أخر الاخبار

رواية العنقاء كاملة : الجزء 30: رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي.

رواية العنقاء كاملة : الجزء 30:  رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي. للكاتب عبد الكريم السبعاوي في 1942  المولود في حارة التفاح بمدينة غزة لأسرة فقيرة لكنها حفية بالعلم والثقافة
----------------

كأن له ألف عين وألف ذراع والف قدم .. يقسم الجنود المغاربة على الطابية
الشرقية .. إنهم رأوه في عدة أماكن في نفس الوقت .. وأنه يتناسخ كالشبح .. أما
التراك على الطابية الشمالية فما عادت لديهم الجرأة للتلفت وراءهم .. حتى ل ينهال
عليهم بسوطه .. لظوغلي أغا قائد الطابية بات مع زوجته أمس .. كان مجازا" لليلة
واحدة .. ولكنه قبل الفجر ركض إلى الطابية نصف عار وسرواله في يده .. حين التقط
 : أنفاسه .. أقسم أنه سمع صوت الجزار يأتيه من سقف الغرفة
 . نايم مع حريم لظوغلي أغا ؟ اتفوه -
العرب الرماه على السوار يزعمون أن الجزار متصل .. وأن سره باتع ..
وأنه يخاوي الجان .. الباشا بزق يشيعون في أزقة عكا أن الجزار كان يحبر بعض
الرسائل في القلعة والحبر على أصابعه .. حين ورده كتاب نابيلون الخير .. قال
 : للرسول
 . قل لسيدك أن يرحل عن بلدي قبل أن أفقأ عينيه بأصابعي -
مد يده من شباك القلعة باتجاه بونابرته .. حين عاد الرسول إلى نابيلون .. وجد
 . عينيه ملوثتين بالحبر الذي كان على أصابع الجزار
الفرنسيون العملء الذين يشتغلون في خدمة الجزار .. يرسمون الخطط ..
ويقيسون المسافات .. وينصبون المدافع .. كفوا عن التخاطب بلغتهم حتى ل يشك
 . الجزار فيما يقولون .. ويفسر ذلك على محمـل الغـدر به
وحدهم تلميذ تاج الدين الخروبي كانوا يسمعون ما يقال عن الجزار فل
يعيرونه التفاتا" .. لقد تطوعوا مع عدد من الهالي .. ابتغاء مرضاة ال ودفاعا" عن
ديار السلم .. منهم من اتسع وقته للتدريب على الرماية بالبندقية .. ومنهم من تسلح
 . بسيف أو طبر .. ولكن عزمهم على الجهاد كان أمضى من كل سلح
العيون مسمرة على العدو .. والصابع على الزناد .. كل شئ في عكا يدور
بانتظام كما تدور الساعة .. امدادات الذخيرة والمؤن تصل تباعا" .. تبديل الجند يتم في
ثوان معدودة .. فرق الطفاء تعمل دون كلل .. في مكافحة الحرائق الصغيرة التي
تشعلها قذائف الفرنسيين .. عربات السعاف تركض بالجرحى إلى الشفاخانة بعد إحلل
 . آخرين محلهم
الشبح الرهيب الذي إسمه الجزار يخيم على كل شئ .. يراقب كل شئ .. يرى
 . ويسمع ويحس دبيب النمل داخل السوار وخارجها
 : قال له النجليز
 . عليك أن تثق بنا -
وقال له عملؤه الفرنسيون كلما" مشابها" .. وقال الصدر العظم وقال العرب ..
وقال الشركس .. وقال البشناق .. لكنه يهز رأسه ول يعلق بشئ .. أحيانا" يهمس لنفسه
:
 . مغفلون -
دهر طويل مر منذ أن ركعت جلبار هانم على ركبتيها .. أمام ذلك اللملوك الغر
مستعطفة متذللة .. إلى الجحيم أيتها الثقة .. الثقة بالنساء والدول والمماليك وقادة
الجند .. أحمد باشا الجزار يثق في إنسان واحد .. هو أحمد باشا الجزار فقط .. أما
باقي الناس فقد تكفل بهم السيف والذهب إل أنت يا تاج الدين .. ما لي عليك حيلة إل
 . بالكلم المعسول
طريق البحر سالكه .. المؤن والذخائر تصل تباعا" .. ولو انقطعت فإن بالعنابر
 . ما يكفي لخمسة أعوام من الحصار
ذات يوم استيقظ الجزار مبكرا" على عادته .. لحظ أن القصف يشتد على
الطابية الشرقية .. يبدو أن نابليون قرر اقتحام السور من هناك .. انطلق بحصانه في
اتجاه القصف .. لم يكد يقترب من الطابية حتى سمع تصايح الجند .. كانت المدافع
الجديدة التي استقدمها نابيلون قد أفلحت في فتح ثغرة .. تدفق الخيالة الفرنسيون
باتجاهها .. جنود الطابية لم يستطيعوا احتمال الرماية الفرنسية المركزة .. تركوا
 . مدافعهم ولذوا بالفرار
 : رآهم مصطفى الكاشف يخلون مواقعهم .. فصرخ في رجاله
من يبايع على الموت ؟ -
اندفعوا وراءه وهم يهللون ويكبرون .. تبعهم عدد من الهالي بفئوسهم
 : وهراواتهم .. صاح مصطفى
الحجارة .. أمطروهم بالحجارة .. ل تدعوهم يقتربون من الثغرة .. أخذ الرجال -
 . يجمعون ما تهدم من حجارة السور.. ويلقون بها على رؤوس الفرنسيين
 . موقعين فيهم خسائر كبيرة .. لم يستطع أيا" من خيالتهم الوصول إلى مكان الثغرة
لم يكد الجنود الهاربون يبتعدون قليل" عن مواقعهم .. حتى تلقاهم أحمد باشا
 . ببندقيته المشرعة
 . عودوا إلى أماكنكم قبل أن ألهب رؤوسكم بالرصاص -
ترددوا في العودة .. أطلق على رأس اقربهم .. تناثر دماغه على السور ..
تواثب الباقون عائدين إلى مدافعهم .. هدرت الطابية من جديد .. انصب شواظ من نار
على رؤوس الفرنسيين .. تساقطوا تحت عينيه فوجا" وراء الخر .. بدأ الهجوم يفقد
اندفاعه .. تباطأ سيلهم الزاحف .. ارتد على نفسه شيئا" فشيئا" .. أخيرا" لذ الباقون
 . بالفرار
أشار أحمد باشا إلى الثغرة التي أحدثها الفرنسيون .. هب عشرات من الرجال
إلى مكان الثغرة .. في أقل من ساعة أعيد السور إلى ما كان عليه .. التفت الجزار إلى
 : مصطفى الكاشف
لقد أبليتم بلء حسنا" في هذا الصباح .. من أنتم ؟ -
 . نحن تلميذ العارف بال تاج الدين الخروبي -
 : قال الجزار وهو يضع يده اليمنى على قلبه .. مظهرا" الخشوع والحترام
 . قدس ال سره -
نادى الجزار آمر حرسه .. أشار إلى جنود الطابية الذين أخلوا مواقعهم أثناء
 . المعركة
أضرب أعناق هؤلء الخونة .. وعلق رؤوسهم على زوايا السور حتى ل يفر بعدهم -
 . أحد
نفض الجزار عن ثيابه الرماد والبارود .. امتطى جواده ولكزه بقوه .. تناثر
.الشرر تحت سنابكه .. طار به تلفه سحابة من الدخان السود
???
لم يجرؤ أحد على إخبار سالم بهرب فاطمة .. ولم يجرؤ هو على دخول بيت عمه ..
خوفا" من اللعنة التي حلت بأهله .. لكن بعد اسبوعين كاملين عرف سالم .. أفشى له السر أحد
أتباعه نكاية بحسان السلمين .
لم يتحمل الفار أكثر من صفعة واحدة .. سرد على مسامع سالم القصة كلها .. قال
سالم في نفسه ( غدا" أذهب أنا والمستحفظان إلى وادي الزيت .. مبارك يدخل السجن ول يعود
.. وفاطمة تدخل ذمتي .. والوادي يدخل عبي الذي وسع كل شئ .
قهقه سالم حتى استلقى على قفاه وهو يردد :
- كل العصافير بحجر واحد .. كل العصافير بحجر واحد .
حين انصرف حسان طلب سالم العشاء .. كانت صغرى زوجاته قد أعدت له زوجــا"
من الزغاليل محشو بالفريك .. لم تنس أن تزيد البهارات .. فالليلة ليلتها ول تريدها أن تضيع
سدى .. ارسل سالم يرجو المستحفظان الحضور إليه في الصباح .. التهم ســالم عشــاءه ..
أحس أن حرارته ترتفع .. خلع عباءته .. استلقى على الفراش .. لكن الحمى بدأت تفعل فعلها
.. خلع ثوبه .. نظرت زوجته إلى ملتقى الرقبة والصدر وصرخت :
نفس البقعة الحمراء الداكنة التي رأتها في جسد بركة عند موتها .. حــاول ســالم أن
ينظر حيث أشارت .. لكنه لم يستطع .. كانت أوداجه قد بدأت في النتفاخ .. عندما وصــل
المستحفظان ورجاله صبيحة اليوم التالي .. كان سالم قد فقد النطـق .. وقـف المسـتحفظان
بجوار فراشه :
- لو أن أحدا" غيرك استدعاني لما حفلت به .. لكن خدماتك لنا جعلتنا نثــق بــك .. ونلــبي
مطالبك .. إلى أين كنت تنوي أخذنا ؟ لعلك عرفت مخبأ مبارك وعصابته . 
اقترب المستحفظان من فراشه .. رآى جسده يتفصــد مــن الحمــى .. أزاح عنــه
الغطاء .. نظر الى البقعة الداكنة .. ثم لفظ كلمة قدر لها أن تمل الحارة بالرعب :
- الطاعون !
أعاد الغطاء عليه .
كان سالم قد فارق الحياة .
قال المستحفظان : هذه هي الحالة الثالثة التي أعرف عنها .. ولبد أن هناك الكــثير
من الحالت التي ل نبلغ بها .. وإل فما سر هذه الجنازات التي تمل شوارع المدينة ؟
أشار المستحفظان داوود لرجاله :
- خذوه إلى حفرة البلدية .. وأهيلوا عليه كثيرا من الجير .. أغلقوا بيته فل يفتح إل بإذننا ..
سلموا أهله إلى الكرنتينا .
لم يمش خلف جنازة سالم أحد .. لفه الرجال في خرقة وحملوه إلى الحفرة .. تبعهــم
حسان السلمين .. حين أهالوا عليه الجير كان بعض الجير قد تحجر في كتل صغيرة .. أخذ
حسان يتأملها وهي تهوي على جسد سالم ثم هتف :
- كل الحجار تصيب الن عصفورا" واحدا" .. هو انت يا سالم.
???
مضى جوهر يسحب أقدامه سحبا" نحو غزة .. ل رصاص الفرنسيين .. ول الطاعون
.. ول الموت نفسه .. كان قادرا" على أن يوقف خطاه الزاحفة .. المدن والقرى في الطريــق
إلى غزة مهجورة تماما" .. إل من الحيوانات الضالةالشاردة هنا وهنـاك .. تطاردهـا الكلب
المسعورة التي عادت وحشية .. كأن لم يدجنها أحد .. في الحقول كانت تصــادفه جماعــات
أهزلها الجوع والخوف .. عيونها زائغة .. وجوههــا صــفراء .. ل تتحــدث إل لمامــا" ..
تستعيض عن الكلم بالشارة في أغلب الوقت .. أكلوا كل شئ صادفهم .. حتى أوراق الشجر
وضلوع الصبر .
حين وصل وادي الزيت كان الوقت عصرا" .. إجتاز صفين من الرجــال المـدججين
بالسلح دون أن يكلم أحدا" منهم .. أما هم فكانوا يفسحون له الطريق كما لو انه شبح .. توقف
على باب المضافة .. عبقت رائحة جروحه النتنة .. التفتوا إلى الباب .. صرخ مبارك :
- جوهر .
قام ليحتضنه . 
إذن رجعت من الموت .. قالـوا أنك قتلت في يافا مع بــاقي الســـرى .. نحــاه
جوهـر جانبا" .. واتجه إلى فراشه .. في أقصى المضافة .. سقط على الفراش دون حراك ..
عشرة أيام كاملة .. تولت مرجانة أمره .. بعد كي جراحه بالنار .. كانت تدهن لـه الجـراح
بالمومياء ثلث مرات في اليوم .. وتسـقيه الحلبة المغليـة ممزوجة بالحليب والعسل .. إلى
أن أبل من سقامه .. فتح عينيه ووعى ما حوله .
- هات ما عندك يا مبارك منذ سقط يونس .
- الطاعون يا جوهر أخذ والدي وإخوتي وأخذ نعمه .. وكنس بيوت الحارة بيتا" بيتا" .
- وفاطمة ؟
- ما تزال حامل" .. إنها معنا في الوادي وقد فرحت بعودتك .. قالت : حمــدا ل أن الطفــل
سيجد له خال" وعما" .
قال جوهر وقد تهللت أساريره لول مرة منذ فقد أخاه .
- إذن سيعود يونس حيا" ..
وتابع ساهما:
- عسى ال من بعد نخلي بيزرع لي زماني نوا.
تابع مبارك :
- لن تعرف فاطمة.. لم تترك منها المصائب سوى حطام بائس .. ابيض شــعر رأســها ..
وانتابها الذهول عمن حولها .. إنها تعيش في عالم آخر .. دائما" تتحدث إلى يونس والراحلين
من الهل .. لول الطفل الذي أوشكت على وضعه لما حفلت بالبقاء حيـة لحظـة واحـدة ..
ليتداركها ال بلطفه .
سكت لحظة .. رآى جوهر الدموع تلتمع في عيني مبارك .. أراد أن يغير الموضوع :
- حدثني عن الحارة يا مبارك .
- هجرها البطوش والريفية والسويسية ..أكل الطاعون من أكل منهم والبــاقون اســتوطنوا
الكروم والحقول المجاورة .. رحم ال الزهار .. اغتنى من بيع الكفان لهل الحارة .. حين
مات لم يجدوا في دكانه كفنا" له ل.. لفوه بثوبه .
حبوش نصب خيمة في المقبرة حتى يظل إلى جانب عمله .. فالجنـازات ل تنقطـع .. قـال
لزوجته حين لمته على ترك البيت ( مطرح ما بترزق الـزق ) مضى يسحبه طبــوع أبــو
الرواكي .
شكت زوجته لبي غوش فضحك حتى دمعت عيناه .. قال لها :
- دعيه يا حرمة .. هذا موسمه الخاص قال المثل ( مــوت الحميــر .. فــرج
عالكلب ) .
 لكن موسم حبوش لم يطل كثيرا" .
في صباح اليوم التالي وجدوه في خيمته جثة هامدة .. حسان السلمين مات بعد موت
سالم بأسبوع .. بكت عليه سكينة يوما" واحدا" .. ثم انشغلت عنه بوفاة إبنهـا البكـر .. الـذي
مازالت تبكيه حتى يومنا هذا .. سكت مبارك فجأة .. قفز جوهر كالملدوغ :
- ل تقل أن شهوان قد ..
- لماذا جزعت على شهوان فقط .. شهوان مات شهيدا" يا جوهر .
- جزعت على الجميع .. لكن شهوان روح الحارة ونبض قلبها .
ضرب كفا" بكف .. ما أعظم فجيعتي فيك يا شهوان .. لحول ول قوة إل بال .
أطرق مبارك لحظة ثم تابع :
- منذ وفـاة يونس .. صار الموت ضيفا" ثقيـل" على قلوبنـا .. ل يفــارق إل
ليعود .
???
اصطحب مبارك جوهر إلى مسـجد الجاولي بعد أن أتقنـا تنكرهما .. شقا طريقهما
بصعوبة بين الجالسين لستماع درس العصر .. كان صوت تاج الدين يدوي كما لو أنه فــتى
في العشرين :
(( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم .. وأموال اقترفتموها وتجــارة
تخشون كسادها .. ومساكن ترضونها .. أحب إليكم من ال ورسوله وجهـاد فـي سـبيله ..
فتربصوا حتى يأتي ال بأمره .. وال ل يهدي القوم الفاسقين )) .. صدق ال العظيم .. وقال
تعالى :
 (( يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم)) .. وقال تعالى :
 (( إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .. يقــاتلون فــي ســبيل ال
فيقتلون ويقتلون .. وقال تعالى : (( يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب
أليم .. تؤمنون بال ورسوله .. وتجاهدون في سبيل ال بأموالكم وأنفسكم .. ذلكم خير لكم إن
كنتم تعلمون )) .
وهكذا اقترن اليمان بالجهاد .. في معظم اليات والحاديث .. ول ايمان بغير جهـاد
في سبيل ال .. وقد فضل ال المجاهدين على القاعدين .. وأجزل لهم العطاء ووعدهم بإحدى
الحسنيين .. النصر أو الشهادة .. أما الذين ينالون الشهادة فأولئك الذين قال عنهــم الحــق :
(( ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أموات" بل أحياء عند ربهم يرزقون )) .
وفي الحديث الشريف : (( من لـم يغـز ولـم يفكـر بـالغزاة فليمـت يهوديـا" أو
نصرانيا" )) .. وفي الحديث أيضا" : (( الجهاد فريضة على كل مسلم )) وعنه صلى ال عليه
وسلم قال (( لرباط يوم وليلة في سبيل ال خير من الدنيا وما فيها )) .
 بكى تاج اليدن .. هاج الجمع وماج .. انطلقت الهتافات .
نهض الشيخ تاج الدين منصرفا" إلى غرفته الملحقة بالمسجد .. مضى مبارك وجوهر
في أثره .. قبل مبارك يد الشيخ .. عانقه جوهر والدموع في عينيه .
رحب بهما تاج الدين وأجلسهما إلى جواره :
- وصلني كتاب من أحمد باشا الجزار يقول أن الحصار اشتد بأهل عكــا .. ويطلــب مــن
المجاهدين مناوشة الفرنسيين المحاصرين للمدينة حتى تصبح إقامتهم صعبة ومكلفة .. ثم تابع
حديثه بعد لحظة صمت :
- ما أظن أنهم سيصمدون في حصارهم طويل" بعد أن تفشى بينهم الطاعون .
قال جوهر :
- لكن الطاعون تفشى فينا أيضا" .
- يا بني .. سوف نلد نحن اضعاف الذين يموتون منا .. أما هم فسوف يتناقصـون حـتى ل
يبقى منهم أحد .
ثم تابع الحديث إلى مبارك :
- انهض برجالك إلى أسوار عكا .. دع أمر غزة لجوهر .. فوال إنني أتوسم فيه الخير منــذ
رأيته مع يونس .
هجم جوهر على يد الشيخ يقبلها :
- روحي فداك أيها الشيخ الجليل .
حين إنصرفا قال مبارك :
- توالت رسائل الجزار على تاج الدين منذ سقطت غزة .. وفيها يعلن توبته وندمه على مــا
سلف من سجنه للشيخ ونفيه .. ويعد إذا ما قيض ال له النصر .. أل يعمل إل بالكتاب والسنة
.. وأن يكون طوعا" للشيخ ورهنا" لشارته .. وقعت على أحد كتبه وفيه يقول للشيخ : (( إنني
لست أهل" لن أغسل وجهي بالماء الذي يتخلف من وضوء قدميك )) .
- وهل صدقه تاج الدين ؟
- يقول تاج الدين : نحن نجاهد في سبيل ال وليس في سبيل الجزار أو غيره .. فإن تصادف
إن اختار الجزار طريق الجهاد .. ففي الطريق متسع للجميع .. أما عن وعود الجزار فإن ال
وحده يعلم السرائر .
- والن .. ما الذي نويته يا مبارك ؟
- سأعطي رجالي مهلة أسبوع ليتدبروا أمرهم قبل الرحيل إلى عكا .
???
في السفح المواجه لقلعة عكا .. نصبوا خيمة ساري عسكر .. كانت خيمة كبيرة مــن
غنائم المماليك .. فرشوا ارضها بالسجاد والطنافس .. بدت اقرب إلى بلط أمير شرقي منها
إلى خيمة قائد عام للجيش الفرنسي
جلس ساري عسكر في الصدر على كرسي مذهب .. التمعت نياشينه وألوان سترته
فبدى كالطاووس .. لحظ كليبر أن القائد لم يكن حسن المزاج .. تردد فــي تقــديم التقريــر
اليومي .. لكن بونابرت فاجأه :
- أعلم ما لديك يا كليبر .. تزايد غارات البدو على خطوطنا .. لكن لماذا تصمم في تقاريرك
أنهم البدو .. مع أنك تعرف أن سائر أهل البلد مشتركون في مقاومتنا .. أي خــداع للنفـس
حين نتوهم أن أهل البـلد معنـا .. الكثر ازعاجا" هو انتفاض مماليك مصر علينا .. عادوا
إلى طبعهم في الخيانة .. كلفونا ثلثمائة قتيل في السبوع الماضي .. كأن الطــاعون وحــده
ليس كافيا" .
- لماذا تتكرر حوادث اختفاءالجند في القاهرة .. هل بدأ الهالي يتنمرون علينا ؟
سمعوا دوي المدافع .. اشار بونابرت إلى جهة البحر .. شهر كامل وهذا اللعين سدني
سميث يدك تجمعاتنا حول عكا .. يحبط هجماتنا على أسوارها من سفن السطول البريطــاني
في البحر .. لو لم يغرق أسطولي في أبي قير .. هل كانت هذه المدينة تصمد أمامي أســبوعا"
واحدا"
تدخل بوريين :
- ل تنسى يا سيدي ما يقوم به الفرنسيون الهاربون من أعداء الثورة الفرنسية داخل السوار
من دور هام في إعداد خطط الدفاع .
هز نابليون قبضته : 
- هؤلء الخونة .. لم نكن نعلم بإنضمامهم إلى الجزار حين هاجمنا القلعة أول مـرة .. كنــا
واثقين من النصر حتى أننا ارتجلنا خطة الهجوم ارتجال" .
ضحك الجنرال كليبر :
- هاجمنا عكا على الطريقة التركية .. فإذا بهم يدافعون عنها على الطريقة الفرنسية .
حدجه نابليون بنظرة قاسية .. فأمسك عن الحديث .
تشاغل نابيلون بتقليب صفحات الفيجارو .
 قال كليبر في نفسه : سينزعج أكثر بعد قراءته للصحيفة .
انفلت عيار القائد مرة ثانية .
- يتجاهلون أخبارنا .. انظروا أين نشروا خبر انتصاري في معركة طــابور .. ســتة آلف
جندي فرنسي .. يهزمون ثلثين ألفا" من خيرة جنود السلطنة العثمانية .. ثم ينشر الخبر فــي
ذيل الصفحة الخيره.
نحى نابليون الصحيفة جانبا" :
- إن إقامة امبراطورية فرنسية في الشرق .. ل يعني أحدا" غيرنا يا بورين .
أراد بورين أن يلطف غضبه :
- سيدي .. إن فرنسا كلها معك .
- كل يا بورين .. إنهم يتعمدون تصغيري أمام الشعب الذي أحبني .. وأنا أعرف على وجه
التحديد من الذي يفعل ذلك في باريس .. ثم وجه كلمه إلى كليبر :
- كليبر ايها الجنرال الشجاع .. يبدو أن احتلل قرية على أطراف اللورين .. يلمس قلــب
فرنسا أكثر من فتح الصين .
ثم تابع كأنه يحدث نفسه :
- إن علي أن أعطي فرنسا ما تريده .. لكي تعطيني بدورها ما أريد .
صفق بونابرت بيديه .. دخل الحاجب وانحنى أمامه :
- رسول من غزة يا سيدي .
- أدخله .
دخل ضابط فرنسي وأدى التحية :
 -سيدي لقد تم نسف مسجد الجاولي وتدميره تماما" كما أمرت .. ألقينا القبض على عدد مــن
أتباع الشيخ الخروبي وأودعناهم السجن .
- والشيخ الخروبي ؟
- أحضرناه إلى هنا حسب أوامرك .. عاملناه بالحسنى طوال الطريق .
- حسنا" . 
صرف الضابط بإشارة من يده ثم التفت إلى الحاجب :
- أخيرا" سأرى هذا الشيخ الحمق .. أدخلوه علي .
دخل تاج الدين يستند على عصاه .. تفرسه نابليون بعين مثل عين الصــقر .. لعلــه
ناهز المائة .. لشدما أثقلت عليه الشيخوخة .
نهض نابليون فنهض كليبر وبورين .. استأذنا وانصرفا .. أشار بونابرت إلى كرسي قريب :
- تفضل بالجلوس هنا أيها الشيخ .
لم يلتفت تاج الدين حيث أشار بونابرت .. أجاب بصوت بدا قويا" ونفاذا" بالنسبة لسنه :
- أفضل الجلوس هنا على الرض .
جلس وتربع
تقدم نابليون إلى حيث جلس تاج الدين وتربع أمامه مباشرة :
- لماذا تحرض العامة علي ؟ لقد سجنك الجزار وأطلقت أنا سراحك .
- أطلقتني من السجن الصغير إلى السجن الكبير .
- منحتك الحرية .
- كيف يكون النسان حرا" .. في وطن مستعبد ؟!
- لقد نصرني ال عليهم هؤلء التراك .. وإن من قضاء ال وقدره أن تطيعني .
- لم يكن قتالك معهم قتال" بين حق وباطل .. لكي ينصرك ال عليهم أو ينصـرهم عليـك ..
كان قتال" بين باطلين .. فغلب الباطل القوي الباطل الضعيف .
- ألم تسمع بمبادئ الثورة الفرنسية ؟ الحرية .. العدالة .. المساواة ؟
-هذه مبادئ جميلة ولكن أين سلوكك منها ؟ هل قتلك لربعة آلف أسير في يافا .. ينتمي إلى
الحرية أو العدالة أو المساواة .. لعلك أردت أن تساوي بيننا بالموت ؟!!
- أنا ولي المر .. شيوخ الزهر أطاعوني .
- أنت كافر ول طاعة لك .
- إذا كان هذا ما يمنعك من طاعتي .. فإنني على استعداد لسلم على يديك .. وأشــهد أن ل
إله إل ال وأن محمدا" رسول ال .
- هذه الشهادة إن صحت كافية لن تحقن دمك .. لكنها ليست كافية لن تجعلك أمير المؤمنين
يا ساري عسكر .
- ما الذي تريده أيها الشيخ المخرف ؟
- أنا جالس في بيتي ل اريد منك شيئا" .. أنت الذي أتيتني من وراء البحر شاهرا" ســيفك ..
مشحونا" بكل الثارات والحقاد القديمة .
- أية ثارات وأية أحفاد ؟ 
- الحرب بيننا وبينكم سجال .. منذ بدأت أوروبا تحلم باستعباد هذا الشرق .. أنت حلقة فــي
سلسلة .. جاء قبلك الغريق.. والرومان .. والصليبيون .. لست أول الغزاة ول آخرهم .
اقترب هدير مدافع السطول البريطاني .. ضحك تاج الدين :
- لماذا تضحك ؟
- إن بعضهم يستعجل خروجك ليدخل .
- تقصد النجليز .. لعلك أحد عملئهم ؟
- هل نستجير من الرمضاء بالنار ؟ سنحاربهم كما حاربناكم وحاربنا من سبقكم .
كأنما كتب علينا أن نحاربكم بالحق .. وتحاربوننا بالباطل إلى قيام الساعة .. وإل فبماذا تفسر
وجودك هنا ؟
- جئنا لنشر الحضارة والمدنية .
- هذه مسألة تتم بالقناع .. ومقارعة الحجة بالحجة .. ول تتم بحد السيف .
- أل تخاف مني أيها الشيخ الطاعن ؟
- ألم تسمع الذان يا ساري عسكر ؟ هذا النداء يذكرنا خمس مرات في اليوم أن ال أكـبر ..
وأن كل ما سوى ال تافه وحقير ول يخيف .
نهض بونابرت محنقا" .. نادى على الحراس :
- ألقوا بهذه القمامة إلى الخارج .
سأل كبيرهم :
- هل نقتله يا سيدي ؟
- كل .. سأتركه للطاعون .
أخذ نابليون يذرع خيمته بعصبية جيئة وذهابا" .. وهو يضرب إحدى قبضتيه براحــة
كفه .. أخيرا" جلس على كرسيه .. خط شيئا" بالقلم على ورقة أمامه .. دخل الحاجب :
- شامبيلون يطلب الذن بالدخول .
- ما الذي يريده شامبليون ؟ لم يعد ينقصني غير حفرياته الن .. أدخلوه
حياه شامبيلون :
- سيدي القائد ..عثرنا على بردية في تل العجول جنوب غزة ..مكتوبة بالهيروغليفيــة ..
ترجمناها إلى الفرنسية .
- أسمعني ماذا تقول البردية ؟
قرأ شامبليون باهتمام بالغ :
- احترف الفينيقيون التجارة .. واحترف الهكسوس الرعي .. أما نحن أبناء كنعان فقد احترفنا
طرد الغزاة .. إن الكنعاني ل يعرف على وجه التحديد .. كم مرة دق منجله سيفا" .. وكم مرة
دق سيفه منجل" .
تنهد بونابرت :
- لن نبقى هنا حتى يطردنا الكنعانيون أو غيرهم .. لقد اتخذت قراري وقضــي
المر .
???


 رواية العنقاء كاملة :الجزء الأخير 31:
 رواية العنقاء كاملة :الجزء 29:


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-