أخر الاخبار

بغداديات 70 عمر الاصفر

بغداديات 70  



خصصت مجلة هنا القدس الصادرة عن دار الاذاعة الفلسطينية عددها الـ 19 والصادر يوم الاحد 29 ايلول من عام 1940 خصصته للحديث عن ذكرى انطلاقة الثورة العربية الكبرى وذكرى وفاة المغفور له الملك فيصل الاول ملك العراق، وعن العراق بشكل عام.  

وعلى صفحات هذا العدد، الذي نشره موقع (جرايد) الصحف العربية من فلسطين العثمانية والانتدابية، نشاهد صورا لمدينة بغداد وجسور الفولاذ التي اقامها الملك الراحل، وصورة للراحل كتب تحتها "باني مجد العراق الحديث ومعيد مجد العباسيين" ونرى صورة تاريخية تجمع الملكين فيصل (العراق) وعبد العزيز (السعودية) على ظهر بارجة بريطانية عام 1930 يتباحثان حول الخلافات القديمة بين البلدين، وصورة للمتحف الذي جمعت فيه مخلفات المغفور له في بغداد، وصورا لقبر السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد، وصورة مسجد جميل اضافة لسد الكوت، وصاحبي الفخامة رئيس الوزراء العراق رشيد عالي الكيلاني، ووزير الخارجية نوري السعيد.

ست صفحات من اصل ستة عشر صفحة خصصت للعراق، ونقرأ فيها مقالا مع صورة بقلم الدكتور رشدي بيك التميمي عن اقامة نصب تذكاري بحيفا لجلالة الملك الراحل، ويقول فيه ان اقامة النصب كلفت 950 جنيها، وقد كتب على احد جوانبه شعر قاله الشيخ فؤاد باشا الخطيب : 

انت الشهيد ومن بيت شهادتهم / في الله تعرفها الاسفار والسير
في كل ناحية منهم غطارفة   /  مستشهدون وايام لهم غرر 

وعلى الجانب الآخر حفرت مقولة الملك فيصل: "الاستقلال يؤخذ ولا يعطى – حرية الامة بيدها". 

بعيدا عن السير التقليدية للملوك، كان الملك فيصل قد انعم بلقب امير البزق على العازف السوري محمد عبد الكريم، وهو ما شكل منصة انطلاق لهذا الفنان العملاق رغم انه كان من الاقزام جسديا، لقد ابدع هذا الفنان مع الفرق الموسيقية الفلسطينية التي احتضنتها وبثت اعمالها دار الاذاعة الفلسطينية والتي كانت الثانية من حيث النشوء والاولى من حيث الاداء في العالم العربي. 

على صفحتين من العدد الرابع عشر من مجلة هنا القدس والصادر يوم الاحد 21 تموز 1940، وكان عددا مخصصا للاحتفاء بمدينة نابلس، نشاهد صور فناني وموسيقيي الاذاعة والذين سيحيون حفلات موسيقية وغنائية خلال الاسبوعين القادمين.  

ومن هؤلاء: الملحن وعازف القانون محمد عطية، المطرب البلدي يوسف رضوان، الملحن وضارب البزق (الامير) محمد عبد الكريم،  الملحن والمطرب ورئيس التخت الموسيقي يحيى السعودي، عازف الناي توفيق جوهرية، عازف الكمان جميل ركب، عازف القانون ابراهيم عبد العال، عازف الكمان انطون بنيامين، ضارب العود يعقوب زيادة، ضارب العود رامز الزاغة، ضارب السنتور ارتين سنترجي، المطرب محمد غازي، المطرب روحي الخماش، ضارب الرق باسيل سروة، واخيرا المطرب فهد نجار. 

وليس غريبا ان يحتل المطرب فهد نجار الموقع الاخير ، فعمره ايامها لم يكن قد تجاوز الثانية عشرة فقط لا غير. وكان رحمه الله والى جانب قدرته الفذة على الغناء، عازفا ماهرا على العود، وقد تتلمذ على يد عازف العود الشهير في ذلك الوقت في فلسطين وفي بلاد الشام رامز الزاغة، الذي كان يعترف ويقول دائماً (رب تلميذ فاق أستاذه) ويقصد فهد نجار.

يقول الناقد صالح شبانة في كتابه "بطاقات فنية اردنية" ان فهد نجار يجيد العزف على العود اجادة تامة وقد عمل في عدد من الدول العربية مثل سوريا ولبنان والعراق وليبيا والقاهرة وتونس ومراكش. كما انه لحن الكثير من الاغاني مثل المطربة العراقية وحيدة خليل ومحمد عبد الكريم. اما الاغاني التي قدمها بصوته فقد بلغت 200 اغنية اضافة للموشحات الاندلسية التي يحفظ الكثير منها.

نعرف قليلا عن محمد غازي وما قدمه في لبنان بعد النكبة مع الرحابنة، ونعرف قليلا عن روحي الخماش وما ابدعه في العراق مع فرقة الاناشيد، غير ان اسم فهد نجار غاب عنا تماما، رغم ان اغانيه محفوظة على السنتنا وفي ذاكرتنا، ولكنها للأسف نُسبت لغيره من الفنانين.   

 يبدو ان هذا الفنان كان صاحب حظ سيء منذ البداية فأول اغنية غناها كانت أغنية "يا ريتني طير لأطير حواليك" من ألحان يحيى اللبابيدي، وسجلها في حيفا لشركة بيضا فون للأسطوانات، ولكن ولسوء حظه فقد حضر فريد الأطرش إلى فلسطين في أوائل الأربعينيات وسجل نفس الأغنية، وبسبب شهرة ونجومية فريد الأطرش التي طغت على معظم المطربين في ذلك العصر، فقد اشتهرت الأغنية بصوته أكثر من شهرتها بصوت صاحبها الحقيقي وهو المطرب فهد نجار.

بعد النكبة واغلاق اذاعة هنا القدس انتقل فهد نجار الى العمل في الاذاعة الاردنية والتي كانت تبث من رام الله بداية ثم من عمان، وقدم مجموعة رائعة من الاغاني منها: 

على جناح الطير لأبعث سلامي واقول يا مسا الخير أول كلامي
 طولتوا علينا كثير وبتقولوا بكير

كتب كلمات هذه الاغنية ولحنها الفنان جميل العاص، وغناها من بعد فهد نجار ، الفنان اسماعيل خضر فكانت افضل اغانيه وبوابة دخوله للفن، وظلت تنسب له وضاع اسم صاحبها الاصلي. 

ومن اغانيه ايضا: 
مقدر اقولك مع السلامة روح  
مقدر اقوللك ويلي ويلي ، يا قلب ويلي
 حبك تملك جوا الحشا بالروح  
حبك تملك ويلي ويلي ، يا قلب ويلي
 لأحبس دموعي بين الجفن والعين  
لأحبس دموعي ويلي ويلي، يا قلب ويلي 
واحرق ضلوعي نار الجفا يا زين 
احرق ضلوعي ويلي ويلي ، يا قلب ويلي 
تفضحني عيني لوجيت اودعك يوم 
تفضحني عيني ويلي ويلي  يا قلب ويلي 
ويظهر ونيني بين الخلق والقوم 
يظهر ونيني 

كمية الشجن في هذه الكلمات توحي بان كاتبها عراقي، وهذا صحيح تماما، انه سيد كتاب الاغنية في العراق سيف الدين ولائي، واما ملحنها فهو العراقي المبدع رضا علي، وغنتها من بعد فهد نجار المطربة سميرة توفيق فكانت واحدة من اجمل اغانيها، وظلت تنسب لها وضاع اسم صاحبها الاصلي.   

وتقول الكاتبة سهير جرادات في مقال نشرته وكالة الانباء الاردنية (بترا): "ان فهد نجار غنى ايضا اغنية عنوانها: شوقي يا شوقي يا ابو الجديلة، وهي من الحان جميل العاص"، وقد اخذتها عنه سميرة توفيق ايضا.

كان فهد نجار قد زار العراق في الخمسينيات واعتمد لفترة كمطرب في اذاعة بغداد، وقد اذيعت له هناك اغنية: 
قلبي معك مرهون يا ناكرة خيري
لاجلك صرت مجنون عينك على غيري
ليش يا ناكره خيري

لم تسلم هذه الاغنية ايضا فقد غناها من بعده مطرب اسمه محمد ابو غريب، وصارت تنسب له وضاع اسم صاحبها الاصلي. 

وله ايضا اغنية جميلة  من كلمات و الحان الاستاذ عادل بشير اسمها "اتهنيت بمحبوبي" وهذه لم يسرقها احد حتى الآن حسب معلوماتي. واغنية ثورية اخرى لنفس الكاتب والملحن عنوانها "لا بد ان نعود يا وطن".  

الاغنية الاخيرة "يا جارتي ليلى" هي الاروع فقد كتب كلماتها الشاعر السوري جلال زريق:  

يا جارَتي لَيلى       يا بَهجَةَ العَينِ
شَبَابُكِ الرَيَّانْ        أحْيا صَباباتي
ولحْظُكِ النَشوانْ     غَيّرَ حالاتـي
ناشَدتُكِ القُرْبَ        لا تَنْفُري غَضْبا
فالعَتْبُ والعُتْبا        لَمْ تُبقي لي حَيلَة
       يا ...... يا جارَتي لَيْلَى
 يا جارَتي لَيْلَى       يا نَبْعَةَ الرَيْحـــانْ
 تَميلُ آمالــــي         مَع قَدِّكِ المَمــدود
ونَجْمُكِ العالي         فِرْدَوْسِي المَنْشودْ
 فيهِ المُنى زَوْجانْ    الآسُ والرُمـَّـــــانْ
يا لَيـتَـني رَضـوانْ    أَرْعى الجَلا ليــلَه
  يا ...... يا جارَتي لَيْلَى
يا جارَتي لَيْلَى         يا جَنّةَ الأرْواحْ
تَهبو لِرَيّاكي           نَسائِمُ الاصْبــاحْ
ومِنْ ثَناياكــي          يَطيبُ وَرَدُ الراحْ
وهلْ لَها منْ كاسْ     مِزاجُها الأنفاسْ
 على عيونِ الناسْ      أشْرَبُها حَوْلَـــى
 يا ...... يا جارَتي لَيْلَى
يا جارَتي لَيْلَى        يا زينَةَ الجاراتْ
هَيا بِنا هَيـــــــا       نلهو مع النّسمات
لا تحسَبي غَيّاتْ      أن نَمْزُجَ الآهاتْ
أولى بنــــا أولى      أن نَهْجُرَ القَــوْلَ
ونَسْهرَ الليْلـة       في طاعةِ المَوْلى

لا يختلف اثنان على ان اول من ادى هذه الاغنية هي المطربة ماري عكاوي في الاربعينيات عبر اذاعة هنا القدس وغنتها من بعدها الفنانة فايزة احمد عام 1955 ثم الفنان فهد نجار  في الستينيات، ولكن هناك اختلاف على اسم الملحن فالكاتبة الفلسطينية نجوى فرح قعوار  والتي عملت في هذه الاذاعة تقول في كتابها " وكان صباح وكان مساء: امالي الذكريات" ان الملحن هو يحيى اللبابيدي، المراجع الاخرى تقول ان صاحب هذا التانغو العربي المميز والمبكر هو الموسيقار العبقري محمد عبد الكريم والذي اقبل في الثلاثينيات وبكل حماس على تاليف موسيقى تواكب دخول المونولوج الى القصائد الشعرية والزجلية. 

من نوادر هذا الموسيقار العبقري انه غضب لسخرية الجمهور البريطاني من قصر قامته، فما كان منه الا ان خلع نعليه وجوربيه على المسرح وعزف لهم نشيدهم الوطني بأصابع قدميه.  

 والحقيقة ان هناك العديد من الاغاني الاردنية ذات المنشأ السعودي واليمني والسوري والعراقي، فمثلا اغنية "الخيزرانة" التي غنتها سميرة توفيق، هي للفنان السعودي طارق عبد الحكيم، وهو ملحن ومغني الرائعتين "يا ريم وادي ثقيف" و "تعلق قلبي" وهما الاغنيتان اللتان اشتهرتا بصوت هيام يونس اكثر من صوته رغم براعته في الاداء والعزف.

ويقول الدكتور اميل حداد وهو ملحن واكاديمي في المعهد الوطني للموسيقى بعمان ان اغنية "يا ساري سرى الليل" والتي غناها فارس عوض، فهي يمنية الاصل، و "اغنية يا سعد لو تشوفه" والتي غناها سعد العبداللات كويتية الكلمات وسعودية التلحين والغناء. 

ويضيف الدكتور حداد في مقال نشرته صحيفة الراي الاردنية ان حصة العراق كانت كبيرة، وشملت الى جانب اغنية "مقدر اقولك" اغاني: "يا عنيد يا يابا" لعبده موسى، واغنية "يا المرتكي على السيف" لسميرة توفيق، واما اغنية "نالت على يدها" التي قدمها فهد نجار على انها اغنية اردنية فهي اغنية معروفة في حضرموت اليمن. 

يغني الملحن والمطرب السعودي عبادي الجوهر هذه القصيدة التي كتبها يزيد بن معاوية وتقول كلماتها: 

نالت على يدها ما لـم تنلـه يـدي / نقشاً على معصمٍ أوهت به جَلَـدي،
خافت على يدها من نبـل مقلتهـا / فألبست زندها درعـاً مـن الـزردِ
سألتها الوصلَ قالت لا تُغـرّ بنـا /  من رام منّا وصالاً مـات بالكمَـدِ،
فكم قتيل لنا بالحُـب مـات جـوىً / من الغرام ولم يُبـديء ولـم يُعِـدِ،
وخلّفتنـي طريحـاً وهـي قائلـة: /  تأمّلوا كيف فعل الظبـي بالأسـد،
قالت لِطَيفِ خيال زارني ومضـى: /  بالله صِدقٌ ولا تنقـص ولا تَـزِد،
فقال:خلّفته لـو مـات مـن ظمـأٍ /  وقُلتِ: قِف عن ورود الماء؛ لم يَرِدِ،
قالت: صَدقْتَ الوفا في الحب شيمته / يا بَرْد ذاك الذي قالت على كبـدي
وأمطَرَت لؤلؤاً من نرجسٍ وسقـت /  ورداً وعضّت على العُنّاب بالبَـرَد،
هم يحسدوني على موتي فوا أسفـي / حتى على الموتِ لا أخلو من الحسدِ

يمكن سماع اغنية "يا جارتي ليلى" بصوت فائزة احمد، ويمكن سماع صوت فهد نجار في اغنيتي "مقدر اقولك مع السلامة روح" واغنية "قلبي معك مرهون" عبر اليو تيوب العظيم بارك الله في مخترعه. 

في الصورة الاولى المطربة ماري عكاوي يقابلها الطفل الفنان فهد نجار في ستوديو دار الاذاعة الفلسطينية عام 1941، والصورة من ارشيف الباحث احمد مروات، وفي الصورة الثانية اعضاء الفرقة الفنية لاذاعة هنا القدس عام 1940 كما وردوا على صفحات مجلتها، وفي الصورة الثالثة اعضاء الفرقة وهم يتدربون يتوسطهم الطفل الفنان ويظهر الى اليمين عازف البزق السوري محمد عبد الكريم. والصورة من موقع انتيكا.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-