أخر الاخبار

رواية #وقالت_لي .. الفصل رقم 3 .. دعاء عبد الرحمن

 رواية  #وقالت_لي .. الفصل رقم 2 .. دعاء عبد الرحمن 

روايات دعاء عبدالرحمن ـ مشاعر غالية

23 أكتوبر 2017  · 

#وقالت_لي


الفصل الثالث : اقتران


عادت والدة هشام إلى منزلها بعد أن تركت رؤى على حالتها المُحبطة تلك, وبرغم تعاطفها معها إلا أنها وجدت نفسها تذهب من فورها إلى مركز العلاج الطبيعي حيث عبير وفتياتها الكُثر من حولها, فمصلحة ولدها فى المقام الأول, والمسؤولية الملقاة على عاتقها أكبر عندها من الجميع, ومن أجل العلاقة القوية التى استطاعت والدة هشام تكوينها مع عبير فى الفترة الماضية, استمعت لها الأخيرة للنهاية بصبر ثم وعدتها بصدق بالبحث الجاد لها عن زوجة مناسبة, ضربت عصاها على الدرج وهى تتكأ عليها بشرود مستندة إلى بعض الأمل لتصعد الدرجات إلى حيث شقتها وعندما أدارت المفتاح فى الباب سمعت خطوات سريعة تصعد إلى نفس الطابق, التفتت عاقدة حاجبيها ثم ما لبثت أن انفرجا بانشراح وتغضنت زوايا عينيها بابتسامة مجعدة وهى ترى (عادل) صديق ولدها يقفز السُلم برشاقة صعودًا بجسده النحيل ويبتسم لها وهو يُحييها بمرح:

- وأخيرًا التقينا يا جميلة !

ضحكت والدة هشام وهى ترحب به بشدة وتدعوه للدخول, عادل هو الوحيد القادر على إضحاكها بمرحه المعتاد, تحبه كولد ثانٍ لها وتتعجب دومًا من قدره المُشابه لقدر هشام فى كل شىء تقريبًا, هو أيضًا رحلت عنه زوجته وتركت له طفل حديث الولادة وقد فاضت روحها إلى بارئها أثناء ولادته, الفارق الوحيد بينهما أنه وزوجته كانا عاشقين, وبعد فراقها رفض كل حديث عن زواجه بآخرى, لم يكن يتصور امرأة أخرى بجواره بعد حبيبته الراحلة, وانشغل بالاعتناء بطفله بمساعدة والديه, حتى هذه اللحظة !.

عندما دعته للجلوس فى الداخل وهى تستعد لدخول المطبخ لإحضار مشروب له أوقفها رافضًا ثم سأل عن هشام فتنهدت بأسى وهى تشير برأسها للغرفة الداخلية:

- نائم كالعادة بجوار بناته

استدارت لتعود إلى المقعد المجاور له وهى تستند كليًا على عصاتها بكلتا يديها ثم تركن بذقنها إليهم متابعةً بعدم رضا:

- بعد عودته من العمل يقضي معظم يومه نائمًا كما ترى يا ولدى

ارتكز عادل إلى فخذيه بمرفقيه وهو يطرق بكعب حذاءه الأرض قليلاً متمتمًا:

- أصبحت أعصابه على المحك, كل يوم يفتعل مشكلة ما مع أحدهم

ناظرته بقلق بينما هو ينهض ويأتى بمقعد خشبى عتيق يضعه أمامها بشكل عكسي ثم يجلس فوقه مواجهًا لها محاولاً الحديث بجدية:

- اسمعي يا خالتي, لابد وأن تزوجيه, إن تزوج حُلت مشاكله تمامًا صدقيني

لمعت عيناها ساخرة وهى تشير إليه بذقنها هاتفة:

- انظروا من يتكلم !!

رفع كلتا يديه باستسلام مدافعًا عن نفسه:

- لا لا لا, خالتى أنا مُختلف

- بل أنت مُتخلف

حاول ألا يقهقه بقوة ولكنه لم يستطع منع ضحكة عالية بالظهور لثوان قبل أن يكبتها بكفيه معتذرًا وهى ترمقه ليصمت ففعل على مضض قبل أن تشير إليه ليقترب بانتباه تام وقد بدا عليها أنها على وشك البوح بسرٍ عظيم, فاقترب وهى تهمس له:

- زوجته رحمها الله كانت قد حدثتنى قبل وفاتها عن فتاة وحيدة تعمل فى دار الروضة القريبة من هنا وهى معلمة للطفلتين أيضًا, واعدتها عدة مرات وتعرفت إليها وهى فتاة طيبة ومؤدبة للغاية وحنونة جدًا على الأطفال .

سكتت هنيهة ثم أشاحت بوجهها يسارًا بتذمر وهى تستمر بالهمس بعد أن مصمصت شفتيها:

- ولكن المحروس ولدي رفضها دون حتى أن يراها بمجرد علمه بأنها عاملة (تعمل).

أومأ برأسه مؤكدًا وكأنما يساندها فى تذمرها وهى تتابع أسرارها الحربية مغمغمةً:

- حتى بعد أن أخبرته بأنها ستترك العمل ظل على رفضه وثورته .

واشتعلت عيناها بحماس جاء كزائر جديد على حديثها وهى تلوح بيدها بتصميم حتى كادت أن تُصيب عينيه:

- خمس فتيات رأيتهن وأنا فى مركز العلاج الطبيعي الذى أتعالج فيه ولقد وعدتني الطبيبة هناك بأن تأتي إلي بالمزيد, بيني وبينك الطبيبة صديقتي ولكنني لا أحب التفاخر كما تعلم !.

كان يومىء برأسه بلا توقف وهو يرهف سمعه لها وما إن انتهت حتى قال بخفوت يبادلها أسرارها:

- هل هى جميلة؟!

عقدت حاجبيها بتفكير لنصف دقيقة كاملة قبل أن تقول بتردد:

- لا أعلم يا ولدى هل يصح أن أصف لك امرأة منتقبة أم لا

رفع حاجبيه مندهشًا قبل أن يهتف بغرابة:

- العروس منتقبة؟!

- إنها حتى غير محجبة يا معتوه

- أنتِ من قلتِ بأنها منتقبة

- أنا أتحدث عن الطبيبة أيها المُختل

أعاد رأسه إلى الوراء بإدراك متأخر:

- آآه , فهمت

مجددًا مصمصت شفتيها وهى تنظر له مستهجنة جهله المطبق وهى تتحسر بهدوء:

- يبدو أن ولدي ليس هو المحروس وحده كما كنت أظن

حرك رأسه نفيًا وهو يجيبها :

- صدقيني يا خالتي, المحروسين كُثر فى هذا البلد الجميل

رغمًا عنها ابتسمت ابتسامة واسعة وهى تهز رأسها متعجبة قبل أن تنظر فى عينيه بمكر متسائلة وقد ظهرت لها لمعة حديثة فى عينيه:

- عادل, أنت قررت الزواج أخيرًا, أليس كذلك؟

اتسعت عيناه بدهشة قبل أن يراوغ مجددًا:

- أوتقرأين الأفكار أيضًا, قلبي الصغير لا يحتمل؟

نهرته بجدية هذه المرة متجاوزةً عن مزاحه الثقيل هاتفة بوجهه:

- لن تفلح مراوغتك, أنت قررت الزواج, صحيح ؟

أطرق برأسه أمام ذكائها ومعرفتها به وقال معترفًا متهربًا من عينيها:

- أنا رجل فى النهاية يا خالتى وأحتاج إلى شريكة لحياتى, والطفل أيضًا يحتاج إلى عائلة متكاملة, ولكنني لم أجد امرأة بالمواصفات التى أريدها بعد .

ناظرته بهدوء وهى تفكر فى الدقائق القليلة السابقة, عندما انتابها الحزن على وحدته للحظات وعشقه لامرأته المتوفاة, والذى بدأ ينحصر بجوار تلك اللمعة المضيئة فى عينيه لمجرد أن أعاد التفكير فى المسألة, وتضع نفسها فى كفة الميزان الأخرى وهى التى وهبت عمرها لتربية ولدها بعد رحيل زوجها وصممت على ألا تمنح نفسها لغيره مهما حدث .

لماذا تقارن الآن وهى من سعت للبحث عن عروس لولدها بمجرد أن علمت بمرض هالة المميت, أهو ذاك دور البطولة الذى يتلبسُنا بعوارضه دومًا عندما يتعلق الأمر بالآخرين؟!, أم هى فقط سُنةُ الحياة؟.

وجدت وجهها يرتفع تلقائيًا نحوه وتسأله بتفهُم:

- هل تريدنى أن أرشح لك واحدة؟

ازدرد ريقًا وهميًا وتنحنح ليجلى حنجرته أو لُيخفى ارتباكه ربما وهو يجيب بتمهل:

- أعجبتني مواصفات العروس التى رفضها هشام دون أن يراها, فقط أريد أن أعرف, هل هى جميلة؟

تعجبت أكثر وهى ترفع كتفيها بحيرة وتقول:

- أنت وذوقك

- كيف !

زفرت بنفاذ صبر منها وقد احتدم الصراع بداخلها, ماذا تفعل, هل تُعطى فرصة أخرى لـ هشام ربما يُعيد النظر فهو الأنسب لها, أم تعتمد على وعد عبير وتترك لـ رؤى فرصة مع عادل, حسمت أمرها أخيرًا بقرارها أن تترك الأمور عالقة بعض الشىء وتمسك بالعصاة من المنتصف فقالت:

- بُنى, كل رجل وله ذوق مختلف, فمثلاً فى الماضى كانت الفتاة ممتلئة القوام هى الأجمل فى عين الرجال وهى ذات الحظ الأوفر فى طلب يدها للزواج, أما الآن فربما الوضع يختلف بعض الشىء, ربما تكون جميلة فى عينيّ ولكنها لا تعجبك, أنت وذوقك !

رأته يُغمض عين بينما يبقى الثانية مفتوحةً وهو ينظر لها بريب هاتفًا بإدراك:

- خالتى, أنتِ تلاعبيني !

ضربت عصاها فى الأرض حانقة وهى تنهض صائحة فيه ونظراتها تحيد بعيدًا عنه:

- اسمها رؤى وأنت تعرف عنوان دار الروضة, أذهب وانظر إليها, ولا تتحجج بي, سأذهب لأوقظ صديقك المخبول مثلك !

تبعتها نظراته وهى تلج الغرفة الأخرى وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره الكثيف مفكرًا فى الأمر بجدية أكبر, سيفعل ما قالته بحنق قبل أن تنصرف غاضبة, سيذهب ويراها ويتحدث إليها ربما تعجبه, بالتأكيد هالة لن توصي إلا بفتاة تأمنها على ابنتيها وبيتها, لن تأخذ مكان زوجته السابقة حتمًا فهى قد تركت وجعًا مستمرًا فى خافقه الذى كان يعشق كل تفصيلة بها, ربما تساعد رؤى فى تسكين هذا الألم وتُعيد إلى روحه الراكدة لمحة من حياة غادرت بلا عودة, ولم لا؟! .

***

- أنت تُشبه الأطفال فى تشبثك بما تريد يا عادل, سأنصرف حالاً

كانت العبارة الحانقة لـ هشام الذى ألقاها وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله وهو يستدير مستعدًا للانصراف ولكن عادل تمسك بمرفقه بقوة وهو يجذبه ليعيده بجواره أمام السور الخارجي لدار الروضة هاتفًا برجاء:

- وتتركني وحدي فى هذا الموقف؟!

زفر هشام بعدم رضا وهو يلوم نفسه على استسلامه لرغبات صديقه المراهق الكبير, عندما أخبره عادل برغبته فى الارتباط مرة أخرى, بارك هشام هذه الخطوة الجديدة التى كان يتوقعها منذ أسابيع وهو يشعر بحاجة صديقه للزواج مُجددًا, ولكن لا ينكر أنه فوجىء عندما علم برغبة عادل فى الزواج من نفس الفتاة التى رشحتها له والدته من قبل, ومع تصميم عادل الذى لم يستطع الفكاك منه اضطر إلى الإنصياع له ومرافقته إلى دار الروضة ليراها صديقه من بعيد أولاً حتى إذا أعجبته يقفز إلى الخطوة التالية ويحدثها عن رغبته بزيارة رسمية لبيت عائلتها, فى البداية رفض الذهاب معه بشدة فالأمر برمته لا يخصه, ولكن عادل قطع عليه الطريق بمكر وهو يسأله إن كان قد أعاد التفكير فيها كعروس مستقبلية مما جعله يزفر فى النهاية مُعلنا موافقته وها هو الآن يقف بجواره كمراهقان يتسكعان أمام مدرسة للبنات فقط !.

جاءت أمام عادل الفرصة التى كان فى انتظارها منذ ساعة على الأقل وعبرت إحدى عاملات النظافة من البوابة الداخلية للدار ومرت بالحديقة الصغيرة حتى توقفت أمام صندوق القمامة الخارجي وهمَت بأن تضع به أحد أكياس القمامة الكبيرة السوداء, تحرك عادل سريعًا نحوها ورآه هشام يتبادل معها الحديث قليلاً قبل أن يدس فى يدها ورقة مالية ما ورآها تبتسم له وهى تُشير بأصبعها إلى كلتا عينيها وتستدير لتعود للداخل, قطب هشام ما بين حاجبيه بضيق وهو يتوقع الحديث الذى دار بينهما, لم يكن استياؤه بسبب الحديث نفسه, بل للطريقة السهلة التى يستخدمها عادل دومًا ليحصل على ما يريده ببساطة لا تُذكر طالما يملك ثمنه !.

وضع عادل يديه بابتسامة زهو فى جيبي بنطاله الجينز وهو فخور بذكائه ويحث الخطى نحو هشام الحانق الذى ينظر فى ساعته كل ثانيتين تقريبًا, وعندما اقترب منه هتف هشام بقلة صبر:

- عادل, أمامك خمس دقائق فقط وسأتركك هنا وأنصرف, اليوم الدراسي أوشك على الإنتهاء ولو حضرت أمي صدفة ووجدتني هنا لن يمر الأمر هكذا ببساطة, وأنت تعلمها جيدًا .

لم يكد ينتهي هشام من إلقاء وعيده, حتى وجدا العاملة تعبر الباب خروجًا مرة أخرى وتتجه نحوهما بابتسامة واسعة متأملة وتُسرع الخطى نحوهما بنظرات تلمع بالنصر المؤزر!, اقتربت العاملة منهما وهى تمد يدها لـ عادل بالهاتف المحمول, وبالرغم من قِدمِ تاريخ تصنيعه إلا أن كاميرا الفيديو به تُسجل بشكل لا بأس به, تناول عادل الهاتف منها واقترب بجسده من هشام وهو يُعيد تشغيل الفيديو التى سجلته العاملة لـ رؤى وهى تتحدث بتلقائية بداخل أحد الفصول مع الأطفال وتمازحهم بلطف, تعلقت عيني عادل بعينيها لدقيقة كاملة وابتسامة خفيفة علت شفتيه مما جعل هشام ينظر إلى الدقيقة الأخرى الباقية فى زمن الفيديو بفضول ثم تسائل مُتمتمًا:

- هل هذه هي ؟

أومأ عادل برأسه ومازالت الابتسامة تعلو شفتيه وهو يُدقق بملامحها الصغيرة مما جعل هشام يوقن بأنها سكنت منطقة القبول بقلب عادل وخصيصًا وهو يرى نظرة الرضا والشغف التى تتراقص بعيني صديقه منذ بداية تشغيل مقطع الفيديو حتى نهايته, لم يكن هشام وحده من لاحظ ابتسامة عادل بل العاملة أيضًا فعلت وهى تتحفز فى وقفتها منتظرة بقية الإكرامية بلهفة وشغف, ولم يخب ظنها, منحها عادل ورقة أخرى بسخاء هذه المرة وهو يشكرها ويناولها هاتفها وعندما انصرفت مُسرعة تكاد تطير من السعادة برغم ثقل وزنها, التفت عادل نحو هشام وهو يحاول رسم تعبير حيادي على وجهه قائلاً:

- أعتقد أنني سأنتظرها لأتحدث إليها, لو أردت الانصراف أنت, لا بأس

رفع هشام حاجبيه بخبث وهو يستند إلى حافة الباب الخشبي القصير والملون الذى يقف بجانبه يريد التلاعب بصديقه قليلاً قائلاً:

- أنا غير مُتعجل, لو أردت الإنصراف أنت فافعل

لم يلحظ عادل نبرة المزاح فى صوت هشام مما جعله يرفع وجهًا متجهمًا نحوه, كان هشام يريد الاستمرار فى مزاحه ولكن ملامح عادل فى تلك اللحظة كانت كفيلة بأن تُطلق العنان لضحكاته العالية وهو يُمسك بذقن عادل ويقول بأسلوب ساخر:

- هل وقعت فى الحب من أول مقطع فيديو يا صديقي؟

حرر عادل ذقنه وهو يدفع هشام بغيظ وقبل أن يرد عليه رأى بعض النساء مقبلة نحو باب الدار من أكثر من اتجاه فعلم بأن اليوم الدراسي قد انتهى وستخرج له عروسه الغافلة عما يحدث حولها بين لحظة وأخرى مما جعله ينسى هشام تمامًا ويلتفت بكامل انتباهه مراقبًا الباب الداخلي, نظر هشام إلى ساعة معصمه وقرر التحرك على الفور قبل أن تخرج الفتيات أو تراه والدته ويقع فريسة بين يديها .

لم يشعر عادل بانصراف هشامًا وهو يراها تخرج حاملة حقيبتها وتتحرك بخفة بين الأطفال المندفعين للخارج بتهور, لا يعلم لماذا تتعلق عيناه بعينيها تحديدًا ولا يكاد يحيد عنها, هذه ليست خصاله أبدًا, فهو كالمعتاد فى مثل هذه المواقف يحدق بالفتاة بالكامل ولابد وأن يحصل جسدها على نسبة نجاح لاختباراته لا تقل عن تسعين بالمائة, هذه فقط التى ودون أن تدري أسرت عينيه بداخل عينيها وجعلته غير قادر على تحريكهما بعيدًا عنها, نظرتها الطفولية تقطن بها دمعة خفية تلمع من خلف زجاجها الشفاف, ربما هى دمعة تأثر وقد كانت يدها تربت بحنو على وجنة طفلة يظهر عليها أنها من ذوي الاحتياجات الخاصة, هل هى حنون إلى تلك الدرجة!, وعندما التفتت إلى العاملة ورأتها تصورها اعتقدت بأنها تمزح معها فبادلت الكاميرا ابتسامة بريئة وكأنها تبتسم له هو بالذات, سر ما بها, ربما عندما يقترب يستطيع فك اللُغز .

تقدمت العاملة منها وهمست لها وهى تشير بأصبعها نحو عادل الذى استطاع المرور بسهولة من بين النساء والوقوف بأقرب مكان منها, اقتربت منه بروتينية وإرهاق واضح وهى تتوقع أن يكون أحد أولياء الأمور ويريد السؤال عن ابنته, وعندما وقفت أمامه مرحبة به بعملية ومن دون ابتسامة واحدة, تلعثم قليلاً قبل أن يتمالك نفسه ونظراته تتمركز بداخل عينيها متسائلاً:

- آنسة رؤى ؟

أومأت برأسها مؤكدة بصمت منتظرة أن يبدأ بتعريفها باسم ابنته ولكنها فوجئت به يقول على الفور:

- هل من الممكن أن تمنحيني عنوانك بالضبط !

***

كاد أن يقع على وجهه بعد أن تعرقل بأحد درجات السُلم ولكنه حافظ على اتزانه فى اللحظة الأخيرة وهو يمسك بسوره الحديدي واعتدل ينظر خلفه بتذمر نحو والدته التى كانت تدفعه من الخلف ليصعد بعد أن لاحظت تردده ووقوفه عن الحركة لثوانِ, عدل من قميصه الأزرق بفتور وهو يزفر بشدة ويطمئن على وضعية عُلبة الحلوى الكبيرة فى يده الأخرى ثم يُكمل رحلة الصعود للطابق الرابع بلا حول ولا قوة, ها هو قد أطاعها رُغمًا عنه بعد أن نفذت حُججه وقد أتت له بعروس يتوفر بها الشروط التى تمسك بها ورفض رؤى من أجلها, فتاة لم تكن تعمل فى يوم من الأيام, محجبة, وعلى استعداد لتقبل ظروفه وتربية بناته كما يحب, حاول أن يهرب من حصار والدته كثيرًا ولكنها لم تيأس وظلت تطارده بمكرها لأيام, مرة تدعي المرض وترفض إعداد طعامه, ومرة تضغط عليه بالحديث المتواصل عن عادل صديقه الذى أخذ منها مواصفات رؤى وعنوان عملها فى دار الروضة وفى الأسبوع التالى اتصل بها ليدعوها لحضور حفل زواجه البسيط والسريع. تمشي خلفه من غرفة لأخرى تحكي له عن العروس الجميلة التى رشحتها لها عبير وامتدحتها بكل الصفات الرائعة, حتى يأس وأصبحت حياته لا تُطاق, وأخيرًا اضطر للرضوخ والموافقة, الفتاة يتيمة الأبوين وتعيش مع عمها فى تلك البناية فى الطابق الرابع الذى كاد أن يتجاوزه أثناء شروده لولا والدته التى جذبته من ذراع قميصه متأففة من ضياعه وهى تهمس بأنفاس متلاحقة بأنهما وصلا إلى الشقة المنشودة, استدار وهو يُخلص قميصه من قبضتها ويهتف من بين أسنانه بغيظ :

- أمى, لماذا تعامليني هكذا, احترميني قليلاً ؟

أومأت برأسها بعدم رضا وهى تجيبه بزمجرة خفية وتُشير نحو باب الشقة:

- معك حق, فى المرة القادمة سأضربك بالعصا على رأسك, هيا اطرق الباب لقد تأخرنا

حرك رأسه بيأس وهو يرفع يده للضغط على جرس الباب لمرة واحدة فقط وهو يتأمل الحائط المجاور للباب الذى رُسم فوقه صورة لجمل يمشي فى الصحراء يعلو رأسه طائرة ما وبجوارهما مكتوب عبارة مشهورة " حج مبرور وذنب مغفور", اعتاد تلك الجملة كثيرًا بالرغم من فضوله الذى يدفعه دائمًا إلى البحث عن الرسام الذى رسم هذه الرسومات الفذة ليسأله سؤالاً واحدًا " لماذا يجمع بين الجمل والطائرة دائمًا وما علاقة الجمل بالحج هذه الأيام " ؟!

أخرجه صوت تحرك خلف الباب من تساؤلاته اللامعة فاستعاد نظراته الحيادية وهو يبتعد قليلاً عن الباب بجوار والدته, ليفتح لهما رجل وقور لم يتجاوز العقد الخامس من عمره, ناقضت هيئته المستقيمة التى تدل على صحة وفيرة شعر رأسه الأبيض بالكامل مما يجعل من يشاهده لأول وهلة ينخدع بعمره الحقيقي, رحب الرجل بهما للغاية وهو يصطحبهما إلى غرفة استقبال الضيوف ذات المساحة الضيقة بجوار الباب مباشرة, تبعته زوجته التى أتت لاحقًا تحمل صينية المشروبات والحلوى, كان الرجل بالفعل على علم كما هو المعتاد بتلك الزيارة ومن الواضح من المقابلة الدافئة والمُرحبة بشدة بأن الأمر لاينقصه سوى تعارف الطرفين فقط, عرف من حديث الرجل بأنه عم العروس وفى مكانة والدها تمامًا لديها, وهى تعيش معه هو وزوجته منذ أن فقدت والديها, تبادلوا الأحاديث حول ظروف هشام الخاصة متطرقين إلى وفاة زوجته الأليمة وغيرها من مناقشة وضعه المادي الذى لم يختلفوا حوله أبدًا, ثم طال الحديث عن والد العروس رحمه الله ومدى تعلقها به وتعلقه بها بشكل خاص حتى أن هشام وجد عينيه تدمع رغما عنه وتعاطف معها دون أن يراها .

من الواضح أن العروس خجولة للغاية وتخشى اللقاء, فزوجة عمها خرجت إليها عدة مرات وفى كل مرة تعود بدونها, حتى أن الظنون بدأت تراوده حول رفضها له.

طرقات خفيضة على الباب من الخارج قطعت عليه أفكاره وجذبت انتباهه ونظراته لقدمين تلجان إلى الغرفة بتردد واضح وكأنها تريد العودة من حيثُ أتت, صاحبتها رائحة مسكية ليمونية أنعشت حواسه, مرت عينيه مرتحلة على تفاصيلها من أسفل إلى أعلى ببطء, اصطدمت نظراته بأصابع كفيها المتشابكة ببعضهما البعض بتوتر أمام معدتها وكأنها تعاني ألمًا ما بها, ولكن عينيه لم تتوقفا بل استمرت فى الصعود راحلة حتى جاء دور وجهها أخيرًا فى الظهور أمام شاشتهما البراقة, فى تلك اللحظات كانت والدته تقوم بدورها فى احتضانها بحفاوة ودعوتها للجلوس بجانبها, تأففت نظراته وهى ترجو والدته بالابتعاد قليلاً, مازال يريد وجهها أكثر, جلست بجوار والدة هشام مطرقة إلى الأرض وجهها متورد بخوف أكثر منه خجل, لم يتحدث إليها وترك لوالدته العنان, فهى كفيلة بالأمر, بالإضافة إلى أنه مشغول بمراقبة وجهها المُخبتىء أكثره خلف حجابها الرقيق حوله, انشغل عقله بمدى التقارب والتمازج بين لون حجابها ولون عينيها, وفى هذه اللحظة اكتشف بأنه كان يبتسم, وبأن عمها وزوجته كانا يراقبان ابتسامته تلك عن كثب بملامح منشرحة, ترى هل هذه نفس ابتسامة عادل وهو يشاهد رؤى؟, ابتسامة القبول !

تنحنحت والدته وهى تنهض موجهة حديثها نحو زوجة العم وهى تطلب منها الذهاب للحمام, بإدراك شديد نهضت المرأة سريعًا وهى تأخذ والدته للخارج وبعد ثوان لحق الرجل بهما وتركهما وحيدين ولكن برفقة بعضهما البعض .

شكر هشام صنيع والدته بداخله وهو يلتفت نحو عروسه محاولاً جذب طرف حديث ما بينهما يجعلها تنظر إليه وتتحدث معه, هو يعلم بأنه لا يجيد الحديث لذلك تنحنح عدة مرات يجلى صوته وهو يضع كأس العصير الساكن بيده على الطاولة الصغيرة المقابلة له والفاصلة بينهما, وبدأ بسؤالها عن أحوالها بشكل جعله يبدو كأبله أو معتوه كما تقول له والدته دائمًا وهى تقرعه, وعندما وجد منها إجابات تشبه الهمس إلى حد كبير, بحث عن موضوع ربما هى تحبه فيجعلها تتكلم بأريحية أكثر فاختار أن يسألها برقة عن والدها وما قاله عمها عن علاقتها القوية به, وبالفعل نجح فى جذب انتباهها وجعلها تؤكد له ما أخبره به عمها من معلومات عنه, عادت عيناه تدمعان من جديد عندما رأى الدموع تترقق فى عينيها بحزن وهى تتحدث عن تدليله لها والذى افتقدته بشدة .

ضعفها أمامه جعله يشعر فى لحظة بمسؤولية خاصة تجاهها, حشرجة رقيقة بصوتها سببتها الدموع, أشعلت رغبة بداخله للبحث عن إجابة سؤال ساحر طاف بوجدانه .

سؤال حول لون عينيها عندما تبتسم, كيف ستكون ياترى؟, كانت رأسها قد عادت للأسفل من جديد وهى تجفف دموعها برقة عندها سمعته يناديها مشاكسًا:

- جديلة (تشكيل)

رفعت رأسها نحوه بدهشة بالغة من جرأته, كيف واتته الجرأة ليرقق اسمها هكذا بعد دقائق من لقائهما الأول؟!, مسحت وجهها بكفيها وقد احتقن لونه للغاية وهو يتابع بتلذذ, مراقبًا تقلب أنفاسها البادية بقوة فى تسارع صدرها صعودًا وهبوطًا:

- والدك كان فنانًا حقًا فى اختيار هذا الاسم ليخصك به

لم تمهله عائلتها وقتًا إضافيًا ليستمتع بهذا الشعور الغريب الذى بدأ يغزوه وهو يرى مدى تأثيره عليها بمجرد أن رقق اسمها فقط, طرقة واحدة على الباب النصف مغلق دخل بعدها عمها ومن نظرة واحدة لابنة أخيه علم بأنها فى ورطة ما, اقترب منها فوقفت ناهضة على الفور وهو يحيط بكتفيها متسائلاً باهتمام:

- جدايل, هل أنتِ بخير حبيبتي؟

أومأت برأسها له وهى تهمس برغبتها فى العودة لغرفتها على الفور, تركها تغادر وهو يستشعر سخونة وجهها واحمراره المبالغ فيه وجلس يستكمل الحديث مع هشام باهتمام وحماس متجاهلاً ألقُ البَرْقِ الظاهر بقوة فى عينيه, وعند عودة زوجته ووالدة هشام بدأ الحديث يأخذ مجرى آخر وتلقائي بعد أن تكلمت والدة هشام بصراحة عن إعجابها بـ جدايل ورضا ولدها الواضح دون الحاجة لسؤال, فى البداية كان قلق بخصوص تفاصيل الماديات التى ستُطلب منه وبالأخص لأنها لم تتزوج من قبل ولكنه وجد العكس تمامًا والرجل يُيسر له ويقول له بصراحة أن يأتي بما يستطيع تحمله فقط .

وبدون أن يرى الدكتورة عبير كما تقول عنها والدته دومًا شكرها بداخله عن الهدية التى قدمتها له دون سابق معرفة, " جدايل " هدية لا يليق بها سوى تدليل كتدليل والدها لها 




تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-