أخر الاخبار

سوريا التي في خاطري 36 عماد الاصفر

 سوريا التي في خاطري 36  


على وقع هذا التوتر القديم المتجدد في العلاقة بين منظمة التحرير بقيادتها الفتحاوية وسوريا بقيادة حافظ الاسد، وعلى خلفية الخروج المزلزل لقوات الثورة الفلسطينية من لبنان، وبمناسبة قرارات وتعيينات اتخذها ابو عمار ورأى فيها البعض مكافأة لقيادات يجب محاسبتها بدلا من ترقيتها، وقع الانشقاق في حركة فتح، ولا يمكن لاحد ان ينكر الآن انه كان بتحريض ودعم وتسهيل سوري وبتمويل ليبي. 


لم يكن الانشقاق هو الاول في جسد الحركة التي لا تملك أي ايدلوجيا وتجمع خليطا متعدد المرجعيات الفكرية، فلقد سبقته ازمات تنظيمية عديدة كانت تضمحل او تذوب نتيجة للتقادم، او تطور الاحداث، ولكن الانشقاقين الاخطر والذين طال عمرهما وكلفا فلسطين دما وجهدا ومالا وسمعة هما انشقاق فتح المجلس الثوري بقيادة ابو نضال المدعوم من العراق البعثي، وانشقاق فتح الانتفاضة بقيادة ابو موسى المدعوم من سوريا البعثية. حاول المنشقون القدامى (ثوريين ومنتفضين) والجدد (احرارا ياسريين وتيارا تصحيحيا) الاحتفاظ بالاسم التاريخي للحركة (فتح) ولكنه كان ينزلق من ايديهم دوما، لأنه يكره التبعية. 


انتهى ابو نضال مقتولا في شقته ببغداد عام 2002 على يد مشغليه العراقيين بعد ان سفك دماء عدد من سفراء فلسطين النوعيين في اوروبا: عز الدين القلق في باريس، سعيد حمامي في لندن، نعيم خضر في بروكسل، عصام السرطاوي في لشبونة (كان شمعون بيرس في مسرح عملية الاغتيال، ولكن القاتل لم يفكر باستهدافه)، واخيرا اغتيال القادة ابو اياد وابو الهول وابو محمد العمري. وانتهى التنظيم بانتهاء الرجل، وقبل ان يسجل أي عملية ضد اهداف اسرائيلية، اللهم باستثناء عملية الاغتيال الفاشلة لسفير اسرائيل في لندن، تلك العملية التي اتخذتها اسرائيل ذريعة لاجتياح لبنان ومحاصرة بيروت عام 1982. 


مهما كانت النوايا الابتدائية لدى المنشق ابو نضال، فانه تحول الى بندقية وتنظيم للايجار، وتلقى الدعم والتمويل من مشغلين آخرين غير العراق، مثل ليبيا، وسوريا، نعم سوريا التي حاول اغتيال وزير خارجيتها ونائب رئيسها عبد الحليم خدام مرتين، (احدى هاتين المحاولتين وقعت في الامارات واسفرت عن مقتل وزير الدولة الاماراتي للشؤون الخارجية الصديق لفلسطين سيف سعيد بن غباش)، فضلا عن تفجير عدة سفارات ومكاتب سورية في اوروبا وغيرها، واحتجاز رهائن سوريين في فندق سمير اميس بدمشق.   


لماذا طرد العراق ابو نضال؟ ولماذا استقبلته سوريا بكل الترحاب؟ وماذا فعل هناك؟ اسئلة خير من يجيب عليها السفير السابق عاطف ابو بكر، لكونه احد القيادات السابقة في تنظيم ابو نضال، يقول ابو بكر في برنامج الذاكرة السياسية على فضائية العربية: ان العراق طلب من ابو نضال وقف هجماته ضد الدول التي تسانده في الحرب مع ايران، ولكن ابو نضال فجر بعد ذلك طائرة اماراتية قادمة من كراتشي، فقتل اكثر من 100 شخص غالبيتهم من الباكسانيين، فطرده العراقيون، ولأنه لا يستطيع العيش دون حاضنة، فقد سعى لخطب ود السوريين، والذين رحبوا به نكاية بالعراق واملا في الحصول على معلومات عن جماعة الاخوان المسلمين السورية والذين كانوا يتدربون تحت اشراف العراق في معسكراته، ويعدون العدة للانتقام لضحايا مجزرة حماة، ولأن وجوده كمنشق قديم عن فتح الى جانب المنشقين الجدد، سيزعج عرفات وسيضعف من حركة فتح. وفعلا فلقد ايدت جماعة ابو نضال جماعة فتح الانتفاضة وقدمت لها نصف مليون دولار في اول لقاء وقاتلت الى جانبها في الهجمات ضد القوات الموالية لعرفات.      


ربما كانت نوايا المنشقين بعد الخروج من بيروت اكثر طيبة، وربما كانت السيرة الشخصية لقياداتهم اكثر طهرية، وربما كانت مبرراتهم اكثر وجاهة، وهو ما قاد الى التحاق العديد من خيرة الكوادر والمقاتلين بهم، لكن الايام اثبتت ان مسار الانشقاق واحد يمر بالالحاق والتبعية، والارتهان للتمويل، والخوض في الدماء، والانتهاء بالنبذ على الهامش قتلا او اغتيالا سياسيا او اقامة جبرية.  


فشل الانشقاق سياسيا لان سقفه ظل تحت ابط سوريا ولم يرتفع فوق السقف السياسي لفتح، وولد فاقدا لأدنى درجات استقلالية القرار. 


وفشل اداريا لان مطالب الاصلاح سقطت امام الانشغال بالاستيلاء على مكاتب وممتلكات ومؤسسات حركة فتح في سوريا 


وفشل تنظيميا لأنه اخضع هياكله ومجالسه للتقاسم والمحاصصة مع تنظيمات صغيرة تتبع لسوريا، وسرعان ما واجه ازمة تمحور قيادي 


وفشل وطنيا وهذا الاهم لأنه تورط في مهاجمة مواقع فلسطينية في البقاع وبعلبك وشتورا ومخيمي نهر البارد والبداوي واحياء طرابلس مستفيدا من دعم سوريا.


فشل لان ياسر عرفات تنكر بزي مدني وغامر بالنزول عبر البحر الى طرابلس امام اعين من يريدون اغتياله، ليكون بين مقاتليه. ولأن مئات المقاتلين الذين خرجوا من بيروت بدأوا بالعودة الى طرابلس من طريق البحر سرا مثل زعيمهم. 


فشل لأن محاولات اغتيال عرفات او قتله في المعارك لم تنجح، فهو لم يكن ينام في نفس المكان مرتين، وكان دائما في الاماكن غير المتوقعة. 


فشل الانشقاق لان الكثير من كوادره ثابت الى رشدها وتراجعت مع وقوع الاقتتال الداخلي. ولأن العائدين من الانشقاق قوبلوا برحابة صدر. 


فشل لأن فتح اكتفت بصد الهجمات عليها ولم تبادر للهجوم، ولأنها كانت تكتفي بتأنيب من تأسرهم من المنشقين، ثم تقدم لهم وجبة عشاء، قبل ان تعيدهم الى قواعد المنشقين من خلال التنظيمات اليسارية. 


فشل لأن القيادة السورية فضحت نواياها حين اوقفت قائد الانشقاق ابو صالح وفرضت عليه الاقامة الجبرية في منزله الى ان توفي، وذلك لأنه صرح بعد الخروج من طرابلس بان المقاومة ستعود الى بيروت. 


فشل لان السوريين اتهموا نائب امين سر المنشقين ابو خالد العملة بالانشقاق عنهم، واعتقلوه وفصلوه، لأنه رفض خلال نقاش حاد مع العبدين السوري خدام والليبي جلود الامتثال لأوامر احمد جبريل. 


فشل لان قادة الانشقاق مثل قدري ابو كويك اكتشف سوء تقديراته السياسية وانسحب من الانشقاق مبكرا واعتزل العمل السياسي الى آخر يوم في حياته.  


فشل الانشقاق لان ياسر عرفات الذي فقد لبنان نهائيا وخرج من طرابلس قرر وهو في عرض البحر ان يقلب الطاولة على سوريا وان يعبر من قناة السويس ليلتقي الرئيس المصري حسني مبارك رغم المقاطعة العربية لمصر، كان على عرفات ان يبحث عن حليف، فسوريا تكرهه والبقية تتجاهله والعراق منشغل بحربه.


فشل لان المنشقين ومعهم كسور عشرية تتبع لدمشق تحالفوا مع حركة امل والجيش السوري واللواء السادس في الجيش اللبناني وظلوا على مدى 3 سنوات   يحاصرون ويقصفون مخيمات اللاجئين في لبنان بحجة القضاء على "زمرة عرفات". 

 

فشل لان الفصائل اليسارية المعارضة جدا لقيادة عرفات "المتنفذة" لم تستجب لضغوط حليفتها دمشق، ولم تستطع الصمت طويلا ازاء الحرب التي ظلت تتوسع، فشاركت الى جانب قوات فتح في الدفاع عن المخيمات وعن القرار الفلسطيني. 


فشل لان هناك من كان يتوجه دائما الى العمل ضد جيش الاحتلال، لتذكير الجميع بمن هو العدو المركزي، وفشل لان الشعب الفلسطيني في الداخل اشعل انتفاضته لإنقاذ قيادته في الخارج. 


مرة اخرى، كم هي كتابة التاريخ واختزاله ظالمة ومجحفة بحق صناعه وضحاياه!!... تكاد تكون مواجهات طرابلس وحرب المخيمات التي استمرت 3 سنوات الاقل توثيقا، رغم انها لم تكن اقل دموية وعنفا وضحايا ودمار وتأثير سلبي على مجمل النضال الوطني الفلسطيني الذي تم تقييده، وعلى الحركة السياسية التي تم حرفها نحو بوابة مصر كامب ديفيد، لقد كانت الاقل توثيقا لأنها صفحات مخزية يريد الجميع ان يطويها، وان ينساها، قتل وجرح كثيرون وجاع الناس في المخيمات.


لم يترك ياسر عرفات مرجعا دينيا للشيعة في ايران والعراق الا ودعاه وترجاه لإصدار فتوى بوقف هذه الحرب، افتوا له بداية بجواز اكل المحاصرين لحم القطط والكلاب، وبعد ان طالت الحرب واصبحت محرجة جدا لهم ودون طائل، تدخلوا لإنهائها، انتهت حرب المخيمات، بفقدان حركة امل شعبيتها لصالح حزب الله، وباعتراف زعيم هذه الحركة نبيه بري بان حربه ضد المخيمات كانت غلط في غلط. 


مجرد غلط ولكنه استمر 3 سنوات واودى بحياة مئات!!!! 


في شهادته على جزء من هذه الحرب في مخيم واحد فقط من بين مخيمات عديدة يقول الكاتب محمود كلم وهو من ابناء مخيم شاتيلا: 


" بدأت الاستفزازات من عناصر موتورة من حركة أمل، بدأت تدخل المخيم وتسيء إلى الناس بشكل سافر، شخص اسمه النمرود من حركة أمل قتل عمداً الطفل محمد شرقية، ثم بدأت الاستفزازات لمخيم الداعوق. بدأت حرب المخيمات يوم سبت ليلة أحد في اليوم الأول من شهر رمضان المبارك عام 1985، حيث حوصر المخيم ثلاثين يوماً ودمر حوالى 90 % منه تدميراً كاملاً. وسقط ما يقرب من 85 شهيداً وشهيدة، والدتي آمنة درويش عبد العال مواليد 1936 وأخي سعيد مواليد 1973 استشهدا في 27 رمضان 1985 ، بالقذيفة نفسها. لقد كانت حرب الثلاثين يوماً صعبة، وكذلك حرب الخمسة والأربعين يوماً.


في أواخر 1986 تجددت المعارك، وامتدت لستة أشهر أخرى، تعرض المخيم خلالها لمجاعة حقيقية، ونقص حاد في المواد المعيشية والطبية ، أكل الناس القطط، والبرغل مسلوقاً بالماء والملح من غير زيت وبصل . كان كل اثني عشر مقاتلاً يأكلون علبة حلوى واحدة فقط، كان المقاتل منا يقتات على نصف رغيف خبز في اليوم في آخر شهرين من الحصار، كانت غرفة عمليات المستشفى عبارة عن ملجأ في بيت عيسى الفرماوي، وغرفة الطوارئ في بيت أبو سليم زعرورة. أذكر أن الدكتور يانو (طبيب يوناني متطوع انقذ مئات الفلسطينيين خلال معارك بيروت وحرب المخيمات) أجرى لابي رياض شحادة عملية جراحية بدون تخدير في مستشفى الهلال. انتهت حرب الستة أشهر. كانت حصيلة حرب المخيمات من الشهداء 575 شهيداً يرقدون في مقبرة جامع مخيم شاتيلا. كانت جثامين الشهداء تجمع وتدفن على عجل في حُفر جاهزة. وكان يتولى عمليات دفن الشهداء كل من الشيخ عامر المصري، وأبو خليل الكراد وآخرون. ومن الصور التي علقت في الذاكرة ولا يمكن للأيام طمس معالمها : قصة ابو الفدا , اصيب بجراح تحولت الى غرغرينا لعدم توفر العلاج اللازم له. تم وضعه في مدرسة اريحا. ظل يتوجع ونسمع صرخاته في ارجاء المخيم ليلاً . بقي هكذا على حاله مدّة من الزمن حتى وفاته . تمّ دفنه في جامع المخيم بعد ان تحول الى مقبرة جماعية" .


مساحة مخيم شاتيلا هي كيلو متر مربع واحد فقط لا غير، كان يسكنه 12 الف لاجئ فلسطيني، في هذا المخيم استشهد المناضل علي ابو طوق قائد الكتيبة الطلابية، وبطل قلعة الشقيف، استشهد بين يدي صديقه اليوناني الدكتور كريس يانو، والذي قال عنه: كان ابو طوق من الفدائيين المخلصين، اول مرة تعرفت اليه في النبطية عام 1981 كان يضع في مكتبه شعارا يقول "الثورة دون اخلاق هي سرقة ونفاق". 


في الصورة الطبيب اليوناني الفلسطيني كريس يانو، وصديقه القائد الشهيد علي ابو طوق، وغلاف كتابه "المحاصر: قصة طبيب عن الحياة والموت في بيروت".

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-