أخر الاخبار

رواية #وقالت_لي .. الفصل رقم 4 .. دعاء عبد الرحمن

 #وقالت_لي


الفصل الرابع : الروح


-1-


كان ذلك اليوم مختلفًا جدًا, مختلفًا لدرجة أن لاحظ زملاؤه فى العمل تبدل حاله بشكل مفاجئ, بداية من رجال الأمن على بوابة الشركة الذين لم يصدقوا أنفسهم وتبادلوا مع بعضهم البعض نظرات مندهشة عندما مر بهم فى الصباح بابتسامة واسعة وهو يلقى عليهم تحيته التى غابت عنهم لشهور, أما الخمسة موظفين الذين تضمهم غرفة مكتبه بداخل الشركة فلم يكونوا أقل اندهاشًا, بل على العكس, ردوا تحيته وهم يحملقون به ويتأملون هيئته الجديدة, ذقنه الحليق, ملابسه المهندمة, يده التى ترتفع بالسلام على كتف كل من يقابله منهم, يوزع ابتساماته بالعدل على الجميع, واحد فقط من الخمسة هو من لاحظ قلق دفين خلف تلك النظرات المُشعة, ومن يكون سوى صديقه الوحيد.

عندما جلس هشام أخيرًا خلف مكتبه وهو يُرسل نظرات ضاحكة رُغمًا عنه نحو عادل الذى كان ينهض من خلف مكتبه ويتقدم نحوه, أحنى عادل جذعه تجاه هشام وهو يربت على كتفه هامسًا بتفكُه:

- هل يعني هذا أنه تم تحديد موعد الزواج؟

التفت إليه هشام محاولاً كبح جماح شىء مُزهر لا يعلم كنهه, يغرز بتلات سعادة بقلبه, مطلاً بقوة من خلف نظراته يعلن عن نفسه ويفضح صاحبه, وهو يرد على همسته بهمسة زاجرة قائلًا:

- دعني الآن يا عادل وأعدك أن أُشبع فضولك عندما ينتهي العمل, اتفقنا؟

اعتدل عادل واقفًا وهو يرفع كلا حاجبيه ويحرك رأسه ويتنهد بيأس من صديقه, نعم لقد تغير مظهره, بدى الإشراق على وجهه, ولكن, هشام سيظل هشام إلى الأبد, يخاف أن يُعلن عن سعادته أمام الناس, يخشى إظهار فرحته لهم, يعتبر الحب سرًا من الأسرار العليا لا يجب أن يعلمها أحد, بل ولا يلاحظها من الأساس, يخاف من الحسد؟, أم ربما يرى الحب ضعفًا يجب أن يوارى خلف الحُجُب!

فى نهاية اليوم وفّىَ هشام بوعده وهو يسير بجوار عادل ويحكي له القبول الذى شعر به عندما رأى جدايل لأول مرة, وكيف قابله عمها وزوجته مقابلة حسنة ومُتفهمة لظروفه, وكيف عجلت والدته بالأمر كأسرع من سلق بيضة من دجاجة يتيمة, ولم تنتظر حتى أن يصلي صلاة استخارة, وقامت بكل الاتفاقيات اللازمة بالنيابة عنه فى جلسة واحدة بحماس متقد وكأنها تترافع فى قضية رأي عام!, ولقد كان حدس عادل فى محله تمامًا فبالفعل تم تحديد موعد عقد القران فى نهاية هذا الأسبوع, والزفاف فى نهاية الأسبوع المُقبل, وهذا يعني أن أمامهما عدة أيامٍ فقط للتعارف, وعليه أن يجعلها تعتاد عليه بعض الشىء قبل الزفاف .

وضع عادل مجموعة من حبات الفول السودانى دفعة واحدة بفمه ثم قال باعتراض:

- والدتك لم تقم بعملها كما يجب

التفت نحوه هشام بدهشة بينما حافلة ذات لون أحمر باهت تمر بجواره مُسرعة وتلال من البشر يتعلقون بأبوابها المفتوحة وعادل يومئ برأسه مؤكدًا:

- نعم لم تقم بعملها جيدًا, كان يجب أن تتعلم من والدتى, فلقد اتفقت فى جلسة واحدة على زفاف مباشرة خلال عشرة أيام فقط, وتم لها ما أرادت

كاد هشام أن يُعلق ولكنه لاحظ شرود عادل بعض الشىء وهو يستطرد بنظرات غامضة:

- ربما لأن ظروف رؤى زوجتي مختلفة, فهى وحيدة

تنحنح هشام وقد أدرك للتو أنه نذل كبير, فلم يخطر بباله مرة واحدة منذ شهر كامل, مذ أن حضر حفل الزفاف الصغير لصديقه أن يسأله عن أحواله مع زوجته الجديدة, وهل هو مرتاح معها أم لا!, فهو يعرف عادل جيدًا, إنه عكسه تمامًا, يكتم الحزن بداخله ويرتدى قناع المرح دومًا ليداريه عن الناس, أما السعادة فهو كفيل بالإعلان عنها لكل من هب ودب!, فلقد أعلن خبر زواجه على الشركة بأكملها بمجرد أن اتفق على موعد الزفاف, بل وتعارك مع مدير فرع الشركة لأول مرة ليحصل على إجازة لأسبوع كامل, وعندما عاد من إجازته لم يكن يمشي بل كان يطير على أجنحة السعادة بينهم, أما ومن أيام قليلة, فقط عدة أيام لا تتعدى أصابع اليد الواحدة, تبدل حاله, أصبح يشرد كثيرًا, وهو لم يكلف نفسه ليسأله لماذا!, حسم قراره وخِصاله بعدم التدخل فى شؤون الآخرين تحاربه وتساءل بحزم لم يقصده:

- بمناسبة حديثك عن زوجتك, كيف حالك معها أنت وطفلك؟

زفر عادل بقوة وقد ظن بأن هشام لن يسأله أبدًا, فهو يحتاج للحديث ولكن لا يعلم ماذا سيقول بالضبط, إنها مجرد مخاوف لا يعلم لماذا تراوده بشأنها, نفض كفيه من بقايا قشر الفول السودانى العالقة به ودسهما فى جيبي بنطاله كعادته وقد توترت نظراته قليلاً وهو يقول:

- لا أُخفي عليك ياصديقي, فى البداية كانت علاقتنا جيدة للغاية ولقد شعرت بحبها لي وحاجتها لحبي, وأصدقك القول هى تهتم بي وبطفلي بحب لم أكن أتخيله, ولكن فى الأيام الاخيرة تبدلت قليلاً, هناك شىء ما تخفيه ولا أعلم ماهو !

رفع هشام يده يحك ذقنه مفكرًا وهو يمط شفتيه ثم عقب قائلاً:

- تقصد أنها لم تعد تهتم ؟

حرك عادل رأسه على الفور نافيًا وهو يجيب والحيرة تزداد بقلبه وعقله أكثر:

- لا, هى تهتم بلا شك ولكن, تُخفي أمرًا ما عني, منذ أيام خرجت ولم تخبرني تاركة طفلي عند والدتى, وعندما سألتها بهدوء ثارت بدون مبرر واتهمتني بأننى أحبسها بالبيت وأراقب خطواتها كالمجنونة.

- ألم تعرف إلى أين ذهبت؟

ودون أن يجيبه توقف فجأة أمام دُكَان صغير زُجاجي يعرض أنواع شتى من الزهور وابتاع منه باقة ورود صغيرة مختلفة ألوانها, جمعها له البائع بمهارة وسرعة بداخل عقدة حمراء اللون زاهية, دفع عادل ثمنها وهو يتأملها برضا, وعندما خرجا لُيتابعا سيرهما, أستكمل عادل حديثه وكأنه لم يتوقف قائلاً:

- المشكلة بالنسبة لي ليست أين ذهبت, أنا أثق بها وأعلم أن النساء تحتاج أحيانًا إلى التسوق بعيدًا عن سأم الرجل السريع, المشكلة أنها تضع بيننا المسافات والحواجز وتُخفي الأمر عني, أصبحت تشرد كثيرًا وعندما أسألها تتهرب مني

نظر هشام إلى باقة الزهور بيد عادل وقال ساخرًا:

- وهذه الزهور رشوة بالطبع لتبوح بما تخفيه

ضحك عادل بخفة وهو يرفع الزهور يستنشقها بقوة ثم يردف مبتسمًا:

- نعم هى رشوة بالفعل, ولكن لأمر آخر, لأنها طلبت العودة إلى عملها اليوم صباحًا ونحن نتناول الإفطار سويًا وأنا رفضت فغضبت مني, حاولت مصالحتها والتفاهم معها ولكنها أوصدت باب غرفة النوم وهتفت من خلفه بطفولية بأنها لن تخرج حتى أرحل .

سكت هشام تمامًا وهو يتنهد بعمق وهو يسبل أهدابه حتى كاد أن يصطدم بالعجوز الذى مر بجانبه, وبداخله يحمد الله على أنه سبحانه ألهمه بعدم الموافقة على الزواج منها, ماذا لو كان تزوجها وقلبت حياته إلى جحيم لتعود للعمل مرة أخرى كما تفعل الآن مع عادل وكما فعلت هالة معه من قبل .

توقفت أفكاره للحظات عندما قفزت ذاكرته إلى هالة الراحلة, التي قامت بنفس العاصفة عندما رفض أن تعود لعملها بعد الزواج, ولكنه لم يأت لها بزهور, تركها تغضب وتصيح كل يوم وعندما سئِمَ أخذ يبادلها صياحًا بصياح وشجارًا بشجار واستحالت حياته إلى جحيم فِعلي لم يُخرجه منه إلا حملها بالتوأم جنى و لُجين .

لكزه عادل بكتفه ليعبر معه الطريق سريعًا ويهبطا إلى أقرب محطة مترو, وعندما وقفا على الرصيف فى انتظار القطار القادم, نظر هشام نحو عادل وقال وكأنما يتحدث إلى نفسه:

- وهل تعتقد أن الزهور تأتي بنتائج مع امرأة عنيدة, مُصممة على ما برأسها

ابتسم عادل وهو يعلم بأن هشام فى هذه اللحظة لا يتحدث عن رؤى, إنما هو عالق فى ماضيه, فمال باتجاهه قائلاً بخفوت:

- المرأة لا تكون عنيدة إلا عندما يهملها زوجها يا هشام, فتريد لفت انتباهه بعِندها كما يفعل الأطفال, لذلك أنا على يقين بأنها تريد العودة للعمل لا للعمل نفسه ولكن لأنها شعرت بانشغالي فى الأيام الماضية وبدأ اهتمامي بها يتناقص

ورفع باقة الزهور أمامه وهو يتابع بمرح ماكر:

- وباقة الزهور هذه كفيلة بالأمر, مع كوب من غزل غير عفيف, ورشة من شغف رجل بامرأته لا تستطيع أن تصده, وهكذا أستطيع أن آكل عنادها هنيئًا مريئًا !

بُوق القطار قضى على الحروف المتبقية من حديثه وتحفز جميع الناس على محطة القطار وعندما توقف أمامهم يفرد طوله على الرصيف الطويل وفتحت أبوابه اندفع الناس إليه, لدرجة أن من يحاول الخروج ربما يدخل مرة أخرى بقوة الدفع, هذه القوة البشرية هى التى دفعت بـ هشام للداخل بصحبة عادل ولكن عقله كان وحيدًا تمامًا, منفصل بالكلية عما يحدث من حوله, والتساؤلات تدور بذهنه بلا توقف, لماذا كان يظن زوجته لا فائدة منها, ولماذا لم يلجأ إلى ناصح أمين كـ عادل له خبرة فى التعامل مع المرأة, ربما كانت مشاكله قد حُلت معها, كان يرى حياته معها بمنظور واحد, منظور متجمد, لو هُدمت الدنيا حوله لن ينظر لها من غيره, ولن يحيد يمينًا أو يسارًا, ربما كان سيجد بابًا آخرًا يلج منه إلى نقطة تفاهم مع هالة, كان دائمًا يحاول فتح باب خلفي, بينما الباب الأمامي مُشرع على مصرعيه !

***


زخاتُ مطر خفيف تتسابق واحدة بعد الأخرى فوق سطح زجاج نوافذ السيارة المؤجرة, تُلاعب المسَّاحات الأمامية لها وتتحداها أن تستطع محوها بسهولة, بينما طرقاتها الخفيضة المتتابعة ترفع رايتها البيضاء مُعلنة الهزيمة أمام قوة ضربات قلب جدايل الساكنة على المقعد المجاور لـ هشام وهو يقودها إلى بيته, إنها تُحب صوت تلك الطرقات الهامسة على الزجاج المجاور لها, طيلة العام تنتظر الشتاء لتنصت لها ليلاً من خلف نافذتها المُغلقة وكأن بينهما خبيئة ما, تتلحف بغطائها الصوفي الثقيل وتُغمضُ عينيها, " المطر" تنام على ترنيمته الهادئة كرضيع فوق ساقي والدته وبين ذراعيها مسترخيًا بجسده فوق صدرها وهى تهدهده بلحن يعتاده يوميًا, ما بالها الآن لا تستطيع أن تستمع له وقد ذوى صوته وتراجع خلف نبض خافقها الذى يضخ بين أضلعها بصعوبة مؤلمة, خوفًا, قلقًا, أو انتظارًا !

لو كان الانتظار يقتل لقتلها فى التو, لماذا ضاقت المساحة الفاصلة بينهما بداخل السيارة هكذا, تكاد أنفاسه الثقيلة بصحبة عينيه المتعلقة بالطريق تبتلع الهواء بالكامل بداخل السيارة الغارقة بهما فى اللازمان, تكفي شحنات التوتر التى لازمتهما منذ بدأت منحنيات الطريق يشير إلى اقتراب منزله, متى سيصلان وينتهى الأمر لتبدأ رئتيها فى التنفس من جديد .

كان يلتفت نحوها بطرف عينيه بين دقيقة وأخرى ثم يعود ليتابع الطريق مجددًا, يكاد يسمع دبيب أفكارها المُشتتة بوضوح, تشي بها بشرتها المتقلبة الألوان بين الوردي المُحبب والشحوب الشديد, وهى تتابع بعينيها حبات المطر, بداية قوية لشتاء يعده بالكثير, أحيانًا يُذكرنا الشتاء بما فقدنا, أو ربما بما كنا نملك ذات يوم !.

لقد فعل كل ما بوسعه فى الأيام السابقة ومنذ أن عقد قرانهما ليجعلها تعتاده كخطيب وزوج, جلسات مطولة بينها وبين بناته, كانت لها نصيب الأسد من الزيارات العائلية وقد كان يترك لها مجال الانفراد بالفتيات وحدهما لفترة طويلة كما طلبت منه ليعتادا على وجودهما معها, كان يفرح باهتمامها بهما وخصيصًا أن قالت له والدته بفخر ذات مساء:

- جدايل قالت لي أنها قد اشتركت فى دورة لعلاج تأخر النطق عند بناتك

خجلها المتزايد لم يكن يترك له فرصة سوى بعض المكالمات الهاتفية التى كان معظمها من نصيب والدته, والدته التى كانت شريكًا أساسيًا فى اختياراتها لأثاث بسيط احتل أركان شقته من ثلاثة أيام فقط. أصر هشام من البداية أن لا يعيشان مع والدته بشقتها, ولم تُمانع الأخيرة أو تعترض وكأنها هى أيضًا أصابتها حمى الخوف من تكرار الماضى, فأحضرت امرأة تعرفها لفتح شقته وتنظيفها حتى صارت جديدة براقة وباعت جُل أثاثها القديم, لتتأنق الشقة بأثاث جديد للعروس القادمة على استحياء, ها هى قد أوشكت على التخلص من هذا العبء الثقيل ورميه على أكتاف أخرى, بداخلها يعرف بأنها شاركت فى تعاسة ولدها مع هالة, ضميرها يؤلمها ويحثها على عمل أي شىء لتراه سعيدًا مستقرًا مرة أخرى, فكل شىء مباح فى الحب والحرب !, والآن تقف بانتصار فى صدر الشقة وأمام بابها بعد أن وضعت طعام العشاء للعروسين .

وجبة فاخرة تركت من أجلها حفل الزواج الصغير الذى لم يحضر فيه سوى المقربون فقط, حتى عادل حضر وحده واعتذر عن عدم حضور زوجته لمرضها, وجعلت ابنتها وزوجها يُقلاًّها بسيارتهما إلى المنزل لتُعدها كما يجب, وتضعها فى شقة ولدها قبل وصوله هو وعروسه .

استمعت إلى أصوات أقدام وحفيف ثياب ثقيلة تصعد السُلم فتحركت على الفور تجاه باب الشقة المفتوح من البداية لتستقبلهما أمامه قبل دخولهما, كان المطر قد نال من ملابسهما فابتل فستان العُرس الأبيض ولم تنجُ حُلة هشام من البلل التام وقد خلع سترته بمجرد أن خرج من سيارته ورفعها فوق رأسيهما لتحميهما قدر المستطاع من الماء, أقبلت والدة هشام تُهنئ جدايل وتحتضنها وقد دمعت عيناها بهدوء وراحة عندما بادلت هشام الاحتضان وهى توصيه بعروسه, ولم تنسَ أن تلذعه بلسانها قبل أن تغادر هامسة فى أُذنه:

- أرفع رأس أبيك يا ولد

تركته والدماء تغلي في عروقه بسببها وهبطت للطابق الأسفل لشقتها حيث ينتظرها فراشها الدافئ بجوار الفتاتين النائمتين فى فراشها منذ أن حملهما زوج ابنتها من سيارته ووضعهما فى سريرها وانصرف هو وزوجته دون تقديم عرض مبتذل عن اصطحاب البنات معهما ولو حتى لحفظ ماء الوجه, ولمَ يفعلان؟ وماذا لو وافقت؟ لا .. الأفضل ألا يتدخلان من البداية كما هما دومًا !

حملت جدايل فستانها الثقيل بفضل البلل وهى تَلج للداخل ولم تنسَ تنظيف حذائها جيدًا قبل الدخول بينما تبعها هو مُغلقًا الباب خلفه بهدوء, وقف بجانبها يلتقط أنفاسه ويراقبها وهى تتجول بنظرها بين أركان صالة الاستقبال بتمعن وكأنها تتأكد أن كل شىء مكانه تمامًا كما وضعته أول أمس, ابتسم بحماس وهو يدعوها للجلوس قليلاً ولكنها قالت بخجل وهى ترفع ذيل فستانها عن الأرض :

- سأدخل لأبدل ملابسي أولاً, ذيل الفستان مبتل وقد علق به التراب وأخشى أن يُفسد السجاد أكثر من هذا

أومأ لها موافقًا برأسه وهو يتنحنح مُحرجًا دون سبب واضح, خلع حذاءه وتركها تدخل غرفة النوم بينما تقدم هو قاصدًا أول مقعد أمامه وجلس وهو يُرجع ظهره للخلف مغُمضًا عينيه محاولاً الاسترخاء قليلاً وتجميع عبابيد أفكاره المندفعة بكل اتجاه بعقله, اليوم كان مُرهقًا جدًا له, أضطر إلى عمله صباحًا لعدة ساعات قبل أن يذهب بعد مداولات عدة لمحاولة الحصول على إجازة زواج لأيام, والتى لم يستطع أن يحصل منها سوى على يومين فقط يليهما يوم الجمعة والسبت, إجازة طويلة بالنسبة له لم يحصل عليها من قبل سوى فى الأعياد !

هل تأخرت جدايل بالداخل أم هو فقط يتوهم, أم لعله يشتاق؟!,

زفر وهو ينهض واقفًا لا يدري ماذا يفعل, أخذته قدماه دون إرادة نحو غرفة بناته المُغلقة, فتحها برجفة دفينة لا يعلم سببها ودخل ويده تسبق قدميه وترتفع تلقائيًا نحو زر الإضاءة كعادته, وقف يتأمل الغرفة النظيفة حوله بذهن شارد ويداه تتدفأ بجيبي بنطاله, يَشعُر بالاشتياق الشديد لأول مرة بحياته, هل لأنها عروس جديد؟, ولكن لا, لقد كان يشعر بهذه اللهفة لرؤيتها وللحديث معها فى كل مرة يذهب لزيارتها, أو تأتي هى لوالدته, فى كل محادثة هاتفية كان يتذرع بأي موضوع ليُطيل الحديث معها ويسمع صوتها أكثر, فهي خجلة جدًا, يراها غامضة, هل يكون هذا هو سبب شغفه, كونها غامضة عليه, لا تتحدث بالكثير, لا تُثرثر, مازالت كتابًا مُغلقا مُدَون بلغة أخرى غير لغته .

" ألم أقل لك " !, عبارة رن صوتها بخاطره جعلته ينتفض, ويتراجع للخلف بظهره حتى خرج من الغرفة و يسحب بابها معه ليغلقها مُجددًا, يرى حروفها ترتسم بعقله وقلبه معًا, وكأن أحدًا ما يشاركه قلبه وعقله ورأى ما يدور بهما فأجابه على الفور بها, مجرد حروف ولكنها صاخبة جدًا, ضج بها فؤاده, " إذا تزوجت بأخرى غامضة صامتةً ستصبح شغوفًا بها, على عكسي " !, مرر كفه على خصلات شعره وأصابعه تنغرز فيها بتوتر شديد وكلماتها السابقة له تسحق ضميره سحقًا وتَدْلَهِمَّ بها سماء عينيه .

- هشام !


استدار سريعًا للخلف وأهدابه ترفرف بقوة وكأنه يجبر عقله على الخروج من ذكرياته ليرى من تقف أمامه فى هذه اللحظة, ليستعيد حاضره, أطرق للحظات وهو يحاول تهدئة أنفاسه المتصارعة بصدره ثم رفع رأسه نحوها مبتسمًا بمرح زائف ويسألها:

- هل تُخططين لقتلي جوعًا ؟!

ابتسمت جدايل وهو تُطرق برأسها هامسة:

- آسفة, تأخرت بالفعل

تأملها قليلاً قبل أن يُشير نحو الطاولة ذات السطح الزجاجي والبيضاوية الشكل التى تتوسط المقاعد الذهبية اللون وقد وضعت فوقها والدته صينية ضخمة مستديرة مملوءة بالطعام, تحركت جدايل بين المقاعد حتى اختارت واحدًا وجلست فوقه بخفة, بينما جلس هو قبالتها والطاولة تفصل بينهما وبدأ يزيح الستار عن الطعام الشهي والصمت يعتلي اجتماعهما المنفرد هذا لأول مرة ويفرض سيطرته, لم يكن لأحد منهما شهية كبيرة فنهضا من جلستيهما تلك بعد دقائق معدودة وهو يدعوها ليُصلي بها ركعتين وهو بداخله يتمنى أن تقضي الصلاة على توتره وتشتت أفكاره هذا ولو بعض الشىء, وبالفعل بدأ الهدوء يعم قلبيهما عندما وقفت خلفه وكبر هو للصلاة, كان يحاول جاهدًا أن يُركز كل تفكيره فى الكلمات القرآنية التى يتلوها بينما شيطانه يجذبه نحو ذكرى بعيدة, حُرمت فيها هالة من هذه الراحة النفسية التى تنساب الآن بين هشام وجدايل, فلم يكن لأي منهما دراية بهاتين الركعتين الخفيفتين وقد انتهت بهما الليلة الأولى نهاية درامية للغاية, أعقبها تدخل سافر من والدته فى اليوم التالي قضى على الكثير من فرحتيهما بأول أيامهما سويًا

تركها لدقائق بعد الصلاة ليبدل ملابسه خارجًا ثم عاد إليها وبداخله حماس لأن تكون هذه الليلة مختلفة عن ما عاشه من قبل, وفى الصباح لن يسمح لوالدته بالتدخل وسيقف لها بكل حسم إن حاولت حتى, لن يُفرط كما فرط مع هالة .

عندما عاد إليها كانت تقف أمام المرآة الكبيرة تُعدل من مظهرها بعد تخليها عن ملابس الصلاة

فوقف حائلاً بينها وبين المرآة مما جعل التوتر يعود إليها وتطرق برأسها أرضًا .

- جديلة

عندما ناداها مُداعبًا لم ترفع رأسها ولكنه استطاع أن يرى ارتعاش جانبي شفتيها ربما بابتسامة صغيرة, أمسك بكفيها وقبلهما برقة هامسًا محاولاً استعادة جميع الدروس المُستفادة التى أخذها من عادل طوال الأيام السابقة:

- أشعُر بمشاعر مختلفة لأول مرة بحياتي, لأول مرة قلبي يتنفض شوقًا عندما أقترب من امرأة, حقيقة أنتِ تمنحينني الكثير, أكثر مما كنت أتخيل أن أشعر يومًا

لأول مرة!, همست بحيرة دون أن ترفع رأسها وهى تحاول جاهدة السيطرة على ارتعاشاتها المتواصلة:

- أنت كنت متزوج من قبل !

أرسل تنهيدة طويلة وقد انتقلت حيرتها إليه ربما عبر أناملهما المتشابكة الآن والتى يضغطها برفق بين أصابعه:

- نعم, ولكن صدقيني, أنا أحيا معكِ مشاعر تطرق باب قلبي لأول مرة

ارتعاشة أخرى لاحظها على جانبي شفتيها فأراد أن يرى الأبتسامة بوضوح, يريد أن يستمتع بمزيج مشاعرها مع لون عينيها المُميز وهى تبتسم لعينيه عن قُرب, مد يده أسفل ذقنها ليرفع رأسها إليه, رفعت عينيها المتوترة المُهتزة فى البداية نحوه بصعوبة وهى تجاهد لأن لا تنظر فى عينيه مباشرة, رآها تحيد بعينيها جانبًا نحو المرآة من خلفه وفجأة امتقع وجهها وشحب كالأموات, وصرخت وهى تندفع للخلف بقوة وتتعثر وتسقط أرضًا بعد أن اصطدم ظهرها بالحائط من خلفها, ملامح الرعب التى ارتسمت على وجهها وعينيها التى تجمدت على المرآة جعلته يتصلب مكانه للحظة وهو لا يستوعب ما حدث, ابتلع ريقه بصعوبة عندما أفاق من صدمته وهو يلتفت خلفه, لا شىء!, المرآة تعكس صورته بشكل طبيعي جدًا, عاد برأسه إليها فسقط قلبه بين قدميه عندما وجدها قد غابت عن الوعي .

لحظات عصيبة مرت به وهو يحاول إفاقتها بعد أن حملها فوق الفراش وغطاها جيدًا وهى لا تستجيب, وأخيرًا بدأت تتأوه وترمش بعينيها مرارًا قبل أن تفتحهما بشكل كامل, نظرت إلى وجهه المتلهف القريب من وجهها للحظة لا يُدرك عقلها بعد ما حدث, وفجأة استعادت ذاكرة الدقائق السابقة دفعة واحدة, فصرخت من جديد وهى تنظر نحو المرآة, ضمها إليه بقوة وهو يحول رأسه نحو المرآة لثانية ثم يُسيطر على انفعاله بها ويحاول تهدئتها بينما تمد يدها باتجاه المرآة مرتعشة وهى تهتف بصوت مبحوح من الرعب الشديد المُسيطر عليها:

- زوجتك, فى المرآة

عاد يضمها بقوة أكبر إلى صدره من جديد وهو ينظر ثانية إلى ما تُشير ويقول بصوت لم ينجح فى إظهاره متماسكًا:

- لا شىء حبيبتي, أنتِ تتوهمين

حركت رأسها المضمومة إلى صدره بقوة رافضة وهى تصيح:

- لا, رأيتها, كانت تبكي يا هشام, أنا متأكدة

تنحنح لا ليجلي صوته بل لطرد تلك القشعريرة التى دبت بجسده بشدة وقد فشل فى جعل نبرته هادئة, كاد أن يسألها وكيف تعرف شكل زوجته السابقة ولكنه تذكر فى اللحظة الأخيرة أنها رأت صور عدة لها بصحبة جنى و لُجين عندما كانت تحضر لزياتهما فى شقة والدته, لايعلم ماذا يفعل, التوتر يفرض سيطرته على جسده والبرودة تتسلل إليه بمكر يفقده صوابه, هو الرجل, ويجب عليه تهدئتها حتى ولو كان مرتعبًا وهو لم يرَ شيئًا, فكيف لو رأى !

- حبيبتي, اهدئي أرجوكِ, ارتاحِي قليلاً أنتِ مُتعبة فقط .

كان يشعر بصدرها يعلو ويهبط بجنون وجسدها الذى بين يديه ينتفض بقوة وبكاؤها يعلو شيئًا فشيئًا وهى تهتف بلوعة وخوف:

- كانت تبكي يا هشام, ولكن ليس دموع, كانت تبكي دمًا !

ماذا يفعل؟!, يضمها بقوة ولكن عينيه تدور حوله, يُقنع نفسه بصعوبة بأنها تهذي بالفعل وهو يهمس بآية الكرسي ويمسح على شعرها بيده الآخرى, وقعت عينيه على هاتفه الموضوع فوق المنضدة الصغيرة بجانب الفراش فمد يده وهو يميل بجذعه يمينًا حتى استطاع أن يلتقطه, مرر أصابعه فوق أزراره دون أن يفلتها حتى صدح منه صوت الشيخ أحمد العجمي يتلو سورة البقرة, وضع الهاتف بجانبهما وعدل من وضع جسده وهى تتشبث به أكثر حتى استطاع الإستناد بظهره إلى ظهر السرير جاذبًا الغطاء حوله هو الآخر يتدثر به معها وهو يهمس لها بأن كل شىء سيكون بخير وربما هو الخوف من ليلة الزفاف هو من جعلها ترى أشياء لا وجود لها, أغمض عينيه بصعوبة عندما هدأت أنفاسها فى صدره محاولاً إقناع نفسه بما كان يقنعها به منذ قليل !.

***


قضى نومه بين أحلامه المُعذِبة له والتى لم تسمح له بالإنسلاخ منها إلا بعد أن تسرب إليه رائحة دُخان قريب من أنفه, هناك شىء ما يحترق !, انتصب فجأة فى مكانه جالسًا فوق سريره وعقله يجاهد صحوته المفاجأة, ولم تكن عينيه بأقل مجاهدة من عقله وهى تحاول بكل الطرق اختراق سحابة الدخان الكثيفة المحيطة به والتى تملأ الغرفة بالكامل, قفز من فوق الفراش هاتفًا باسمها وهو يخرج من باب الغرفة باحثًا عنها, بمجرد خروجه من الغرفة اصطدم بجسد امرأة لم يتبين ملامحها ولكنه استطاع تميز صوتها وهى تزجره باستياء:

- انتبه لخطواتك يا معتوه

سعل بقوة محاولاً كتم أنفاسه المختنقة وقد بدأ عقله بتميز الرائحة وما يحدث حوله, وهو يسألها متبرمًا:

- أمى, ما كل هذا البخور, هل تنوين حرق المنزل !

مازالت تُمسك بالسلسال الكبير المتدلي منه المبخرة الدائرية, وتحرك يدها به حركات دائرية وهى تجيبه بجدية:

- هذا بخور البّر يا ولدى, يدفع عن المنزل العفاريت والأرواح, زوجتك حكت لي ما حدث لها بالأمس عندما أتيت إليكما فى الصباح, وهى الآن فى الأسفل بصحبة بناتك

تبعت حديثها بأن ظلت تتفُل حولها وهى تُتمتم:

- انصرفوا, انصرفوا

زفر بقوة وهو يعود إلى الداخل محاولاً التقاط أي ملابس من الخزانة ليبدلها بمنامته ويهبط إلى شقة والدته ليتفقد زوجته, طرق الباب بقلق فاستمع إلى وقع أقدام صغيرة تتسابق نحو الباب مصحوبة بضجيج يعرفه, فُتح الباب واندفعت الفتاتان نحو ساقيه بشغف, كل واحدة منهما تحتضن ساقًا وتدفع أختها بعيدًا, انحنى إليهما وحملهما إلى الداخل وهو يقبلهما مُغلقًا الباب بقدمه وعيناه تبحث عنها حتى وجدها تخرج من الممر الصغير المؤدى للمطبخ تحمل بيديها صحن فاكهة صغير كانت تعده للفتاتين, رفعت وجهها نحوه وهى ترد تحيته بابتسامة خفيفة خجولة وتُكمل مسيرتها حتى وضعت الصحن على الطاولة الخشبية العتيقة ثم التفتت إليه ورأته وهو يضع جنى على الأريكة بينما لُجين تتمسك بذراعه وهو يحاول إقناعها بأنه سيحملها مرة أخرى بعد قليل حتى وافقت على تركه أخيرًا, تسابقت الفتاتان إلى الطاولة حيث صحن الفاكهة بينما ثبت هو عينيه فى عينيها وهو يتقدم إليها, وعندما وقف أمامها تمامًا بادرته قائلة بحرج بالغ:

- آسفة لما حدث بالأمس

وضع كفه على ذراعها وهو يمسده صعودًا وهبوطًا بخفة قائلاً بخفوت وهو يُضيق عينيه باهتمام:

- هل أنتِ بخير؟

أومأت برأسها مؤكدة وهى تنظر نحو باب الشقة بتلقائية عندما فُتحَ ودخلت حماتها مغلقة الباب خلفها وهى تقول بتحدٍ موجهة حديثها نحوهما:

- تركت لكما البخور فى المطبخ, لو حدث شىء آخر أشعلاه على الفور حتى تخرج من الشقة ولا تعود

التفت هشام نحوها يريد سؤالها عما تتحدث ومن تقصد ولكنه خَشِىَ الإجابة, ربما عقله يرفضها ولكن خوفه القابع فوق عرش المنطق بعقله أمره ألا يفعل, منذ أن كان يستمع إلى تلك الحكايا عن أرواح الموتى التى تسكن الأماكن التى كانت تعيش بها يصدق ويوافقها, بل ومرت ذكرياته عن رسالتها التى تركتها للبنات أمام عقله كشريط سينمائي, تلك الرسالة التى لم يقرأها جيدًا ورغم ذلك عيناه حفظت تلك الجملة التى كرَرَتها هالة كثيرًا فى كل سطر بها وهى تقول لهما أنها ستبقى معهما دائمًا فى غرفتهما وتنام بجوارهما ولكنهما لن يستطيعان رؤيتها, وضعت والدته يدها على كتفه وهى تقول بجدية:

- خذ جدايل واصعد إلى شقتك الآن, سيمر زوج اختك بعد قليل ليصحبني معه وسآخذ معي البنات

عقد جبينه متسائلاً بتعجب شديد:

- إلى أين ؟

ملأت رئتيها بالهواء وقد ظهر الإنشراح على قسمات وجهها وهى تبتسم ابتسامة حُلوة وتجيبه:

- إجراءات السفر يا بُني, العُمرة, هل نسيت؟, سأسافر بصحبة أختك وزوجها !

لمس كتفها بحنان وهو يقترب منها وقد تشتتت أفكاره أكثر وأكثر, وبدى كالطفل الذى لا يريد فراق والدته وهو يقول باعتراض:

- لقد كنتُ أصرُ عليكِ كثيرًا لإتمام الإجراءات وأنتِ كنتِ تؤجلين الأمر, فلماذا الآن؟

- كنتُ أريد الإطمئنان عليك مع زوجتك يا ولدي, وها قد تزوجت والحمد لله, وأختك وزوجها سيذهبان للعمرة خلال أيام فلماذا التأجيل وأنت تعلم كم أشتاق للذهاب منذ فترة طويلة, فلم يعد فى العمر بقية .

أُعتِصرَ قلبه وهو يرى دمعة الشوق بعينيها, لا يستطيع منعها, هو أكثر شخص يعلم مدى اشتياقها للسفر إلى مكة, هذا الشوق الذى جعلها تعصر على نفسها ليمونة كما تقول دومًا لتسافر بصحبة زوج ابنتها الذي لا تطيقه, وكيف تطيقه وهى لا تُطيق ابنتها من الأساس, الحمد لله أنها تُطيق نفسها أصلاً !

عندما صعد إلى شقته ومعه زوجته كان متربصًا بعض الشىء وهو يتلفت حوله بعينيه فقط كى لا يثير انتباهها, أما فى الظاهر فلقد كان يبدو مرحًا وسعيدًا ليبثها الاطمئنان اللازم, ربما كان خائفًا قليلاً ومتوترًا, ولكن سحابة الشوق انزوى خلفها بقية المشاعر الأخرى وهو يعيش تجربة أخرى يظللها الشغف كما لم يكن من قبل, كرفيفٍ لأجنحة عصفور صغير وهو يستعد للتحليق للمرة الأولى راهبًا منتشيًا, يسحب نفسه ببطء ونعومة من بين فكي الماضي, بداخله يهمس لها بصمت مطبق, طهريني من أفعالي السابقة معها, أمنحيني صكوك الغفران, غلفيني بالأبيض, بينما تضج خلاياه وعروقه كلها نابضة بصخب, لا يسمع مناجاته سواه

هكذا يكون الشغف إذن ؟!

انحنى نحوها وهى تضع الطفل أمامها على مقعده المُخصص له وتُطعمه وتناغيه, قبل أعلى رأسها وهو يقول مداعبًا:

- وأنا أين عشائي يا زيتونة !

رفعت وجهها إليه وهي تُضيق عينيها باستهجان مرح هاتفة:

- اعتقني لوجه الله, كف عن مناداتي بهذا الاسم

عاد رأسه إلى الوراء ضاحكًا بينما هي تحمل مقعد الطفل من فوق الطاولة وتضعه على الأرض خشية سقوطه ونهضت تواجه ضحكاته التى يستفزها بها دومًا, دفعته من كتفه بغيظ صائحة:

- توقف عن إغاظتي يا عادل, أنا لستُ بزيتونة !

حاول التماسك بأن يوقف ضحكاته ويُهدئ صخبها قليلاً وهو يضع كفيه فوق صدره إشارة لطلب صفحها, وضعت يديها بخصرها بتأفف متبرمة حتى سكت تمامًا ثم أدارها إليه وأمسك وجهها بين كفيه فى طريقه إلى الاعتذار, رفع حاجبيه وهو يقول بجدية أغاظتها أكثر:

- آسف حبيبتي, أنتِ لستِ زيتونة, بل أنتِ طبق من القشدة

ابتسمت رغمًا عنها رافعة حاجب واحد بثقة ولكنها لم تتنازل عن التبرم العالق بشفتيها فكانت النتيجة النهائية شفاه معقوفة للأسفل قليلاً, ولكن عادل دمر أسفه مردفًا:

- طبق من القشدة سقطت فيه زيتونتان وشريحتين مكتنزتين من الطماطم الطازجة

غطت وجهها بكفيها وهى تحركه بيأس منه, هذا هو عادل, حبه مشاكسة, شغفه إغاظة, ولكن عندما يلحظ حزنًا ما بعينيها يتحول إلى عاشق متفهم لا يشق له غبار, إلا أنه يجدها فى هذه اللحظة فى مزاج جيد للمزاح بالإضافة إلى أنه جائع, فلمَ لا؟!, أمسك بكفيها ليحرر وجهها وقبلهما مُدعيًا الاعتذار, وقبل أن يتابع بمشاغبة أخرى سقطت نظراته على المقعد الوثير خلفها, منذ أسبوع تقريبًا وهناك كتابًا للحكايات لا يُفارق يديها, تصحبه معها أينما جلست, فقال بعد أن مط شفتيه ورفع حاجبيه متسائًلا:

- يا ترى ما السبب المفاجئ لشغفك بالكتب هذه الأيام؟!

أرتبكت قليلًا وكأنها لم تتوقع أن يُلاحظ وتنحنحت باحثة عن إجابة منطقية لثوانٍ قبل أن تجيبه بعينين زائغتين:

- وهل لديك مانع؟

تنفس بعمق ثم قبل جبينها بعينين شاردتين, يشعر بأن دواخلها غير سعيدة بغيابه طوال اليوم فى عمله, تشعر بالملل لذلك مزاجها متقلب بين يومٍ وآخر, لا يستطيع أن ينسى مظهرها وشكلها منذ أيام حين دخل المنزل فوجدها شاحبة تبكي بهستريا, تشبثت به حين رأته, كانت والدته قد هاتفته وأخبرته بأن رؤى مرت بها وتركت الطفل لديها متعللة بالتسوق ولم تعد إلا بعد غروب الشمس بهيئة تشبه شخص دُفن بالخطأ وهو على قيد الحياة, وعندما استيقظ وجد نفسه محاصرًا بين جثث الموتى, ظن أن والدته تبالغ ولكن عندما دخل شقته ورآها هكذا, توقع أن الأمر جلل بحق, ليلتها أخبرته بأنها فقدت وعيها فى المتجر الكبير ولم تكن تحمل هويتها فلم يتعرف الناس عليها ولم يأخذوها إلى أي مشفى وظلوا يحاولون إفاقتها لوقت طويل, وعندما استفاقت بقيت مع عاملة المتجر بقية اليوم حتى استطاعت التوازن من جديد ثم عادت لتأخذ الطفل من والدته لذلك كانت حالتها مزرية !.

بداخله شيء ما يجاهد لتصديق قصتها تلك وبالأخص لأنها حامل فى الشهر الأول من حملها ففقدانها توازنها أمر منطقي, ولكنه لم يكن مستريحًا أبدًا ولا يعلم لماذا!, وفى اليوم التالي وجدها تعبث بمكتبته الكبيرة وتصنع لنفسها ركنًا خاصًا بكتبها ودفاترها, كانت فى نظره خطوة جيدة لملء وقت فراغها بشىٍء مفيد كالقراءة, ولكن هذا لايكفي, لابد وأن تتواصل مع صديقة أو أكثر لتُكسر شرنقتها هذه, ومن يستحق الصداقة والتواصل سوى شخص تتشابك طرُقنا بطرقه بشكل أو بآخر, ومن غير زوجة هشام تعاني من نفس الوحدة التى تعاني منها رؤى, لا بل أكثر, ما قصه هشام عليه اليوم عن زوجته فطر قلبه على صديقه, أغمض عينيه وضم رؤى إلى صدره وكلمات هشام الحائرة تضرب ذاكرته من جديد:

- أسبوعّ كامل تتحاشاني يا عادل, تقول بأن لمساتي العابرة لها تلسع جلدها بل تنغزها كالأشواك, أسمع صوت أنينها وهى نائمة وكأنها تعاني وتحارب ثم تستيقظ صارخة, سأُجن يا عادل .

خرج من بئر ذكرياته رغمًا عنه عندما شعر بـرؤى تُربت على خده بقوة هاتفة:

- هيييه, أنت, أين رحلت بأفكارك

نفض غبار الشرود عن حاضره وتكلم بجدية لم تعتدها منه إلا نادرًا يشوب نبراته القلق وقال مُمسكًا بمرفقيها بتودد:

- حبيبتي, ما رأيك لو توطدين علاقتك بزوجة هشام, إنها تعاني من الوحدة وتحتاج لرفقة

تُعاني؟!, هل هذه رجفة التى شعر بها عادل تسري بجسدها؟!, تمعن فى وجهها الذى تشنج وعضلة خدها التى ارتعشت وهى تقول بتلعثم مختلطًا بضيق خفي:

- وكيف عرفت؟

تملكته الحيرة وهو يتأمل عينيها المنكسرة للأسفل للحظات ثم قال بهدوء وهو يرفع رأسه لأعلى بشرود:

- ضغطت على هشام اليوم ليخرج مافى صدره, فحالته لا تُعجبني منذ عدة أيام

- يستحق !

أخفض وجهه إليها وكأن كلمتها الهامسة ضربت معدته فجأة بقسوة, زمت رؤى شفتيها وهى تشتم نفسها بداخلها على عدم تحكمها بمشاعرها فانفلتت شفتاها ببعض مما يحمله قلبها بتسرع, لم تستطع أن تواجه عينيه المتسائلة بدهشة فأشاحت بوجهها بعيدًا وهربت من بين ذراعيه نحو المطبخ بخطوات عصبية وهى تُتمتم بضيق:

- سأعد لك العشاء !

تصلب جسده مكانه وهو يرقب حركتها النزقة المرتبكة وصوت بكاء ضعيف لطفله قد بدأ يعلو بجانبه, انحنى يحمل الطفل وعيناه لا تفارق الباب الذى اختفت خلفه منذ لحظات, جبينه منعقد وقد بدأت أفكار غريبة تغزو عقله عن تلك المشاعر التي لم يشعر بها يومًا فى قلب زوجته تجاه هشام, تُرى هل مازالت تحمل فى نفسها ذكرى رفضه لها فى السابق؟, لقد نسي هو شخصيًا هذا الأمر, حتى أنه لم يناقشه معها أبدًا, وعندما سألته فى بداية تعارفهما من الذى دله عليها ولماذا اختارها هى بالذات؟, اضطر أن يخترع لها قصة وهمية حتى لا يجرح مشاعرها أكثر وقد أعجبته للغاية, فلماذا تطفوا تلك المشاعر السلبية الآن؟!.





تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-