أخر الاخبار

رواية #وقالت_لي .. الفصل رقم 2 .. دعاء عبد الرحمن

 #وقالت_لي


الفصل الثاني : رحيل


1-


هل هو الخريف حقًا أم هى فقط التى تشعر بأنها تحيا فصولها الأخيرة من عمرها, هل تساوي الليل والنهار جاء مصاحبًا لهذ(جاءا مصاحبان لهذا) الموسم أم أنها هى التى ترى ببصيرتها انعدام الزمن فى المكان الذى ستذهب له قريبًا؟!, حالتها تزداد تدهورًا وأصبحت حبيسة المنزل. ورقة شجر باهتة سقطت من مكان ما مرورًا بنافذتها, ألصقتها الرياح القوية بزجاجها لثوانٍ ثم عادت تُكمل رحلة سقوطها للأسفل بعد أن منحتها إشارة بأن تستعد للذهاب!.

تنفست هالة بعمق ومدت يدها نحو غُرة الشعر المُبعثرة على جبين ابنتها جنى النائمة على يمينها, واضعة يدها الصغيرة أسفل رأسها باسترخاء وشفتيها منفرجتين قليلاً تتنفس من خلالهما كعادتها, وقامت بتسويتها بحنان وهى تتحسس كل خصلة منها ببطء ممتزج برعشة أناملها خشية من أن توقظها. ثم مدت يدها الأخرى نحو لُجين عن يسارها والتى تتنهد دائمًا تنهدات ناعمة رقيقة أثناء نومها وكأنها تحلم بشىء سعيد على الدوام. لمسة يد هالة فوق جبينها جعلت حاجبيها الصغيرين ينعقدان قليلاً بينما زمت شفتيها ثم عادت ملامحها تسترخى وتسبح فى حلمها من جديد. ترى هل مفارقتها لهما ستجعلانهما تتأخران فى النطق أكثر مما هما عليه؟, هل ستسهلان الأمر على رؤى كأم بديلة؟, أم ستتغير مشاعرهما نحوها بعد أن تسكن معهم بنفس المنزل وتنام مكان والدتهما ويعتادان عليها أكثر بكثير من كونها مجرد معلمة؟.

- هل أنقلهما إلى غرفتهما الآن؟

قاطعت عبارة هشام خيالها عن مُستقبل لن تحياه, فالتفتت نحوه قائلة بهمس وهى تحرك رأسها نفيًا بشرودٍ تغادره دون أن يُغادرها:

- لا, أريدهما بجواري الليلة

أومأ برأسه موافقًا وانحنى بجذعه نحو نهاية الفراش ليسحب غطاءً خفيفًا لنفسه مستعدًا لقضاء ليلته بغرفة بناته, فاعتدلت هالة على الفور جالسة فى مكانها وهى تقول بنبرة خفيضة:

- هشام, أبق هنا

لم ينتبه إلى نبرة الرجاء الناطقة فى صوتها ولا إلى نظرة عينيها التى تحتوي وجهه وكأنها تطبع بداخل مقلتيها ملامحه الطفولية ببشرته القمحية. لم يفهم أنها نظرة وداع تحرق قلبها شوقًا له .

اعتدل بعد أن حمل الغطاء وتقدم نحوها بابتسامة ثم انحنى ثانية يطبع قبلة على شعرها هامسًا:

- لا داعى, السرير لن يكفينا جميعًا بسهولة, ولا أريد إزعاجكم بتقلباتي الكثيرة, تُصبحين على خير

عندما التفت ليرحل أمسكت بكفه بوهن فاستدار لها وللمرة الثانية لم يستطع قراءة نظرتها المتوسلة وهى تقول بصوت مرتجف قليلاً:

- أخشى أن تكون هذه آخر ليلة لي و..

قاطعها وهو يمسك بذقنها بهدوء ويرفع وجهها نحوه قائلاً بثقة اعتاد الحديث بها معها عندما تقول مثل هذه الكلمات:

- لا أريد أن أسمع منكِ هذا الكلام مرة أخرى, أنتِ بخير وستتحسنين مع العلاج صدقيني, أتركى هذه الوساوس جانبًا الآن وارتاحى فجلسة العلاج اليوم صباحًا كانت شاقة عليكِ للغاية, هيا اخلدي إلى النوم

قبلها مرة أخرى واعتدل مغادرًا للغرفة إلى غرفة بناته, التفتت هالة إلى المنضدة الصغيرة بجوار السرير بتفكير إلى أن تنهدت فى النهاية وقد حسمت أمرها. مدت يدها إليها وسحبت أحد دفاتر اللغة العربية الخاصة بابنتها جنى, ثم سحبت قلمًا كان بجوار الدفتر وهى تنوي كتابة رسالتين منفصلتين .

تنفست بقوة وعمق لتكبح دموعها محاولة تثبيت القلم الأزرق بين أصابعها والتى اعتادت ابنتها لُجين عض خاصرته بأسنانها وبدأت تخط بيدها المرتعشة الرسالة الأولى وقد كانت كوصية وتذكار منها إلى ابنتيها الصغيرتين. كانت رسالة صغيرة وموجزة وبها مرح وبهجة فى محاولة يائسة للتخفيف عنهما عندما تقومان بقراءتها يومًا ما أو يقرأها أحدهم عليهما. وفى بداية كل سطر منها حرصت على أن تُكرر نفس الجملة مرات ومرات " سأكون حولكما دومًا, وكعادتى سأنام بغرفتكما دون أن ترياني".

أنهت رسالتها الأولى وانتهت معها تلك الصفحة التى قلبتها ليقف قلمها أمام صفحة جديدة تاركة صفحة خالية بينهما كعادتها دائمًا للكتابة فى دفاتر بناتها الصغيرة. تحرك القلم بمدادٍ من قلبها مستعدًا لكتابة الرسالة الثانية والتى لن تستطيع أن تكذب بها وتظهر البهجة كما فعلت فى الأولى, فقد كانت موجهة لمن امتلكها ولم تملكه, لزوجها النائم بالغرفة الأخرى تاركًا رياح الوداع تعصف بقلبها الوحيد وجسدها الراحل .

زفرت مرة تلو الأخرى وقد فقدت السيطرة على عبراتها النازفة وهى لا تعلم لماذا قررت أن تكتب له, هل تؤنبه أم تعاتبه برقة؟, ألا تكفي المسؤولية التى ستقع على عاتقه فور رحيلها؟!, لماذا تشعر بتلك الطاقة الغاضبة والمتضاربة بداخلها وكأنها تريد أن تشمت به وفى نفس الوقت تُشفق عليه مما سيلقى. وبتردد كبير وبدون تخطيط بدأت تكتب:

- زوجي الحبيب

ثم تطمسها بتوتر حتى كادت الورقة الرقيقة تتمزق بفعل رأس القلم المدبب, انطلقت الزفرة الأخيرة وقد قررت أن تترك العنان لقلمها وقلبها معًا يكتبان ما يريدان, وما شأنُها هى؟!

***

ما إن دخل هشام غرفة بناته حتى ارتمى على أول سرير قابله وأغمض عينيه وهو يشعر بعظامه تأن بشدة من فرط الإرهاق الذى يشعر به, اليوم كان شاقًا للغاية, صباحًا فى جلسة العلاج معها ثم أعادها إلى المنزل, وانطلق إلى عمله وكأنه يجرى خلف الوقت ليلحق بعضًا منه قبل أن يُخصم له اليوم كله, فصديقه فى الشركة وعده بأن يموه عن غيابه صباحًا قدر المستطاع, عمله كمحاسب دقيق جدًا ويحتاج إلى تركيزه الذهني الكامل, وهذه الأيام ومنذ أن تدهورت حالة زوجته وهو مشتت بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ, الخطأ الواحد فى رقم واحد ربما يكلفه فقدان وظيفته على أقل تقدير!. انتفض فجأة من شروده عندما ضربت رياح قوية زجاج النافذة المفتوحة وهو يشعر أن أطرافه تكاد تكون تجمدت على أثر تلك الضربة, تنحنح وهو ينهض ليغلق النافذة تمامًا موبخًا نفسه على سرعة انفعاله هكذا وكأنه طفل صغير ينام وحده, عاد إلى نومه وهو يبتسم متذكراً سخرية والدته منه عندما انتفض أمامها هكذا فى يوم من الأيام على أثر صفعة مفاجأة لباب الشقة وقالت له بسخرية لاذعة " أحضر لك طاسة الخضة " !.

من المستحيل أن ينسى ذلك اليوم مادام حيًا, وكيف ينسى عودته من الخارج وملابسه يعلوها الغبار مكونًا طبقة رمادية رقيقة باهتة فوقها وقد دفنها للتو, دفن زوجته. صورة جسدها الملفوف فى الكفن وأخوتها الرجال يحملونه ويدخلون به القبر لا يمكن أن يفارق مُخيلتهِ أبدًا, هل هذا هو جسد زوجته حقًا؟,

هل ينصت إليهم وهم يدفعونه ليخرج من ساحة القبر ويتركها وحدها, تبيت أول لياليها فى قبرها المظلم, بلا رفيق؟!

وهل كان هو هذا الرفيق الذى يخشى عليها من عدم وجوده عندما كانت تبيت فى بيته؟, وفى غرفته, وعلى فراشه؟!. هل سيشكل القبر فارقًا سوى فى الظُلمة فقط؟!

هالة التى كانت تملأ البيت سعادة فى بداية زواجهما ثم اختفت ضحكاتها شيئًا فشيئًا وتراجعت صحتها ببطء حتى فارقها لون الحياة وصارت جثة متحركة, ثم هامدة!

كيف ينسى عيني والدته المتورمتين من أثر البكاء وهى تحتضن ابنتيه فى صدرها بشفقة, وقد أصبحتا يتيمتي الأُم, كيف ينسى تلك العيون الحائرة وهم يتسائلون عنها بحروف متعثرة ونظرات ضائعة " أين أمى "؟!, كيف ينسى ظهره المنحني وكأنه يستعد لحمل المسؤولية الثقيلة والجديدة عليه؟

وكيف ينسى يد أمه الممدودة إليه بدفتر صغير لإحدى ابنتيه تخبره بأن زوجته تركت له رسالة. وإن كان يستطيع نسيان كل هذا مع مرور الزمن, فكيف بالله أن ينسى ما كتبته له فى رسالتها تلك بكلمات مذبوحة وذابحة, تلك اللحظة شعر بأنه لا يقرأ الكلمات بعينيه بل يسمعها بصوتها الباكي, وكأنها تهمس بقلمها فوق الأوراق, تذكره, تسأله, ترجوه, تقسو عليه, تَبكيه وتُبكيه, تُحبه, وتناديه, ثم تُهدده!:

- هشام, كتبت هذه الرسالة فى آخر ليلة لي فى بيتك, هل تذكرها؟, عندما طلبت منك أن تبقى معي, عندما رجوتك أن تنتظر, عندما كنت أحتاج إلى ضمتك لألفظ حياتى بصدرك, ليكون آخر ما أستنشقه هو عطرك, رائحتك, ولكنك رفضت وابتعدت ظنًا منك بأنك ستصحو كالعادة لتجدني, وأنا أسألُك الآن, هل وجدتني يا هشام؟!, هل صدقت الآن شعوري بأنها آخر ليلة؟!, أشعر الآن بأنني من القسوة لدرجة أن أسألك وأنا على يقين بأنني لن أسمع الإجابة أبدًا, هل سمعتنى وأنا أحتضر؟, أم أنك كنت غارقًا بنومك؟!, هل وجدت جثتي باردة فى الصباح؟, أم كان لا يزال بها بعض من سخونة نزعي؟

أنا قاسية جدًا يا هشام فى تلك اللحظة, ليس قسوة عليك, بل لأجلك !, نعم لأجلك حتى لا تكررها مع غيري, فأنا أريدك أن تعامل زوجتك الأخرى معاملة طيبة لتستطيع هى أن تُحسن معاملة بناتي, بناتي فقط صدقني هو كل ما أفكر به فى تلك اللحظة, لا تفعل معها كما كنت تفعل معي أرجوك, أرجوك أحبها .

عندما تبكى لا تتركها, ضمها إليك.

عندما تفتقد أهلها كن أنت كل أهلها.

عندما تغضب وتثور فجأة منك اعلم أنها تفتقدك, تحتاج ضمتك

عندما تهتف بك " ابتعد ",لا تفعل, بل اقترب أكثر !.

عندما تصرف ببذخ اعلم بأنها تعوض نقص حبك واهتمامك بها, تحتاج عاطفتك.


عندما تصرخ وتتهمك بما لم تفعله, اعلم بأنها لا تقصد ظلمك بل تنطق بمخاوفها فقط, بما يموج به صدرها ولا تعلمه أنت.

هشام, أقول لك هذا وأنا مقبلة على ربي ليس لي حاجة فى دنياكم, فأرجوك تَفكر في كلماتي التى أنطق بها للمرة الأولى وقد حالت كرامتي وكبريائي أن أقولها لك سابقًا وأتسول منك حبًا. صدقني لقد أحببتك بكل جوارحي ولم أكن أطمع بالكثير, أردت حبك فقط, أردت ضمتك فقط, أردت أن أصنع معك عالمًا يغنيني عمن فقدتهم من أحبة, لو كان العالم كله نبذني ووجدتك, لكنت تكفي, إلا أنني أضعتك أيضًا, فمن سيبقى لي سوى ضمة قبر ربما ستكون أرحم بي من قلوبٍ تلفظني دومًا.

أوصيك ببناتي خيرًا وتأكد بأنني سأكون معهما على الدوام, بكل طريقة ممكنة, فاحذر غضبي.

زوجتك المحبة " هالة "

أغلق هشام الدفتر وهو يرفع رأسه بعينين باكيتين ومشاعر مضطربة متضاربة.

لماذا لم تتكلم من قبل؟.

لماذا لم تنبهه لأخطاءه؟.

لماذا ضاع كل هذا الوقت هباءً وهو لا يفهم؟.

إنه لم يكن يقصد, لم يكن يقصد نبذها كما ظنت .

نهض والدفتر مازال بيده وذراعاه متهدلتان بجواره وأخذ يدور حول نفسه والدمع يقفز من مقلتيه وقلبه يغلي وحلقه يلفظ الكلمات كقذائف تحرقه ويريد أن يتخلص من شدة ألمها وهو يهتف بحشرجة باكية:

- لماذا لم تتكلمي من قبل؟, كيف أفهم وحدي ما كنت تخبئينه في صدرك؟, لم أكن أقصد, صدقيني لم أكن أقصد, أحببتك بطريقتي لا بطريقتك, هالة, أجيبي يا هالة أجيبي لا تتركيني أحترق هكذا .

عبارته الأخيرة جاءت كصرخة نداء غاضبة متألمة متحسرة كتحسره الذى جاء بعد فوات الأوان, فتحت والدته الباب مندفعة نحوه وقد استمعت إلى صياحه الباكي وأخذت تحتضنه وتربت على كتفه وظهره حتى هدأت صرخاته قليلاً وأخذ ينهت من فرط الانفعال متمتمًا دون وعي ورأسه ملقاة على كتف والدته:

- قولي لها يا أمي أننى أحببتها كما أحبك والدي, أخبريها أنني لا أعرف حبًا آخر غير هذا, أحفظها فى بيتي, أوفر لها ما تحتاج, أرعاها عندما تمرض, لمَ لم تتكلم؟ لمَ ؟ ربما كنا سنتفاهم!, تبًا لكرامتها تلك, تبًا, تبًا.

***


كان يكفي أن تقف عند مدخل المقابر, فلماذا ظلت تتوغل خلف الجنازة؟, ربما لم تكن تتصور فراق أمها يومًا من الأيام لذلك اتبعت جنازتها وقد غشت عيناها غلالة من الدموع الصامتة, حتى صعد الرجال وقد هالوا عليها التراب, الجيران أصروا على مصاحبتها إلى هنا, لم تكن معها امرأة واحدة فجميع جاراتها حذرنها من الذهاب، وبعضهن لمَّحن إلى تحريم اتباع الجنائز للنساء, ولكنها أصرت, وها هى تقف وحيدة على مشارف القبر بعد دخول الرجال المصاحبين لها للمسجد الصغير بالجوار لأداء صلاة الجمعة .

كتفت ذراعيها, أطرقت برأسها, راقبت ظلها, وهى تخطو خطوات واهنة في محاولة للوصول إلى السيارة التى ستنتظر بداخلها حتى عودتهم إليها لُيعيدوها معهم إلى المنزل, ولكن غلالة الدموع كانت تزداد قتامة وثقلاً بمقلتيها وهى تتذكر معاناة والدتها قبل أن تموت, بل قبل أن تقتلها !

عندما وصلت لهذه النقطة اعتصر قلبها برودة ثلجية مفاجئة, سرت على طول ظهرها حتى استقرت فى نهايته وهى تتذكر جسد والدتها وهو يحترق بالكامل وتدور بجنون متخبطة فى نيرانها بين جدران غرفة المكتب, تضرب بيديها كل شىء تصطدم به وتصرخ صرخات بشعة لن تنسها يومًا, صراخ مهول مزق ستار الصمت بالحي بأكمله, ألسنة لهب ودخان غشت جدران غرفة المكتب وعندما حطم الجيران باب المنزل أخيرًا كانت قد تفحمت واستقر جسدها خلف المقعد الضخم, وهى تقف بعيدًا أمام الغرفة المفتوحة, تشاهد, وفقط !.

كانت تحبه, بل تعشقه, ولكن حبه لم ينجح فى شفائها من مرضها النفسي الذى خَفَت وطأته بعد زواجها به, ولكنه لم يذهب تمامًا, أما بعد موته بهذا الشكل المفجع فقد أصبح المرض يقارب الجنون فى أعراضه, تمزق لأجل فراقه شعرها عاجزة عن استكمال الحياة بدونه, أوقفت زمنها بين يديه, فماذا سيبقى بعده إلا الرحيل إليه؟!, ربما كانت هى سببًا بمقتل أبيها, فلمَ تبخل على أمها بأن تلحق به !.

وها هي قد أصبحت وحيدة فعليًا, ببيت يخشى الناس ولوجه وقد أسموه ببيت المجانين, نعم وحيدة, ولكن ليس تمامًا, ما زال لديها البعض, ومنهم صديقتها الوحيدة, هالة التى اختفت هى وطفلتيها فجأة منذ, منذ متى؟ ربما شهرين أو ثلاثة لا تذكر, والأغرب أنها لم تسأل, اكتفت بقول مديرة دار الروضة بأن والدة جنى و لُجين مريضة للغاية, أم اكتفت برسالة نصية من هالة مؤلفة من كلمات قليلة فقط:

- بناتي يا رؤى, بناتي فى عهدتك

نعم هى تعلم أنها مريضة فما الجديد ولماذا القلق؟!, سيعدن حتمًا, ربما هم فى سفر ما, نعم ربما, من يدري!

هل الألم الذى يعتصر قلبها الآن هو ألم فراق ما تبقى من عائلتها فقط, أم ألم الوحدة التى ستزداد وتنهش ما تبقى من انسانيتها, وهل تبقى من آدميتها شىء بعد ما فعلته بأمها؟!,

توقفت حركتها مع توقف جسدها فجأة وقد ودعت الذكريات عند هذا الحد وعدَّلت من وضع النظارة الشمسية القاتمة فوق عينيها رغم غياب أشعة الشمس بفعل الرياح القوية المحملة بغبار ورمال القبور من حولها وقد أدركت أنها قد تاهت بين المدافن واختلف الطريق عليها, ابتعدت نعم ولكن ليس كثيرًا, وهي الآن لا ترى أحداً يمر بها لتسأله, دارت حول نفسها وهى ترفع أناملها تتلمس وجنتها المبتلة من أثر الدموع, ثم قررت أن تمشى فى خط مستقيم لتصل إلى ذاك المنعطف التى رأته وهى تشرأب برأسها وتستطيل على أصابع قدميها الطويلة لعلها ترى منفذاً من بعيد .

سارت خُطوات متعجلة متحسسة طريقها والصمت يحوم حولها, يقلقها ويثير مخاوف قديمة برأسها, رائحة الموت تنبعث من كل اتجاه, تُرى هل يُحاسبون الآن على ما فعلوا فى دنياهم, بماذا يجيبون, هل يُعذَبونَ بذنوبٍ أم ينعمونَ بتوبة؟!, أجفلها نباح كلب يفر فى الطريق الغير ممهد من بعيد وقد سَهجَت الريح فأسرعت تحث الخطى حتى بدأت تلهث بقوة وتتعثر خطواتها التى اقتربت إلى الركض واستحال سواد ملابسها إلى الرمادي بفعل الغبار المتناثر والأكياس البلاستيكية والأوراق المُمزقة المتطايرة من حولها وأمامها بفعل الرياح, لحظات أخرى وتراءى لها باب إحدى المدافن القريبة مواربًا قليلاً وسمعت صوتًا ما آتٍ من الداخل, ظنت على الفور بأنه أحد الزائرين لهذا القبر, وأنها قد وجدت أخيرًا مرشدًا لتلك المتاهة الحجرية التى ضاعت بها, صعدت السُلم الصغير واستندت بكفها على حافة الباب وهى تنظر للداخل وتتنحنح بخفوت دافعة الباب بخفة قليلاً وتتقدم خطوات بطيئة متمهلة نحو شاهد القبر باحثة عن مصدر أصوات تُشبه الهمس, ارتفع حاجباها دهشة عندما وجدت المكان خاليًا تمامًا, لا أحد على الإطلاق !

هل كانت تتخيل أم ماذا ؟!

نفضت القلق عنها وهى تشرع فى الإستدارة للعودة ولكن جسدها ارتج للخلف بقوة قبل أن تُكمل استدارتها وارتطمت بأحد حواف الباب الحديدي خلفها بقوة فأغلقته لتصبح وحيدة بالداخل, اتسعت عيناها بذهول ورعب وهى متجمدة تنظر إلى غطاء القبر الذى بدأ يتلاشى فجأة أمام ناظريها وكأن ذرات ترابه وأحجاره تتبخر فى الهواء بسرعة كبيرة وتغيب فى السماء التى أكفهرت فجأة وأظلمت, بضجيج يكاد يصم أذنيها, تعرى القبر وظهر جليًا من الداخل ورأت الجسد المسجى بداخلهِ محاطًا بالكفن الأبيض ووجه مكشوف أمامها, لا ليس وجهه, بل وجهها, إنها امرأة .


حاولت أن تتراجع ولكن قدماها تجمدتان عن الحركة فسقطت على ركبتيها هلعًا فوق الرمال المبعثرة على أرض المدفن وغاص قلبها بين أضلعها، حتى شعرت بجنون نبضاته تكاد تخترق حنجرتها, حاوَلت أن تصرخ ولكن صوتها اُحتُجزَ فى قاع حلقها, عندها أدارت المرأة وجهها الشاحب إليها شحوب الموت وقد رحلت عنه ألوان الحياة وغارت مقلتيها للداخل, تعرفت رؤى على ملامح المرأة وحاولت الصراخ باسمها, هالة !, ولكن صوتها لم يصل لفمها أبدًا, صوت همس هالة كان أشبه برياح تعبر بجوار أذني رؤى فاتسعت عينيها عندما فهمت ما همست لها به والذى لم يكن سوى كلمتين فقط " بناتي .. بناتي "

#وقالت_لي


الفصل الثاني : رحيل


2-

خرج من عمله مندفعًا نحو سُلم الشركة الخارجي, يحمل سُترته بأصابعه خلف ظهره وقميصه غير مُهندم مفتوحة أول ثلاثة أزرار منه بعبث وكأنه خارج من معركة ما للتو, تابعته عيون رجال الأمن أسفل البناية بفضول وتساؤل, بينما تجاهل نداءات عادل صديقه و زميله فى العمل المتكررة والذى حاول اللحاق به قبل أن يبتعد ولكنه لم يجبه, لقد خُصم له منذ قليل ثلاثة أيام أخرى من راتبه على إثر مشاجرة افتعلها هو عندما أخطأ متدرب فى أحد أرقام الحسابات, لم يكن مجرد شجار أو انفعال, لقد أمسك بتلابيب الموظف وهو يصرخ به ويسبه, حاول زملاؤه تهدئته ولكنه لم يستجب لتحذيرهم حتى سمعه مدير فرع الشركة الذى اكتفى فى المرة السابقة بمجرد لفت نظره وتوبيخه, أما هذه المرة فلقد تجاوز حدود العمل بكثير, شهر تلو الشهر وهو يفقد أعصابه واتزانه وحب زملائه بسبب سلوكه العنيف والغير مبرر من وجهة نظرهم, لا يعلمون ما يعانيه بعد فقدانها, الندم والألم أصبحا يلوكانه بين فكيهما, المسؤولية التى باتت تثقل كتفيه تجاه ابنتيه بعد غياب والدتهما لم يعد يحتملها, كل يوم يقف عاجزًا أمام حروف جنى و لُجين المبعثرة لا يستطيع فهم جملة مفيدة منهما, لا يستطيع التعامل معهما, اكتشف ولأول مرة أنه لم يكن والدهما فعليًا, لا يعرف عنهما أى شىء, ماذا تأكلان, كيف تنامان, ماذا يفعل عندما تستيقظ إحداهما ليلاً باكية من نومها وأحيانًا مُبللة فراشها, تنادي أمها وتبحث عنها فى جميع غرف المنزل وفى النهاية تجف دموعها فوق وجنتها وهى تنام مرغمة وشهقاتها متواصلة تشق صدره, لا يعلم ماذا يفعل .


هل كنتِ تحملين كل هذه المسؤولية يا هالة دون أن أدري, دون أن أشعر, بل كنتُ أحيانًا أتساءل ماذا تفعلين طوال اليوم فى غيابي, اليوم علمت, اليوم أدركت, اليوم أنام فى فراش بارد وحدي, أفتقد حتى شجارك معي, أفتقد روحك الدافئة, حبك الصامت لي. لماذا لا نشعر بقدرهم إلا بعد أن يرحلوا, ذهابًا بلا عودة؟.

أحتاجك يا هالة أحتاجك بشدة !.

عندما عاد إلى منزله مر فى البداية على شقة والدته ولكنه لم يجدها, ولم يجد البنات أيضًا, ترى أين ذهبت؟, صعد إلى شقته التي لم يعد يدخلها إلا نادرًا منذ وفاة زوجته وانتقل هو وبناته للعيش فى شقة والدته بعد أن أصبحت الوحدة صديقهم الأوحد, دارت عينيه فى الأركان وهو مازال يقف على عتبتها, نوافذ شقته كانت مغلقة والستائر تحجب عنها الشمس كما تركها تمامًا, الغبار يعلو الأثاث والسجاد والحوائط, كانت تعج بالأصوات والحركة والحياة, والآن صامتة كالقبر بلا زوار.

لم يستطع أن يخطو خطوة للداخل إلا قبل أن يمد أنامله ليُضيء المصابيح, وعندما دخل لم يغُلق الباب خلفه, تريثت خطواته وهو يلج غرفة الفتيات ويُشعل ضوئها فى البداية قبل أن يلفها بعينيه لثوانٍ, ترى أين خبأت والدته الدفتر التى كتبت فيه هالة خطابها الأخير له ولبناته, لقد خشيت عليه والدته الانهيار مرة أخرى فخبأت الدفتر ولم تخبره بمكانه, كانت لديه رغبة قوية فى قراءة وصيتها لجنى و لُجين ولكن والدته لم تمهله فاستطاع بالكاد قراءة كلمات مبعثرة هنا وهناك فى الورقة, تعلقت عينيه فقط بالكلمات التى كررتها هالة للبنات وهى تطمأنهما قائلة مرارًا وتكرارًا:

- سأكون حولكما دومًا, وكعادتى سأنام بغرفتكما دون أن ترياني

ترى ماذا كانت تقصد بتلك الجملة وماذا كانت تعني بتحذيرها إياه عندما كتبت له " أحذر غضبى " !

فى تلك اللحظة نبأته حواسه بأنه لم يعد وحيدًا فى الشقة عندما سمع صوت حفيف ثياب كحفيف أوراق الشجر قادمًا نحوه وشعر بكف باردة توضع على كتفه من الخلف, التفت فزعًا وقد صدر منه رغمًا عنه شهقة مكتومة, وما أن اكتملت استدارته حتى واجه عينيها وهى تحرك رأسها وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة وتقول:

- العادات القديمة لا تموت !

زفر بقوة والشحوب يودع وجهه وتعود إليه الحياة مُجددًا وهو يمسحه بكلتا يديه ثم ينظر لها وهو يرفع عينيه إليها بعتب قائلاً:

- لا أعلم ماهى هوايتك فى إفزاعي هكذا كلما حانت لكِ الفرصة!

ضربت والدته بعصاها على الأرض وهى تضحك بخفوت قائلة:

- لا أستطيع أن أفوت على نفسي فرصة رؤيتك وأنت مذعور هكذا كالأطفال

زفر من جديد وتخطاها حانقًا وخرج من الغرفة ثم من الشقة كلها هابطًا إلى الأسفل ومازال قلبه يحارب ليعود إلى نبضاته الطبيعية, تستغل والدته كل فرصة ممكنة لإفزاعه بمتعة عجيبة وكأنها تلهو منذ أن علمت بالفوبيا التى تُصيبه فى الأماكن المهجورة والأصوات العالية المُفاجئة بجواره .

تحولت ملامحه من التشنج والحنق إلى الحنو والهدوء عندما وجد ابنتاه تقفان على عتبة باب شقة والدته ويرتديان ملابس دار الروضة المخصصة بهما, جنى تُكتف يديها فوق صدرها وتحاول أن تضغط جرس الباب بلسانها و لُجين تدفعها بعيدًا عن زر الجرس بتقزز وهى تنظر إلى لسان أختها وكأنه قد تحول إلى ثعبان يريد ابتلاع فريسته ببرود, أسرع بالخطى نحوهما وحملهما فجأة تحت ذراعاه وهو يدخل بهما شقة والدته هاتفًا بحب:

- أيتها المشاغبتان

لحقت بهم والدته وأغلقت الباب خلفها ووقفت تنظر إليه وهو يدغدغهما وهما تضحكان بصعوبة وتنظران إليه نظرات مندهشة لعدم اعتيادهما على مداعباته أو التقرب منه, تقدمت والدته وجلست على الأريكة العتيقة بجوارهم وهى تقول بلا مقدمات:

- لقد وجدت لك عروس مناسبة

توقف عن الحركة وضاعت نظراته مع اختفاء ابتسامته بالتدريج فلم يبقى منها سوى شبح ابتسامة مرسومة فوق وجه حزين بينما ضحكات البنات كانت تصله وكأنها صدى يتردد من بعيد, ألن تيأس أمه من هذا الحديث, ألن تمل أبدًا؟!.

يكفي هالة وما سببه لها من ألم وعذاب, حتى آخر رمق لها, هل يُدخل امرأة أخرى فى حياته ليعذبها هى أيضًا حتى تموت مكتوية بناره !, رفع رأسه عندما سمع حديث والدته مُكررًا بتصميم هذه المرة:

- هشام, كن واقعيًا, أنا أتحرك بصعوبة وأختك عصبية ملولة تحتمل زوجها بالكاد, ولا تسأل عنا سوى فى المناسبات فقط, والبنات يحتجن إلى أم ترعاهما, اليوم تعبت بشدة عندما ذهبت بهما إلى دار الروضة وهناك بحثت عن عاملة تأتى لتأخذهما كل يوم إلى هناك وتعيدهما ثانية فى آخر اليوم .

لقد استطعت أن أجد مخرج لتلك المشكلة أما بقية مسؤوليتهما فأنا لا أستطيع حلها, أنا أعتنى بنفسي بصعوبة يا ولدي

نهض واقفًا وهو يضع كلتا يديه حول خصره وغصة مُسننة عالقة فى حلقه لا فكاك من ألمها, يكاد يتنفس بصعوبة وهو يشعر بها تقف بجواره وتقول بإصرار:

- إنها تحب بناتك ولديها استعداد لترك عملها و..

هتف وهو يستدير نحوها متسع العينين:

- هل هى تعمل أيضًا؟!

حاولت الحديث ولكنه قاطعها وهو يضحك ساخرًا وحروفه تقطر بؤس ومرارة:

- تعمل!, زوجة أخرى تعمل, ماشاء الله, ثم نخوض حرب ضروس بعد الزواج لرغبتها فى العودة للعمل, ومشاجرات لا تنتهي, وألم وعذاب ثم موت .

- ياولدي هى ستترك العمل بإراداتها وستـ..



صرخ مقاطعًا أمه من جديد وقد صارت عيناه حمراء بلون الدم من فرط انفعاله وهو يسترجع لحظات شجارهما فى أول عام مر عليه بعد زواجه الأول:

- هالة تركت العمل أيضًا بإرادتها من أجلي, ثم ماذا, ألم تشهدي بنفسك على حربها معي لكي تعود لعملها؟!, لا يا أمي .. لا وألف لا, لو كانت هذه الفتاة هى آخر امرأة على وجه الأرض لما تزوجتها أبدًا.

وقبل أن تستوعب كلماته كان قد خرج من الشقة بنزق صافعًا الباب خلفه بقوة معلنًا رفضه الصريح لرؤى دون حتى أن يعلم من هى.

***

ها هى قد رُفضت كما توقعت من البداية, وقبل أن يراها من الأصل, فكيف لو رآها؟, رفعت رؤى رأسها بإحباط تخشى النظر لعيني والدة هشام حتى لا ترى انعكاس هزيمتها فى معركة لم تبدأ بعد وهى تسمعها تتنهد بحسرة قائلة:

- أعلم ياابنتى أنك وافقتي على مضض, لقد حكت لي هالة رحمها الله كل شىء, وأنا الآن وجهي منكِ فى الأرض, لا أعلم ماذا أفعل

ضغطت رؤى الدفتر الذى تركت به هالة الوصية والرسالة بين يديها بانفعال وتوتر رغمًا عنها قبل أن تقول بصوت لايكاد يُسمع:

- لا عليكِ يا خالة, المهم الآن هو مصلحة جنى و لُجين, أيًا كانت من سيتزوجها لابد وأن تكون رحيمة تستطيع التعامل مع حالة الفتيات بعد أن انزوتا هكذا .

أومأت والدة هشام برأسها مؤكدة وهى تمط شفتيها بحيرة, أين تجد من تتوفر بها هذه الصفات, لقد شاهدت فتيات كُثر فى المركز الطبي كلما ذهبت للحجامة أو التحدث مع عبير هناك, فهل تجد عندها مطلبها؟, نهضت واقفة متكأة على عصاها بضعف وظهر منحني وقد عقدت العزم على ألا تترك عبير إلا بعد أن تُرشح لها أكثر من فتاة مناسبة لظروف ولدها وبناته, لا سبيل آخر أمامها .





تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-