اكتظاظ في باصات غزة
أقلّ ما يقال عن أوضاع التلاميذ في باصات غزة بأنها معاناة، في ظل الاكتظاظ الشديد الذي يضطر بعضهم إلى الوقوف طوال الطريق
منذ عدة أشهر، وبالتزامن مع بدء العام الدراسي في قطاع غزة، تنقل التلميذ أسعد المدهون (7 أعوام) بين ثلاثة باصات مدرسية، بعدما واجه الكثير من المشاكل النفسية والتنمر من قبل زملائه في الباص لعدم قدرته على الجلوس، واستقرّ أخيراً في وسيلة نقل يستطيع خلالها الجلوس على مقعد من دون الاضطرار إلى الوقوف ريثما يصل إلى منزله.
لم يكن المدهون الوحيد الذي يواجه تلك المشكلة، إذ أصبحت مشاهد اكتظاظ وسائل النقل العامة بتلاميذ المدارس من المشاهد المألوفة خلال فترة الانتهاء من الدوام الدراسي في غزة بشكل يومي، وتسبّب إزعاجاً كبيراً لدى التلاميذ، خصوصاً الأطفال منهم، إذ إن عدد المقاعد المتاحة في الباص الواحد تتراوح بين 20 و30 مقعدا.
وجد والد أسعد، نبيل، أن الاكتظاظ تحوّل إلى ظاهرة في غزة. وعندما تحدث مع سائق الباص الذي كان يقل نجله، برّر السائق بأن الأمر عادي. المهم أن يصل التلميذ إلى منزله بأمان. وهناك مشكلة أخرى تتعلّق بغلاء أسعار المحروقات، إذ يصل سعر اللتر الواحد إلى دولارين في غزة.
يقول والد المدهون لـ "العربي الجديد": "أُلاحظ أن الكثير من العائلات في غزة تتقبّل الأمر بشكل عادي، بل إن الكثير من الآباء يرون اكتظاظ الباصات من دون أن يتحركوا. كما أن للأمر تأثيرا نفسيا على الأطفال الذين يتنمرون بعضهم على بعض لأنهم يشعرون بالغيرة من تلميذ حالفه الحظ بالجلوس".
من جهته، يعرب أحمد أبو الفول (10 أعوام) عن غضبه، وقد تخلّى عن وسيلة النقل واضطرّ إلى المشي مع زملائه وأصدقاء الحي حتى المنزل، بسبب تصرفات السائق ومن معه في الباص". ويجد أنّ المشي لا يسبب له مشاكل، وفي بعض الأحيان يضطر إلى استخدام سيارة أجرة للوصول إلى المدرسة.
ويقول أبو فول لـ "العربي الجديد": "أعاني بسبب الباص منذ العام الماضي. قبل شهر، وافق أبي على أن أترك وسيلة النقل هذه لأنني كبرت وأصبحت في الصف الخامس ابتدائي. الباصات سيئة جداً، وكان سائق الباص يُجلسني إلى جانب ثلاثة آخرين على مقعدين. وفي بعض الأحيان، لا أتمكن من الجلوس". واضطر والد التلميذ أيهم الشريف (9 أعوام) إلى تقديم شكوى لدائرة تعليم شرق غزة التابعة لوزارة التربية والتعليم للرقابة على شركات النقليات وأصحاب الباصات، لأنهم لا يهتمون بسلامة الأطفال النفسية، ويحشرونهم في باص واحد من دون مراعاة مطالب عائلات الأطفال وهي الجلوس على مقاعدهم".
ويقول الشريف لـ "العربي الجديد": "صحيح أن ظروف غزة صعبة، والحصول على لقمة العيش تحتاج إلى معاناة يومية، لكن لا يجب أن يكون الأمر على حساب صحة الأطفال من خلال لجوء السائق إلى حشرهم. وأصبح المظهر مزعجا جداً. نريد نظاماً تعليمياً منظماً حتى لو كانت ظروفنا الإنسانية سيئة، وأنتظر أي تدخل من وزارة التربية والتعليم في هذا الموقف".
تبرير من السائقين
ويتحدّث عدد من سائقي الباصات المدرسية عن غلاء قطع غيار العربات والوقود. ومع اشتداد الأزمات الاقتصادية في قطاع غزة، تقلص أعداد الطلاب المقبلين على النقليات مع شركات الباصات وغيرها. وهذا ما يركز عليه أحد أصحاب الباصات سمير شلبي. ولا ينكر أنه يضطر في بعض المرات إلى الطلب من التلاميذ الوقوف في ممر الباص بين المقاعد، لكنه يشير إلى أنه يلتزم بتنظيم جلوس التلاميذ في المقاعد من دون الاضطرار إلى الوقوف في أيام الأسبوع، باستثناء يوم الخميس الذي ينتهي فيه دوام الكثير من فصول الدراسة في وقت واحد".
يقول شلبي: "أصحاب الباصات في غزة يعيشون ظروفاً سيئة. لو حدث أي عطل في الباص، يجب أن يؤمن مبلغاً لإصلاحه سريعاً، حتى يتمكن من نقل التلاميذ في اليوم التالي. يضاف إلى ما سبق ارتفاع أسعار الباصات ما يمنعهم من تجديدها، لأن سعرها في غزة أغلى من أي بلد في العالم. ندفع ضريبة لحكومة رام الله لإدارة غزة (حماس) والجانب الإسرائيلي".
نزعة نفسية
من جهتها، ترى الباحثة الاجتماعية أمل النجار أن التلاميذ في غزة يواجهون مشاكل نفسية نتيجة الصفوف المكتظة، ويضم الصف الواحد ما بين 45 و50 تلميذا، إضافة إلى الباصات. كما أنهم يقيمون في بيوت متلاصقة في ظل كثافة سكانية عالية. وتشير إلى أن المشكلة السكانية والاقتصادية في غزة أدت إلى انعدام وجود مساحات عامة للترفيه عن الأطفال، علماً أن كل تلك الظروف تؤثر عليهم نفسياً، وتدفعهم إلى التفكير بطريقة عشوائية وغير سليمة".
وتقول النجار لـ "العربي الجديد": "في علم النفس، هناك قواعد أساسية حول سلوكيات وتربية الطفل في بيئة آمنة، أهمها خلق بيئة تعليمية صحية، إلا أنها غير متوفرة في غزة، ما سيؤدي إلى انعكاسات نفسية سلبية عند هذه الفئة من الأطفال حين يكبرون. وبالتالي، سيكون هناك جيل يعاني من اضطرابات نفسية قد تخلق في داخلهم اغتراب نفسي أو حالة من الإهمال المجتمعي حيال بيئتهم الاجتماعية".
غزة ــ يامن سلمان
13 يناير 2020
أقلّ ما يقال عن أوضاع التلاميذ في باصات غزة بأنها معاناة، في ظل الاكتظاظ الشديد الذي يضطر بعضهم إلى الوقوف طوال الطريق
منذ عدة أشهر، وبالتزامن مع بدء العام الدراسي في قطاع غزة، تنقل التلميذ أسعد المدهون (7 أعوام) بين ثلاثة باصات مدرسية، بعدما واجه الكثير من المشاكل النفسية والتنمر من قبل زملائه في الباص لعدم قدرته على الجلوس، واستقرّ أخيراً في وسيلة نقل يستطيع خلالها الجلوس على مقعد من دون الاضطرار إلى الوقوف ريثما يصل إلى منزله.
لم يكن المدهون الوحيد الذي يواجه تلك المشكلة، إذ أصبحت مشاهد اكتظاظ وسائل النقل العامة بتلاميذ المدارس من المشاهد المألوفة خلال فترة الانتهاء من الدوام الدراسي في غزة بشكل يومي، وتسبّب إزعاجاً كبيراً لدى التلاميذ، خصوصاً الأطفال منهم، إذ إن عدد المقاعد المتاحة في الباص الواحد تتراوح بين 20 و30 مقعدا.
وجد والد أسعد، نبيل، أن الاكتظاظ تحوّل إلى ظاهرة في غزة. وعندما تحدث مع سائق الباص الذي كان يقل نجله، برّر السائق بأن الأمر عادي. المهم أن يصل التلميذ إلى منزله بأمان. وهناك مشكلة أخرى تتعلّق بغلاء أسعار المحروقات، إذ يصل سعر اللتر الواحد إلى دولارين في غزة.
يقول والد المدهون لـ "العربي الجديد": "أُلاحظ أن الكثير من العائلات في غزة تتقبّل الأمر بشكل عادي، بل إن الكثير من الآباء يرون اكتظاظ الباصات من دون أن يتحركوا. كما أن للأمر تأثيرا نفسيا على الأطفال الذين يتنمرون بعضهم على بعض لأنهم يشعرون بالغيرة من تلميذ حالفه الحظ بالجلوس".
من جهته، يعرب أحمد أبو الفول (10 أعوام) عن غضبه، وقد تخلّى عن وسيلة النقل واضطرّ إلى المشي مع زملائه وأصدقاء الحي حتى المنزل، بسبب تصرفات السائق ومن معه في الباص". ويجد أنّ المشي لا يسبب له مشاكل، وفي بعض الأحيان يضطر إلى استخدام سيارة أجرة للوصول إلى المدرسة.
ويقول أبو فول لـ "العربي الجديد": "أعاني بسبب الباص منذ العام الماضي. قبل شهر، وافق أبي على أن أترك وسيلة النقل هذه لأنني كبرت وأصبحت في الصف الخامس ابتدائي. الباصات سيئة جداً، وكان سائق الباص يُجلسني إلى جانب ثلاثة آخرين على مقعدين. وفي بعض الأحيان، لا أتمكن من الجلوس". واضطر والد التلميذ أيهم الشريف (9 أعوام) إلى تقديم شكوى لدائرة تعليم شرق غزة التابعة لوزارة التربية والتعليم للرقابة على شركات النقليات وأصحاب الباصات، لأنهم لا يهتمون بسلامة الأطفال النفسية، ويحشرونهم في باص واحد من دون مراعاة مطالب عائلات الأطفال وهي الجلوس على مقاعدهم".
ويقول الشريف لـ "العربي الجديد": "صحيح أن ظروف غزة صعبة، والحصول على لقمة العيش تحتاج إلى معاناة يومية، لكن لا يجب أن يكون الأمر على حساب صحة الأطفال من خلال لجوء السائق إلى حشرهم. وأصبح المظهر مزعجا جداً. نريد نظاماً تعليمياً منظماً حتى لو كانت ظروفنا الإنسانية سيئة، وأنتظر أي تدخل من وزارة التربية والتعليم في هذا الموقف".
تبرير من السائقين
ويتحدّث عدد من سائقي الباصات المدرسية عن غلاء قطع غيار العربات والوقود. ومع اشتداد الأزمات الاقتصادية في قطاع غزة، تقلص أعداد الطلاب المقبلين على النقليات مع شركات الباصات وغيرها. وهذا ما يركز عليه أحد أصحاب الباصات سمير شلبي. ولا ينكر أنه يضطر في بعض المرات إلى الطلب من التلاميذ الوقوف في ممر الباص بين المقاعد، لكنه يشير إلى أنه يلتزم بتنظيم جلوس التلاميذ في المقاعد من دون الاضطرار إلى الوقوف في أيام الأسبوع، باستثناء يوم الخميس الذي ينتهي فيه دوام الكثير من فصول الدراسة في وقت واحد".
يقول شلبي: "أصحاب الباصات في غزة يعيشون ظروفاً سيئة. لو حدث أي عطل في الباص، يجب أن يؤمن مبلغاً لإصلاحه سريعاً، حتى يتمكن من نقل التلاميذ في اليوم التالي. يضاف إلى ما سبق ارتفاع أسعار الباصات ما يمنعهم من تجديدها، لأن سعرها في غزة أغلى من أي بلد في العالم. ندفع ضريبة لحكومة رام الله لإدارة غزة (حماس) والجانب الإسرائيلي".
نزعة نفسية
من جهتها، ترى الباحثة الاجتماعية أمل النجار أن التلاميذ في غزة يواجهون مشاكل نفسية نتيجة الصفوف المكتظة، ويضم الصف الواحد ما بين 45 و50 تلميذا، إضافة إلى الباصات. كما أنهم يقيمون في بيوت متلاصقة في ظل كثافة سكانية عالية. وتشير إلى أن المشكلة السكانية والاقتصادية في غزة أدت إلى انعدام وجود مساحات عامة للترفيه عن الأطفال، علماً أن كل تلك الظروف تؤثر عليهم نفسياً، وتدفعهم إلى التفكير بطريقة عشوائية وغير سليمة".
وتقول النجار لـ "العربي الجديد": "في علم النفس، هناك قواعد أساسية حول سلوكيات وتربية الطفل في بيئة آمنة، أهمها خلق بيئة تعليمية صحية، إلا أنها غير متوفرة في غزة، ما سيؤدي إلى انعكاسات نفسية سلبية عند هذه الفئة من الأطفال حين يكبرون. وبالتالي، سيكون هناك جيل يعاني من اضطرابات نفسية قد تخلق في داخلهم اغتراب نفسي أو حالة من الإهمال المجتمعي حيال بيئتهم الاجتماعية".
غزة ــ يامن سلمان
13 يناير 2020