَ يومًا مُعاينته, الرسالة الثانية منها إلى الصحفى عبدالخالق مروان, تحت عنوانها التى اختارته فى السابق" قالت لي" :

هل تعرف سيدي قول الكاتب آرثر ميللر عن هؤلاء الأشخاص الذين يُفضلون أن يُشنق الجميع على أن يوجه إليهم عتاب ما أو يعترفوا بأخطائهم؟!, أحد هؤلاء الأشخاص هو زوجي!, فعندما كانت تتكاثر بصدري أفعاله حتى تتعاظم ولم أعد قادرة على حجبها بداخلي أكثر من هذا فأعاتبه عليها, وقتها كنت أشاهد وجهه يحتقن بالضيق, قبل حتى أن يفهم مشكلتي الحقيقية, يُغلق قلبه عن سماع بقية عتابي ويترك عصبيته تُنصت لي وحدها, نظراته تتحول إلى صخر, وكأنه لايراني أمامه فى تلك اللحظة, فقط يرى أخطاءه تتجسد فيِّ, فتكرهنى عيناه بشدة, ثم يحدث الانفجار!

انفجار يطيح بي وبه, يُبعثر أشلاء سنوات قضيتها معه, فى خدمته, وفى محراب حبه, والآن أتساءل, ماذا لو كان يسمعنى وقتها بقلبه, ماذا لو تفهم عتابي, ماذا لو تحركت شفتاه بكلمات تروي صحراء حبي القاحلة, بدلاً من دبيب الصمت الذى يُمعن فى قتلي به !, أتعلم سيدي أن فى تلك اللحظات كان للصمت عندى ضجيج يثير أعصابي ويُفقدني ما تبقى لدي من تعقل!, لا لأن الصمت هو من يؤذيني فى حد ذاته, بل لأنه كان يلتهم مني كل صبر وأنا أنتظر كلمة واحدة منه تُطفىء النار المشتعلة بروحي!, صبر مغموس بالانتظار الذليل, كـكلب يلهث ينتظر أن يُلقي إليه سيده بِفُتات طعامه .

ولم يكن يفعل!, ومن شدة عجزي وقهري منه ذات ليلة, أتيت بسكين وحززتُ أطراف شعري حتى شعُرت بألم مُبرح يغزو فروة رأسي, ثم وضعت شعري المُمزق على شاشة هاتفه وهو نائم, أعلم أنها حالة جنونية أصابتني ولكن الجنون الأكبر أنه عندما استيقظ ليأخذ هاتفه أزاحه بعيدًا وتناول إفطاره وذهب إلى عمله, لم يُكلف خاطره بإلقاء نظرة علي ليتفقدني هل أنا على قيد الحياة أم لا !, وكأن قهري أصبح من المُسلمات البديهية لديه !.


أعلم أنك ربما تُفكر أو أحد قراءك, لماذا لم أطلب فراقه؟, لماذا وقد استحالت العِشرة بيننا إلى جحيم صامت؟, ذاك السؤال طاف بذهني ذات يوم وألحّ عليِ بقوة حتى كدتُ أن أتخذ قرارًا به, ولكننى توقفت فى لحظة صدق أمام المرآة, أنظر إلى نفسي, امرأة تجاوزت الثلاثين وطفلتان, أنفقت كل ما تملك على شقته والأثاث المتواضع بها, نبذها أهلها بسببه, نبذها هو شخصيًا, عاطلة لا تعمل!, ترى ماذا ستتحصل فى النهاية إلا على ضياع كامل, فى مجتمع يُحَمل المرأة المُطلقة كل الأسباب, كل العيوب, بل ويطمع بها أيضًا !.

أما الآن ومع زوجته الجديدة "جيم" فهو متفهم للغاية, مُحتضن لها ولمشاكلها, أتعرف بأنه أحضر إلى المنزل رجلًا نصابًا ليمنعني عنها!, وأنا كنت بينهم, أُشاهد وأضحك, كان مشهدًا مثاليًا لتسليتي بالفعل, كان يستحق ما حدث له فى النهاية, وسيستحق ما سيحدث له بعد ذلك, فلقد قررت أن أُنهي تلك اللعبة بطريقتي .

لماذا هو ينعم معها بينما كنت أنا كنت أتعذب لديه, لابد وأن يفقدها ليشعر بما شعرت به يومًا, يشعر بالعجز, بالقهر, بالذل, ولن يجدها ثانية .

كنتُ أُحب أن يكون السلام ختامي, ولكن تلك الكلمة غريبة عندما تبحث عنها بين دفتي أيامي .

ظل هشام يقرأ ويقرأ وانتهت سطور رسالتها فى اللحظة التى اكتشف فيها أن غلالة الدموع فى عينيه أصبحت ثقيلة للغاية, ثقيلة لدرجة تجعله يُجهد بصره فى النظر إلى السطور القليلة التى كتبها عبد الخالق مروان تعليقًا على رسالتها:

- حالة يزيد تفردها تفردًا, حالة مجهولة الخطر, سقت أطراف مشاعري وتفكيري إرباكًا من نوع خاص, يُغري حاستي على التمعن بها أكثر في محاولة لفهمها, بل ومحاولة مراسلتها لتكتب أكثر وأكثر عن نفسها, وعليه فلن أتوجه بنُصح إليها الآن, سأجعل قلمي مُحايدًا وهو يوجه حروفه نحو بعض الأزواج من هذا النوع, وإليهم أقول :

- ارفع رأسك أيها الزوج وانظر إلى المساحات الشاغرة, فى قلبك, ومن حولك, وابحث عن زوجتك, تخطى جدار الصمت الذى علا بينكما يومًا بيوم, فلربما تجد هناك "هاء" أخرى تبكي نبذها بقهر.

أسدلت عيناه ستائر جفونها وسقطت المجلة فوق وجهه, لقد أيقن بأنها كلمات هالة, ولغرابته لم يرتعب كما المرة الأولى, حتى وإن شعُرَ بها حوله فى تلك اللحظة, حتى وهى تقول بأنها لن تتركه ينعم بسلام, رفع رايته واستسلم لأي شىء, المهم أن ينتهي كل هذا ! عرض أقل


الفصل السادس : اختفاء

-2-

استيقظ فى الصباح وهو لايعرف كيف سرقه النوم بالأمس, كل ما يتذكره آخر كلمات قراها وأغمض عينيه دون أن يشعر, بينما سقطت المجلة فوق وجهه تفصله عن العالم, نهض فجأة كالملسوع وهو يهتف باسم " جدايل", شىء غامض بداخله نبت فجأة لا يعرف ما هو, كل ما يعرفه بأنه يخبره بأن حياته أصبحت, ناقص واحد !, شىء اختفى, وربما إلى الأبد !.
نظر إلى ساعة معصمه العالقة بيده منذ أمس, لقد تأخر كثيرًا, كان يجب أن يكون فى طريقه إلى محطة القطار الآن, لم يفعل شيئًا سوى أن ضرب وجهه بعدة دفعات من الماء وهو منحنٍ أمام الصنبور, ثم انطلق يرتدي حذاءه على باب شقته ويهرول على الدَرج, كان لابد من أن يطمئن عليها وعلى فتاتيه ولو لدقيقة واحدة, فتح الباب بمفتاحه الخاص وأخذ يتلفت حوله وهو ينادي عليها بنبرة منخفضة, ولكن لم يُجبه إلا الصمت المُطبق, حدث نفسه بأنها ربما تكون نائمة فالوقت مازال باكرًا جدًا وموعد دار الروضة لم يحن بعد, كاد أن يُغادر ولكن آخر عبارة برسالة هالة قفزت إلى ذهنه ودفعت قدميه للبحث عنها بجميع الغرف, لا أثر لأي منهن بالشقة على الإطلاق, وقف بمنتصف الرُدهة يحاول طرد الأفكار السيئة عن عقله, ربما ذهبت لزيارة والدته بالمشفى؟, أم ؟, أم ماذا !, إلى أين ستغادر فى تلك الساعة؟!.
أغلق الباب خلفه بتوتر وعاد يقفز درجات السُلم مُحددًا المشفى هدفه وبالتأكيد سيجدها هناك!, اصطدم رغمًا عنه بجاره ياسين الذى كان يخرج من شقته فى ذلك الوقت متوجهًا إلى عمله, فابتسم ياسين له وهو يلحظ حالة هشام المرتبكة المُشعثة وقال بحماس:
- أستاذ هشام!, صباح الخير
تجاوزه هشام وهو يرد تحيته سريعًا ولكنه توقف فجأة عندما سمع ياسين يقول من خلفه:
- لا تقلق على بناتك, وبالله عليك حاول أن تُطمئننا على والدتك إذا كان لديك متسع من الوقت
استدار هشام إليه ببطء وقد قطب جبينه بدهشة, لم يستوعب ما قاله ياسين للتو, أو ربما يرفض الاستيعاب:
- ماذا؟!
تابع ياسين والحيرة تنازع القلق فى ملامحه وتفرض سيطرتها:
- وأنا عائد من صلاة الفجر وقبيل الشروق وجدت زوجتك تقف أعلى السُلم شاردة, مُثقلة بحمل الفتاتين فوق كتفيها حتى كادت أن تسقط بهما, حملتهما عنها وسألتها عن وجهتها فى وقت كهذا فلم تُجبني, وغادرت وهى فى حالة يرثى لها, فتوقعت أن تكون حالة, والدتك ..
ذابت كلماته الأخيرة بين شفتيه وهو يواجه ملامح هشام التي تتوالى عليها الانفعالات تترا, محاولاً إخضاع ذهنه لمنطق مفهوم لما يحدث, وذراعه ترتفع تلقائيًا لتسنده إلى الحائط بجانبه قبل أن يُتمتم برجاء خافت:
- من فضلك, اعتني بهما حتى عودتي, وإذا حضرت زوجتي فى أي وقت اتصل بي على الفور
ثم غادر سريعًا بعد أن أومأ له ياسين موافقًا بإشفاق, أسرع يعدو تجاه أول سيارة أجرة استجابت لإشاراته, وبمجرد أن استقر بداخلها حتى أخرج هاتفه مُجريًا اتصالًا بصديقه مُخبرًا إياه بما حدث بصوت متقطع وبغير تركيز, فقال عادل على الفور وهو يمسح وجهه بيده الأخرى, محاولاً إيقاظ حواسه التى كانت مازالت نائمة:
- لا تحمل همًا يا هشام, عندما تصل إلى المشفى وتطمئن على والدتك وزوجتك اتصل بي, واذهب انت حتى لا تفوت قطارك, وأنا سأتكفل بالأمر.
أبواب المشفى كانت مُغلقة إلا من الأبواب الخاصة بالعيادات الخارجية المُلحقة بها فقط فموعد الزيارات لم يحن بعد, دخل من تلك الأبواب وظل يعدو بين أروقتها الطويلة يمينًا ويسارًا ثم استقل المصعد المؤدي إلى الطابق المنشود, انطلق مباشرة من المصعد بعد توقفه, حيث غرفة والدته, دلف إليها ببطء برأسه أولاً وهو يدعو أن تكون جدايل قد اتخذت نفس الطريق إليها, ولكن عينيه صُدمت بالسرير المُرافق لسرير والدته خاليًا, ولا يوجد أحد غيرها بالغرفة, وهى سابحة فى نومها, انتفض عندما شعر بيد توضع على كتفه ثم صوت أنثوي يقول:
- ماذا تفعل هنا فى تلك الساعة
التفت مستديرًا للخلف فوجدها الممرضة المسؤولة عن هذا الرواق بكل المرضى الساكنين غرفه, زفر بتوتر ثم قال بخفوت:
- هل تعرضت والدتى لمضاعفات بالأمس
زمت المُمرضة شفتيها وهو تهمس حانقة:
- كنا سنتصل بك لو حدث ما تقول, والدتك بخير وستخرج اليوم ولكن ليس فى هذه الساعة بالتأكيد
سألها عن زوجته فأجابت بنفس الحنق أنه أول شخص تراه اليوم فى الرواق بأكمله, ثم طردته من الغرفة وهى تتوعد رجال أمن البوابات المتساهلين!, خرج من المشفى بنفس الطريقة التى دخل بها, هاتفه ملتصق بأُذنه فى محاولة ربما تجدي نفعًا, ولكن الهاتف القاطن ببيت عمها انقطع رنينه مرات ومرات ومازال لا يرفع سماعته أحد, يكاد يُجن, نظراته تموج بين الهاتف وساعة معصمه, لم يتبق الكثير, لابد وان يتصرف, لم يكن أمامه حلّ آخر سوى إجراء اتصالٍ أخير بـ عادل ليطلعه على التطورات ويرجوه أن يُسافر بدلاً منه فكلاهما يستطيع تنفيذ المهمة.
***


بحث عنها فى كل مكان من المُمكن أن تتواجد به, واتصالاته المُتكررة بمنزل عمها لم تتوقف, ولكن دون فائدة, إن كانت لم تذهب إليهم فلماذا لا يجيب أحد على الهاتف على الأقل, الاتصالات لا تجدي نفعًا!, الطوابق التى صعدها بتردد بصحبة والدته من قبل يصعد سُلمها الآن قفزًا, طرقات وطرقات ولكن لا مُجيب أيضًا, مازالت الرسومات على الحائط المجاور للشقة تستفزه وتُثير غيظه أكثر, فُتح باب الشقة المقابلة وأطلت منها رأس امرأة أربعينية بملامح متحفزة, ومن بين حافتي الباب ظهرت يدها تحمل منفضة غبار, هاتفة بعصبية:
- من أنت وماذا تفعل ؟
استدار إليها محاولاً الاعتذار بتوتر ولكنها لم تصمت أو تتراجع وهى ترمي باعتذاره عرض الحائط بتصميم شديد على أن يُعرف نفسه, لم يشأ أن يدخل معها فى جدال طويل, فالمنفضة فى يدها المُمتلئة تُنبىء عن قوة سلاح لم يختبره بعد!, فقال بأدب:
- أنا هشام, زوج جدايل التى تسـ,
لم تُمهله ليستكمل عبارته, ولكن هجومها هذه المرة مختلف وقد تغيرت ملامحها إلى الترحيب والتبسط, حاول بشق الأنفس مقاطعتها والسؤال عن جدايل وعمها, فأجابته بدهشة وهى تُلوح بالمنفضة:
- لقد سافروا بعد زواجكما يا أستاذ, ألم تكن تعلم؟!
من المؤكد أن هذا هو اليوم العالمي للدهشة والمفاجآت, متى سافروا؟ وإلى أين؟ تلك التساؤلات مرت من عقله إلى شفتيه فلم تزد المرأة إلا تعجبًا وهى تقول مُثرثرةً:
- والله لا علم لي يا أستاذ, ولكن زوجة عمها أخبرتني أنهما فى الأساس مستقرين فى الخارج منذ سنوات طويلة مع أولادهما الكِبار ولم يأتوا هنا إلا لإجازة قصيرة, فهما لايستطيعان ترك أولادهما أكثر من هذا وحدهم
يُصر هذا اليوم على أن يفقده عقله, لو كانت ما تقوله المرأة ذات المنفضة صحيح, فكيف قال له عمها بأن جدايل تعيش معه منذ أن فقدت والديها, جمعت المرأة شتات أفكاره مناديةً باسمه, رفع رأسه تجاهها دون تركيز, فقالت تسأله بفضول:
- لماذا تطرق الباب, هل ضاع منك المفتاح؟!
أجابها بنفاذ صبر بعد أن أرسل زفرة طويلة ربما تعود إلى شقتها وترحمه:
- ولماذا يجب أن يكون معي مفتاح؟
بعفوية وبتلويحة أخرى من منفضتها وكأنها توبخه:
- لأنها شقة زوجتك, ويجب أن يكون معك مفتاحًا احتياطيًا, أهذا أفضل أم تصديع رؤوسنا بطرقاتك على الباب؟!
شقتها وليست شقة عمها؟!, مفاجأة أخرى أدارت رأسه وجعلته يشك بكل شىء كان يعلمه من قبل, جعلته يشير إليها أن تتوقف قليلاً ويسألها محاولاً الفهم:
- هل أنتِ متأكدة بأنها شقة جدايل وليست شقة عمها؟
زفرت بضيق وعلا رنين هاتف منزلها فنظرت للداخل ثم التفتت نحوه مُجددًا وهى تُخرج من صدرها مجموعة مفاتيح مجموعين فى سلسال من خيط الصوف, بأسنانها فكت عقدة الخيط وأخرجت منها مفتاحًا وحيدًا وعادت تربط الخيط من جديد, مدت له يدها بالمفتاح وهى تقول على عجالة:
- زوجة عمها تركت لي نسخة من المفتاح لأي طارىء, تفضل خذه, أنا غير متفرغة لكل من هب ودب.
ألقت له المفتاح فتلقفه قبل أن يسقط وقبل أن يعود بنظره المذهول إليها كانت قد عادت للداخل مُغلقة الباب فى وجهه بنزق !.
ظل مُتجهمًا مكانه للحظات, وأخيرًا استطاع التحرك نحو الباب, أدار المفتاح وبسهولة كان داخل الشقة, لم يرى من تلك الشقة سابقًا سوى جزء من الردهة وغرفة الاستقبال التي دخلها أكثر من مرة بعد أن رآى جدايل فيها لأول مرة, بتوجس دلف من غرفة إلى أخرى, رائحة الفراغ من حوله تخنق أفكاره وتُشتتها أكثر, الآن هو فى غرفة ضيقة بسريرٍ خشبي صغير, ومكتب خشبي أصغر منه, خلفه مقعد له أرجل رفيعة للغاية خشي أن يجلس فوقه فيحطمه, يده تعبث بلا هدف فوق سطح المكتب باحثًا عن شىء يدله فى متاهته تلك التى دخلها بإرادته, أي إشارة لطريق العودة!, لفت نظره دفتر صغير مألوف لديه, اسم ابنته جنى المُدون عليه وفر عليه الكثير من محاولة تذكر أين شاهده من قبل, بمجرد أن أمسكه بين يديه تذكر كل شىء, إنه الدفتر الذى كتبت فيه هالة وصيتها له, وأخذته والدته من يومها ولم يره, هل خبأته لدى جدايل؟!.
قلب صفحاته بشرود حتى وقعت عينيه على الرسالة التى كتبتها هالة وتركتها لـ جنى و لُجين, لم يقرأها تفصيليًا من قبل, فقط وقعت عيناه على بعض كلمات مُكررة منها, بدأ يقرأها من البداية وحتى نهايتها حتى وقعت عيناه على جملة لم يكن ليلحظها فى ظروف أخرى "ولقد وصيت جدتكما أن تحتفظ بكل أشيائى لكما, لم أستثنِ إلا حجابى الرمادي, فهو لمعلمتكما رؤى التى ستُصبح أمًا لكما بعد وفاتى, لقد خصصتها به لعدة أسباب, الأول لأنني أردت دعوتها بشكل غير مباشر لارتداء الحجاب, والثاني لأنه يليق جدًا بعينيها الرماديتين"!.
***
مال عادل باتجاه رؤى التى بجواره بداخل القطار يتأملها وهى تنظر من نافذته بشغف كبير, عندما فاجأها صباحًا بسفره السريع تشبثت به وهى ترجوه أن يصحبها معه فهى لم تزر الإسكندرية من قبل, وبرغم برودة الجو إلا أنه لم يستطع رفض رجاء عينيها وإلحاح كلماتها, كل ما استطاعه هو أن يؤكد عليها بأنها ستكون وحدها فى الشقة التابعة للشركة طيلة النهار تقريبًا, فالمُهمة فى الأصل مهمة عمل, وهى وافقت بسعادة, ستجلس فى الشرفة تُشاهد البحر وأمواجه العالية فى هذا الفصل من السنة وستتجمد أطرافها, ولكن لا يُهم, المُهم أن تراه ولو من بعيد, رحبا والداه وبالأخص والدته باستضافة طفله حتى يعودان فى الغد, وهاهى تجلس فى المقعد المجاور تستمع بكل ما يمر بها من حقول وحيوانات حتى أعمدة الإنارة المُطفأة !, همس بأذنها مُداعبًا:
- سعيدة يا زيتونة ؟
التفت نحوه بنزق وهى تلكزه بخفة فى ذراعه:
- توقف عن مناداتي بزيتونة, وإلا رميتك من القطار الآن
ضحك بخفوت وهو يرفع كفيه باستسلام, وبنبرة خاصة تُحبها قال:
- وهل ذنبي أن عينيكِ سوداء سواد الليل يا زيتونة
أطرقت برأسها بخجل فوضع أنامله أسفل ذقنها ورفع رأسها مُتابعًا بعتاب وقد وجدها فرصة سانحة:
- ألن تقولي لحبيبك ماذا تُخبئين بقلبك
ألقت نظرة سريعة إليه فلاحظ غلالة من الدموع بدأت تتجمع بعينيها, مسح وجنتها بحنو ودفن كفها بداخل راحته الكبيرة وهو يربت عليه بمساندة و يحثها على الحديث قائلاً:
- تأكدي أن ما تداريه عنى لن يُغير من حبي لكِ شيئًا مهما كان
أدلهمت عيناها بُسحب تنذر بهطول دمعها وتفضح شعورها بالذنب تجاهه وقالت بصوت خافت مُتقطع:
- هل تعدني؟
أومأ برأسه بثقة مؤكدًا لها صدقه, وصدره يضج فى انتظار تلك الحقيقة التى تخشى أن تبوح بها بقلة صبر استطاع أن يُداريها حتى لا تتراجع, وهو يُتمتم بقوة:
- أعدك حبيبتي
سَمِعَ تنهُداتها الناعمة المضطربة قبل أن تميل برأسها نحو كتفه وتقول بخفوت:
- ولكن لا تُقاطعني أرجوك, هل تذكر اليوم الذى عدتَ فيه من عملك فوجدتني أرتعش وأبكي واختبأت فى حضنك؟, لقد كذبتَ عليك هذا اليوم عندما سألتني, أنا لم أفقد وعيي فى المتجر كما قلت لك ولم أقض اليوم مع عاملاته, لقد, لقد كنت عند جدتي فى منزلها
أنتفض بعنف فى مقعده وهو يستدير نحوها بجسده كله هاتفًا دون وعي:
- ثانيةً يا رؤى؟, تذهبين دون أن تُخبريني!, وماذا حدث هناك, تكلمي
علا صوت نشيجها وهى تُجيب متألمة:
- كيف أُخبرك وأنت ترفض أن أذهب هناك, جدتى هى من ربتني يا عادل ولا أستطيع تركها هكذا وقد بلغ بها المرض بأنها أصبحت مُقعدة ولا تستطيع حتى تناول دوائها, وهى كل ما ترجوه أن أُجالسها وأُطعمها, أُسليها ببعض الحكايا
ضغط كفها الذى مازال يسكن راحته بضعف وهو يقول بعصبيته التى اعتادتها منه عندما يغار بشدة:
- وهل تلومينى, ماذا لو صادف وجود ذاك الحيوان "خالك" هناك ماذا كان سيحدث حينها؟
ارتجافتها ذكرته بهيئتها عندما عاد إلى بيته ووجدها ترتجف فقال بعنف بعد إدراك متأخر:
- هل كان هناك ذاك اليوم, هل تعرض لكِ من جديد؟
أنبأه اهتزاز كتفيها بوضوح وهى مطرقة برأسها للأسفل تكتم شهقاتها براحتها الأخرى بأنها تبكي بشدة, ولا تستطيع التوقف, هو يعرفها, هى زوجته ويعلم كل خلجة بها, لا تنهار هكذا إلا إذا تعلق الأمر بذاك الخال الحقير, الذى لم تمنعه صلة القرابة من أن يستغل وحدة ويُتم ابنة أخته المتوفاة, ويُحاول التحرش بها مرة بعد أخرى, إلا إنها كانت تُدافع عن عفتها بضراوة, لا يُنكر عادل فى بداية ارتباطه بها أنه كان مُتفاجئًا بعض الشىء من موافقتها السريعة على الزواج ولكن تلك المُفاجأة لا تعنى شيئًا أمام ذهوله وهى تصارحه بتلك الحقيقة, وترجوه بأن يُعجل بالزفاف, لتخرج من هذا البيت بأسرع وقت, فبالرغم من حبها لجدتها التى ربتها إلا أنها كل يوم تنام مرتعبة مما يُمكن أن يحدث لها فى الغد, لذلك منعها بعد أصبحت فى بيته من زيارة جدتها وشدد على ذلك, الحالة التى تعانيها الآن تعنى بأنها قابلته فى ذلك اليوم, ترى ماذا فعل بها؟!.
ترك كفها وقبض على كتفيها وهو يُديرها نحوه قدر استطاعته, هاتفًا من بين أسنانه:
- أقسم بأن أقتله, تكلمى يا رؤى ماذا حدث منه
فلتت منها شهقة ثانية ثم ثالثة وأصابعه تنغرز دون أن يشعر بكتفها فتؤلمها فقالت وهى تتألم:
- لقد قال لي بأننى الآن ليس لدي ما يمنعنى عن قبول عرضه بعد أن تزوجت, وحاول لمسي وأنا خِفت, خِفت بشدة يا عادل, كانت عيناه دموية مُرعبة, لم أشعر بنفسي إلا وأنا أضربه على رأسه بزجاجة الماء, فسقط أسفل قدمي مُدرجًا بدمائه, تصورت وقتها أننى قتلته, ولكنه أُصيب فقط.


أتمت عبارتها وقد فقدت القدرة على كتم شهقاتها فالتفت نحوهما من يجلسون فى المقاعد المجاورة بفضول, ولكنه لم ينتبه إلا لها هى فقط, ترك كتفيها وضمها إلى صدره بقوة وهو يسبه ويتوعده بالقتل, أنفاسه ملتهبة حارقة والغليان يعلو بصدره وأفكار شيطانية توسوس له بالعودة إلى القاهرة وتمزيق قلبه بيديه العاريتين, دفنت رأسها بصدره بقوة وهى تُحركها وتقول برفض, مُبللةً سترته بدموعها المنهمرة على قلبه تحرقه:
- لا تفعل يا عادل أرجوك, لا تجعله يأخذك مني, أنت كل ما تبقى لي فى الدنيا, أرجوك سامحنى أننى ذهبت دون علمك لم أكن أعلم بأنه يتواجد فى تلك الساعة, جدتى مريضة وأنا لا أريد إغضابك فماذا أفعل؟
سكت لدقائق طويلة وتركها تُفرغ كل دموعها على صدره وعندما هدأت قال بصوت عميق جدًا, وكأنه آتٍ من عمق بئر سحيق:
- أُسامحك حبيبتي, جدتك سأنقلها إلى بيتنا لتقومي برعايتها كما تُحبي, أما ذلك الحقير فلن يفلت من يدي
رفعت رأسها إليه والامتنان يتقافز بعينيها المتورمتين من البكاء, استطاع رسم ابتسامة واهية على شفتيه لطمأنتها ولكنه وجدها تُطرق مرة أخرى برأسها قبل أن تجلد نفسها قائلة:
- ولكن, أنا لا أستحق ما تفعله معي, لقد خدعتك!
أمسك وجهها ورفعه لتنظر إليه, وهو يشعر بأنه لم يسمعها جيدًا:
- ماذا ؟!!
أعادت رأسها إلى صدره تحتمى منه به, وهى تقول مُعترفة بُجملٍ غير مُترابطة:
- صدقنى أنا لم أكن أقصد, لم أنوِ خداعك, كنت فقط أريد ترك بيت جدتى, كنت أخشى على نفسي لذلك سكت, اليوم الذى رأيتنى فيه للمرة الأولى فى دار الروضة التى أعمل بها وفاتحتنى فى الزواج, أنا علمت بعدها بأنك لم تكن تقصدنى أنا, كنت تقصد رؤى أخرى, غيرى !! عرض أقل


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-