أخر الاخبار

سوريا التي في خاطري 51. عماد الاصفر

 سوريا التي في خاطري 51


التاريخ يظل يكرر نفسه عند الذين لا يتغيرون. ورغم الفروق المريرة والكثيرة فإن ما يجري من تراشق وتلاسن بين مشجعي الدوحة ومشجعي ابو ظبي يثير الضحك، ويذكر بالمتشابه كثيرا، والمضحك المبكي كثيرا الذي كان  بين بغداد ودمشق، وهو تشابه اجتهدت العاصمتان غاية الاجتهاد في تحويله الى تنافر وتنافس على نحو محير. 


العراق وسوريا مواطن للحضارات الاولى، وتاريخيا دمشق وبغداد عاصمتا الخلافتين الاموية فالعباسية، العاصمتان البعثيتان المناديتان بالوحدة ظلتا تتفننان في مهاجمة بعضهما البعض، سياسيا وحزبيا واستخباراتيا وامنيا وثقافيا ايضا. 


مؤسس حزب البعث السوري ميشيل عفلق حكم بالإعدام في دمشق بعد احد الانقلابات البعثية على البعثيين، ففر الى بغداد التي اكرمت وفادته ولكنها وضعته على الرف، الى ان حمل صدام حسين نعشه ودفنه في قبر مزخرف تحت قبة زرقاء في حديقة مقر القيادة القومية للحزب ببغداد. 


واكرمت دمشق وفادة العديد من الشعراء المعارضين لحكم البعث العراقي وغالبيتهم من الشيوعيين، رغم ان المعارض السوري كان يعاني الامرين خاصة ان كان شيوعيا، ودفنت دمشق بعضا من شعراء العراق على اراضيها، فيما كان العراق يستقبل الناجين من مجزرة حماة، ويفتح لهم معسكرات التدريب، رغم ان غالبيتهم من جماعة الاخوان المسلمين التي لا يسمح للعراقي الانتساب اليها ولا الى غيرها. 

كان على بغداد ان ترتكب مجزرة شبيهة بمجزرة حماة لكي يظل التشابه قائما، لم يطل الانتظار جاءت مذبحة حلبجة.


اذا انشأت سوريا فصيلا فلسطينيا كانت بغداد ترد عليه بإنشاء فصيل يتبع لها، واذا استعانت بغداد برجل امن مأجور كانت دمشق تبحث عن نظير له تستعين به، واذا دعمت سوريا فصيلا لبنانيا تدخل العراق لدعم فصيل آخر. 


واذا ما زاد عدد الصحف العربية المؤيدة لسوريا، واشترت دمشق بعض الكتاب برواتب خليجية، انشأ العراق صحفا جديدة، واشترى ذمم عدد من الكتاب بكوبونات النفط. 


عندما اشتهر معرض دمشق الدولي وصارت العديد من الدول تشارك فيه، والكثير من العرب يزوروه، اقامت بغداد معرضها الدولي وعلى مساحة اوسع، التنافس انتقل من البضائع الى الكتب وصار لكل دولة معرضها للكتاب، وصار ايضا لكل دولة مهرجانها الشعري والذي قد يعقد في ذات التاريخ، ومن دون ان يؤثر على جدول اعمال الشعراء، فمعظمهم إما هنا او هناك، ومن يركب في الباص المتجه الى بغداد سينال تقريع زملائه المتوجهين الى دمشق. 


حصل امر مشابه مع محمود درويش في الثمانينيات. فرد عليه برسالة موجهة الى جورج حبش ومن خلاله الى كتاب عراقيين يعسكرون في دمشق ويكتبون في الهدف لسان حال الجبهة الشعبية. ومما جاء فيها: 

"كان علي ان اموت كبدر شاكر السياب في مستشفى كويتي ليغفر لي بعض اصدقائي العراقيين انني حي،.... الشاعر ليس ملاكا وليس ملكية لأحد،...... لست مثاليا لأستعير سؤالكم: لماذا تقيمون في دمشق طالما ان نظامها يبعدنا الى اقاصي الصحراء،..... يدخل السياسي في الثقافي متى يشاء، ويدخل الثقافي في السياسي متى يشاء، ويختلطان فيصيران لا هذا ولا ذاك،....... ذلك ان المثقف ما زال عاجزا عن تحقيق استقلاله النسبي عن مؤسسات السلطة وعن ارهاب المعارضة،..... انا لا اتهرب من اتخاذ موقف من الحرب العراقية الايرانية بقدر ما يتهرب من ذلك زملائي العراقيين وينقسمون حوله، ان هذه الحرب تدفع الشعبين الى الكارثة وان مهمة القوى الحريصة هي العمل على وقفها....".


نشرت هذه الرسالة على غلاف مجلة اليوم السابع، كانت مجلة سياسية ثقافية تتبع لمنظمة التحرير وكانت متنفسا للكتاب والمثقفين غير التابعين للحكومات. 


كان محمود درويش قد انتبه للأمر منذ بداياته فكتب في الاهرام بداية السبعينيات سلسلة مقالات حوله.  فتحت عنوان "لا أعرف دمشق… ولكنني أعرف الطريق إلى دمشق…"  كتب ما يلي: 

... ومن الواضح أنّ الأدباء والشعراء العرب المسافرين إلى دمشق لن يقفوا طويلاً على الحدود السورية، لأنهم سيُستقبلون استقبالاً رسمياً، ثم يمضون إلى قاعة المؤتمر الكبير. يستمعون إلى تقارير، يوافقون على القرارات والتوصيات التقليدية التي تؤكد وحدة الأمة العربية وانتصارها الأكيد على الاستعمار والصهيونية وأنصار التجزئة. فهل من أجل هذه النتيجة المعروفة تُقام كل هذه الضجة، وتنفق كل هذه الأموال؟


في عالمنا العربي. ثمة فارق هائل بين الانتماء والولاء للوطن وبين الانتماء والولاء لبعض الذين يدّعون الحماية الإلهية عليه. وثمة فارق بين الوطن على الطبيعة، والوطن في الملفات الرسمية وفي جيوب الموظفين. ثم… كيف تكون حليفاً للحرية في شرق آسيا من جهة، وبوقاً لسحق الحرّية في بيتك؟ لن نظلم الأديب، ولن ندّعي أنه المسئول الوحيد عن مثل هذه التناقضات والمفارقات.


واضاف معلقا على تزامن انعقاد المهرجانين في بغداد ودمشق: 

وفي الوقت الذي يُعقد مؤتمر الأدباء العرب في دمشق، يُعقد مؤتمر أدب آخر في العراق. لماذا؟

مرة أخرى نتساءل: متى يُتاح للأدب أن يمارس استقلاله النسبي خارج اللعبة السياسية المفتعلة؟ لا يمكن النظر إلى ازدواجية عقد المؤتمرين، في وقت واحد وفي عاصمتين عربيتين، ببراءة وطيب قلب. هنا، يجب الاتهام، حتى يكفّ بعض المسؤولين عن معاملة الأدباء كما تُعامَل الراقصات. إنّ عقد مؤتمرين في وقت واحد، لا يشبه إقامة عرسين في يوم واحد. وإذا كنّا عاجزين عن تنسيق مؤتمر أدبي، فكيف نحلم بتنسيق عسكري أو سياسي؟ تحية إلى الأدباء العرب المجتمعين في دمشق… وتحية إلى الأدباء المجتمعين في العراق… وعفواً


وفي مقال آخر  تحت عنوان " نحن نستمع ولا نقرأ"  تعقيبا على مهرجان البصرة  في نيسان من عام 1972، كتب: 

أن الانتهازية الفنية ابنة شرعية للانتهازية السياسية، حين يقوم الشعراء برصد درجة غليان دم الناس وميولهم السياسية أو الطائفية  فيُخضعون قصائدهم لهذا الاعتبار. إن تغيير عناوين القصائد وأسماء الشهداء الذين تخاطبهم هذه القصائد، من قاعة إلى قاعة ومن عاصمة إلى عاصمة، وفقاً لمدى انتماء الجمهور هنا أو هناك إلى عقائد هؤلاء الشهداء، هو تعبير بدائي وبذيء عن الانتهازية الفنية وعن الانتهازية السياسية. 


وكتب ايضا في ذات العام تحت عنوان " عزف منفرد فوق القانون :  

"ينهمر الشعر على العرب في كل الفصول، غداً يفرغ القطار المسافر من بغداد إلى البصرة حمولته الثقيلة من االشعراء المدججين بالقصائد والحناجر المصقولة. وطيلة هذا الشهر، كانت بيروت تبدأ سهراتها باكراً ثم تنام على أصوات الشعراء وتصحو على صورهم في الصحف اليومية وقبل ذلك تعبت أكف الدمشقيين من التصفيق للشعراء. شعر في كل العواصم ولم يذهب الغزاة، ولم يترجل الطغاة، وماذا بعد،


الله يرحمك يا محمود درويش، التاريخ يكرر نفسه، لا شيء تغير، فقط تعتق الغباء وصار تراثا، وجاء ترامب لينشأ مدرسة سياسية جديدة في الحكم، مدرسة جعلت الواقعية تقف عارية بكل وقاحة دون ادنى خجل، وجعلت المصالح صريحة علنية دون أي برستيج او غطاء اخلاقي او تمويه، مدرسة جعلت من الصحافة والاعلام بحرا من الشكوك وعدم اليقين وهمّا زائدا يمكن الاستغناء عنه.  


تغييرات اتت على ما تبقى من هيبة مصطنعة للحاكم العربي، ودفعت المثقف العربي الى الحافة، وصار عليه إما التخلي عن قشرة المبادئ التي يستر بها عورته، ليظهر على حقيقته النفعية، او التخلى عن منصاته ومستحقاته وصوره وجوائزه ورحلاته واستضافاته واصطفافاته، ليقضي ما تبقي من عمره قابضا على الجمر. 


كثيرون سحبوا مشاركاتهم وترشيحاتهم لأنشطة وجوائز ترعاها الامارات كرد على تطبيعها العلني، هذا جيد، ولا علاقة لنا بمبعث النوايا سواء كان المبدأ ام الخجل. ولكن ماذا بعد؟ أشك غاية الشك في امكانية ان يستطيع المثقف العيش او الوصول الى الجمهور دون هذه الوسائل التي يمتلكها السياسيون. 


في منتصف ثمانينيات وطوال تسعينيات القرن الماضي نشط المال العراقي والخليجي في تجنيد الكتاب للنشر وبأجور مجزية في مجلات افتتحوها في لندن وباريس، لعل بعضكم يتذكر الآن مجلات الدستور والحوادث والوطن العربي والمحرر وكل العرب والطليعة والكفاح والديار والاسبوع العربي، ويذكر التنقلات بين المحررين ورؤساء التحرير، والانقلابات في الملكية وفي السياسات التحريرية، كان الشأن الفلسطيني عند هؤلاء جميعا يستخدم لغرض مهاجمة الخصم العربي لا لبناء حالة نضالية تضامنية بين العرب، ولاحقا صار همها جميعا تعهير منظمة التحرير حتى قبل ان تدخل مسار اوسلو.  


واليوم تقوم بهذه المهمة جولات وصولات الردح على الفضائيات العربية، وما يتلوها من قيام نجوم الفضائيات بحملات مدفوعة الاجر للتغريد الارعن عبر تويتر وفيسبوك، جولات سطحية وبذيئة تجعل من هؤلاء القردة مشاهير واغنياء، ورموزا بديلة للمثقف الحقيقي،  وماذا بعد؟ عواصم تحترق واخرى تنظر وتنتظر.  

  

يبقى سؤال درويش قائما: متى سيتمكن المثقف من تحقيق استقلاله النسبي عن مؤسسات السلطة وعن ارهاب المعارضة؟ وربما يجب ان يتلوه سؤال آخر هو: متى سينهى المثقف قطيعته او استقلاله عن الناس وينزل من المنصات والشاشات صغيرها وكبيرها ليجلس معهم في الشارع؟.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-