رواية العنقاء كاملة : الجزء 27: رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي. للكاتب عبد الكريم السبعاوي في 1942 المولود في حارة التفاح بمدينة غزة لأسرة فقيرة لكنها حفية بالعلم والثقافة
----------------
رواية العنقاء كاملة :الجزء 28:
رواية العنقاء كاملة :الجزء 26:
----------------
على باب الدبوية استعرض نابليون حرس الشرف .. عانق الجنرال كليبر قائد معركة
غزة .. هنأه على انتصاره .
- ماذا عندك يا كليبر ؟
أشار كليبر إلى صف من الرجال خلفه :
- هذا وفد من العلماء والوجهاء .. على رأسهم قاضي المدينة .. جاءوا يناشدوك أن تحقــن
دماء الهالي وترفع السيف عنهم ..
نظر نابليون إلى حيث أشـار .. التقت عيناه بعيني القاضـي معـروف .. ارتجـف
معروف وهو يحس بعيني ساري عسكر تخزه كالمخرز .. حضن كرشه بيديه وبلع ريقه وهو
يقول في نفسه :
- يا لقرد طول شبر .. ثم راجع نفسه وهو يرى ابتسامة ساري عسكر .. نعم هو بالغ القصر
لكنه حسين الوجه .. وهذه الغرة على جبينه تزيده جمال" وتألقا" .. ثم أنه في ريعان شــبابه ..
حسبته أسن من ذلك .
نقل معروف بصره في القادة والجند .. لحظ أن وجوههم حليقـة وناعمـة كوجـوه
النساء .. تعجب كيف استطاع هؤلء المخانيث النتصار على جنود السلطان الذين يتبــاهون
بشواربهم ولحاهم .
التفت بونابرت إلى رجل معمم كان يقف خلف كليبر :
- تأكد يا شيخ دسوقي أنهم قد حفظوا درسهم جيدا" قبل أن تدخلهم علي ..
انحنى الشيخ الدسوقي :
- أمرك يا سيدي .
تابع بونابرت حديثه مع كليبر وهو يتقدمه صاعدا" درجات الدبوية إلى مكتب درويـش
باشا الذي أصبح منذ الساعة مقرا" لساري عسكر .
- هل وجدتم في بيت درويش باشا ما كنا نجده في بيوت المماليك من كنوز وجواري وخلف
ذلك ؟
- كل يا سيدي .. لم نجد سوى سارة .. تركناها في القصر تشرف على إعداد وليمة العشـاء
التي ستقيمها المدينة بعد غد تكريما" لكم ولقادة الجند .
- سارة .. هل هي ؟
- نعم يا سيدي .. شقيقة داوود التي كانت ترسل التقارير لنا عن أحوال المدينة .
عمل القاضي معروف بهمة ونشاط منذ طلبت منه سارة المساهمة في حفلـة العشـاء
التي تعدها لبونابرت .
تعقب الزغاليل في المدينة والحارات حتى جمع منها مـائة زوج .. اسـتعان بنسـاء
الجيران في العمل .. وحين ظن أن الوقت لم يعد كافيا" خلع جبته وعمامته .. شمر أكمام ثوبه
.. جلس بنفسه يساهم مع النساء في تنظيف الزغاليل .. ناداه أبو الطايع ليستوضح منه جليــة
الخبر في موضوع العشاء هذا .. خرج له والريش على رأسه ولحيته .. ضحك أبو الطايع :
- أيها الخادم الشقي .. إذهب واستأذن لي بالدخول على سيدنا القاضي .
- ل وقت للمزاح يا أبا الطايع .. فالعشاء الليلة إذهب وجهز ما طلبته منك سارة .
- الحمد ل أنها لم تطلب مني الزغاليل المحشوة .. إذن لصار حالي من حالك يا مولنــا ..
الخرفان أمرها هين .. وجزار الخان تولها بعنايته .. عاد إلى الضحك .
- ولكن هل تظن أننا نفعل الصواب ؟
- طبعا" نفعل الصواب .. لقد أعطانا ساري عسكر المان .. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها .
- والجزار الهادي المهدي ؟!!
- الجزار انتهى أمره .. لن يصمد عسكره في عكا إل بمقدار ما صمدوا في غــزة .. لكــل
زمان دولة ورجال يا أبا الطايع .
قال ذلك وهو يدخل بيته ويغلق الباب خلفه .
تفننت ساره في ترتيب وليمة العشاء الفخمة .. تسابق المنافقون في تقديم مــا طلبتــه
ساره عن رضى وطيب خاطر .. المشويات والمقالي .. لحوم العجول الصـغيرة المطبوخـة
باللبن الرايب .. الحملن المشوية على الفحم .. أو المحشوة بالفريـك واللــوز .. الزغاليـل
والدجاج والديوك والبط والحبش .. الكباب والكفتـة .. خـبز القمـح الغــزاوي .. أطبـاق
الحلوى .. كنافة غزة المعمرة بالجوز .. أما الشراب فقد أصر نابليون أل يضــعوا المســكر
على مائدته احتراما" لشهر رمضان المعظم .. وإكراما" للمشايخ الذي يشيعون فـي العامـة أن
ساري عسكر يكتم إسلمه تحينا" للفرصة المناسبة حتى يظهره على المل .
الضباط والقادة الذين جلسوا بعيدا" عن طاولة ساري عسكر .. ســطوا علــى تركــة
درويش باشا من نبيذ الجليل المعتق في قبو الدار .
أبدت سارة اثناء الحفلة من ضروب الحفاوة بضيوفها .. ما جعل نــابليون يصــر أن
تجلس على يمينه .. بينما جلس على يساره سيدنا القاضي معروف معززا" مكرما" .. يحيط بهم
الفندية والوجهاء وكبار القادة ..
حين انتهت الحفلة صحبها نابليون لقضاء باقي السهرة معه في الدبوية .
أسفرت تلك الليلة عن كتابين ممهورين بخاتم ساري عسكر .. الول ينص على تعيين
شقيقها داوود مستحفظانا لغزة وتوابعها .. والثاني بيان من نابليون لتوزيعه على يهود فلسطين
.
أصرت ساره على أن تحمل البيان بنفسها إلى حاخام الطائفة في القدس .. قرأ الحاخام
البيان وهو يشرق بالدمع :
- (( إن العناية اللهية أرسلتني إلى هنا على رأuس جيشي هذا .. وقد جعلت العناية اللهيــة
نشر العدل وتحقيقه مطلبي .. وتكفلت بظفري المستمر .. وجعلت القدس مقري العام .. وبعد
قليل سوف تجعل مقري في دمشق .. وسوف أكون جارا لبلد داوود .. يــا ورثــة فلســطين
الشرعيين .
إن المة العظيمة التي تنجب الرجال تناديكم الن .. ل للعمل على إعــادة احتللكــم
لوطنكم فحسب .. ول لسترجاع ما فقد منكم .. بل لجل حمايته من جميع الطامعين بكــم ..
ولكي تصبحوا أسياد بلدكم الحقيقيين .
انهضوا وبرهنوا على أن القوة الساحقة التي كانت لولئك الذين اضطهدوكم .. لــم
تفعل شيئا" ولم تثبط همة ابناء البطال .. أجدادكم الذين كانت محالفتهم تشرف اسبرطة وروما
. ((
حين انتهى من القراءة .. مسح دموعه .. وقال لساره :
- ل أدري يا ابنتي ماذا كنا نصنع بدونك .. فليباركك الرب كما بارك استير .
¯¯¯
اتخذ شيخ الحارة مجلسه في المضافة .. كانت أيام العزاء في يونس قد انتهت .
دخل نظمي أفندي .. القى التحية .. ناوله شيخ الحارة فنجان القهوة وسأله :
- كيف الحوال ؟
- عادت المدينة إلى سابق عهدها .. الدكاكين فتحت أبوابها .. والسواق اكتظت بالنــاس ..
في البداية .. كان السابلة ينطلقون بحذر .. ول تخرجهم من بيوتهم إل الضـرورة .. وشـيئا"
فشيئا" انتظمت الدورة .. مطالب الحياة ل تنتظر .. وتكاليف المعيشة ل يمكن دفعها .. لكــن
والحق يقال .. الناس ليسوا كالسابق يا شيخ الحارة .. إنهم يسيرون منكسري النفس .. الحزن
يطل من عيونهم .. يترحمون على من مات .. ويشفقون على من بقي حيا تحت سلطان هــذا
الفرنسي الكافر .
- سمعت أنك عدت إلى عملك في الدبوية يا نظمي أفندي .
- طلب ساري عسكر من القاضي معروف وباقي الموظفين العودة إلى وظائفهم .. وقــال أن
مراده أن يبقى دين السلم معتزا" .
- ومثل ساري عسكر من يعز دين السلم وأيم الحق ؟
- لماذا تسخر مني ؟ أنا لست ملwكا" مثلك .. ول أجيد حرفة أخرى أعيش منها .. إذا تركــت
وظيفتي ألف واحد غيري يتمنى القيام بها .
- أنا ل ألومك يا نظمي أفندي .. على القل سنعرف منك أخبار أمير الفرنسيس .
- ساري عسكر .. عين داوود شقيق ساره مستحفظانا" لغزة مكان درويش باشــا .. طــرت
بالخبر إلى رشيد عليان .. قلت له أن نسيبك صار مستحفظان غزة .. ويا بخت من كان إلــو
ضلع في السلطنة .
- وماذا فعل رشيد أفندي ؟
- جمع ما يستطيع من أمواله وهرب إلى الشام .. أعطاني ذهبية حتى أكتم خبر هروبه عــن
المستحفظان .
- وهل كتمت ذلك ؟
- كيف أبيع إبن ديني للكفار ؟
- شهم يا نظمي أفندي .
وضع الكلغاصي الفنجان واستأذن في النصراف .
حمل شيخ الحارة بكرج القهوة وفناجنين ودخل إلى الدار .. لم يكن من عادته أن يفعل ذلك ..
لكنه منذ فجعت فاطمة في زوجها ل يدع فرصة تفوته دون أن يظهر حدبه عليهــا .. صــب
لزوجته فنجان قهوة .. وصب لفاطمة فنجانا" .. وحين أبت أقسم عليها :
- ورحمة يونس تشربيه .
تناولته ساهمة :
سألته زوجته :
- هل هناك أخبار عن مبارك ؟
- مبارك بخير .. كم مرة يتوجب علي أن أخبرك ؟
- هل مازال ؟
- نعم إنه مازال يجمع الرجال وينظم صفوفهم للجهاد .
- ال يرضى عليه بقدر إبزازي ما درت عليه .
انخرطت في البكاء .
- لماذا تبكين .. حق لك أن ترفعي رأسك عاليا" وأن تفخري به .
سلمناه لتاج الدين .. فنفخ فيه من روحه .. ووله قيادة المجاهدين رغم أنه أصــغرهم
سنا" .. وها هو يطاول برأسه رأس ساري عسكر .
- أعلم يا رمضان ولكن قلب الوالدين مشوم .
قالت ذلك وهي تمسح دموعها .
نظرا إلى فاطمة .. كانت ماتزال ساهمة وكأنها ل ترى ول تسمع .
دخل سالم المضافة .. وجد عمه ساهما" أمام بكرج القهوة .. ألقى التحية .
رد شيخ الحارة بفتور .. صب له فنجانا" من القهوة .. قال سالم :
- يا عمي ألم تقرأ المنشور الذي وزعه الفرنسيس على الهالي ؟
أخرج واحدا" من جيبه وبدأ يقرأ بتمعن :
- ( من طرف بونابرته أمير الجيوش الفرنسية .. إلى كافة المفتين والعلمـاء وكافـة أهـالي
نواحي غزة والرملة ويافا .. حفظهم ال .
نعرفكم أننا حررنا هذه السطور .. لنعلمكم أننا حضرنا هذا الطرف .. بقصد طرد المماليــك
وعسكر الجزار عنكم .. وإلى أي سبب حضور عسكر الجزار .. وتعديه على بلد يافا وغزة
التي ما كانت في حكمه .. وإلى أي سبب أرسل عسكره إلى قلعة العريش .. وبذلك هجم على
أرض مصر .. فل شك أن مراده إجراء الحرب معنا .. ونحن لهــذا حضــرنا نحــاربه ..
وقصدنا أن القضاة ل يتركون وظائفهم وإن دين السلم ل يزال معتزا" ومعتبرا" .. والجوامع
عامرة بالصلة .. والذي يتظاهر لنا بالحب يفلح والذي يتظاهر لنا بالغدر يهلك ) .
قال شيخ الحارة لبن أخيه :
- وهكذا فأنت تريد أن تتظاهر لهم بالحب حتى تفلح .
- قال المثل : إللي بياخد أمي بقوللو يا عمي .. واحفظ رأسك عند تغيير الدول .. أم أنك تريد
أن تتظاهر لهم بالعداء حتى تطير الشيخة من أيدينا .
- وماذا عن قول ال ( يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) .
- نحن ل نتخذهم أولياء .. لكننا نصانعهم طالما هم حكام هذه البلد .. ومن كانت لــه عنــد
الكلب السود حاجة يناديه يا حاج بيوض .
- لن أصانع .. ولن أقول للكلب السود النجس يا حاج بيوض ولو طارت الشيخة .
- إذا كنت زاهدا" في الشيخة فاسمح لي يا عمي أن آخذها .. أنا أولى من الغريب .
- كنت أعرف أنك ستفعل ذلك ياسالم .. مبروكة عليك الشيخه سبع بركات
- غدا" إذهب إلى المستحفظان الخواجه داوود .. واطلب منـه أن يثبتني مكانك .. سأقول أنك
تعبت وتريد أن تستريح .
- افعل ما بدا لك .
قام سالم .. لحظ عمه أنه يلبس العباءة التي أهداها له يونس يـوم ولـدت نعمـة ..
عاوده شريط من الذكريات .. طفولة سالم وكيف أحبه ورعاه حتى بلغ مبلغ الرجال .. وكيف
كان سالم يرد إحسانه بالساءة .. ثم همس لنفسه :
- ربي هزيل المال ينفعك .. وربي هزيل الرجال يقلعك .
انطلق سالم إلى حمام شمعون ليعقد الصفقة هناك .. لم ينس أن يتفقد ما بجيبــه مــن
النقود وهو يحدث نفسه : (( ثلث ذهبيات ثمن بخس للشيخة .. بعد الشـيخه أذهـب لعمـي
فأطلب يد فاطمة ليس حبا" في سواد عيونها هذه المرة فقد هدها موت يونس .. صارت حطاما"
ليس فيه مطمع .. لكن من أجل وادي الزيت .. هكذا يا شيخ سالم ( مط كلمة شيخ ) تصطاد
عصفورين بحجر واحد .. الشيخة ووادي الزيت .
??
أربعة آلف أسير ساقهم نابليون من غزة إلى يافا .. في أول الطريق كانوا يغذون السير حتى يحاذوا خيول حراسهم .. لكن
الطريق طالت .. بدأوا يتطوحون من التعب .. هدهم البرد والجوع .. صاروا يتساقطون على جانبي الطريق .. ثم بدأت تسمع طلقات
. رصاص .. متفرقة أول المر ثم متشابكة
: قال المقدم صقر لجوهر
. الذي يتخلف عن الطابور يطلقون عليه النار -
بعد يونس ما عدت أبالي بشئ .. صار باطن الرض خيرا] من ظاهرها -
: صهل جواد قريب فاقشعر بدن جوهر
. جوادي .. إنه الغوج .. انظر يا مقدم .. يمتطيه أحد فرسانهم -
. نظر المقدم فرأى الجواد يلوي عنقه باتجاه جوهر ..الدموع في عينيه والفرنسي يكيل له الضرب
: فاضت قريحة المقدم فأرسل عقيرته بالشعر
غـزة اشــهدي يـوم الحــرب ما ولينـا
و ارصاص فـي صـــدور العـدا مللينـا
ال شـيخ منطـار فيك الطـوب عثمانــي
ال شـيخ شـعبان فيـك الـدم غـــدران
ال باب الدارون فيك السيف صال وحكــم
جيـش الفرنسيس يا غــزة سباكي وحكم
بكيت خيـول لنـا فـي السـر وبكينــا
سالت دموع جوهر .. بكى أخاه طوال الطريق .. والمقدم صقر يهون عليه .. حتى أشرفا على يافا .. سقط المقدم صقر فحمله
جوهر على أكتافه حتى نهاية الطريق .. وضعهم الفرنسيون في منبسط من الرض بين تلين .. نصبوا المدافع حولهم .. كانوا يوزعون
عليهم قسماطة واحدة بحجم الكف كل يوم .. فعل الجوع والبرد فعله .. صار عددهم يتناقص .. خلف التلة أعدت حفر عميقة لمن عجزوا
. عن الحتمال
صمدت يافا في وجه بونابرت .. حشد فيها الجزار اثنى عشر ألفا] من خيرة جنوده وممن فر من العريش وغزة .. قاتل أهل
المدينة والعسكر جنبا] إلى جنب .. مدافع بونابرت دكت المدينة طوال النهار .. إل أن المقاتلين كانوا يخرجون لعسكره من تحت النقاض
. .. يشتبكون معهم بالسيوف والخناجر
في نهاية اليوم التالي كان ثلثة آلف من المدافعين عن المدينة قد استشهدوا.. الباقون لذو بالفرار .. قبل أن يدخل نابليون
المدينة أحصى خسائره .. فبلغت تسعمائة قتيل .. جن جنونه .. أباح المدينة لعسكره .. خاضوا في الدماء إلى الركب .. قتلوا واغتصبوا
. ونهبوا كل ما وقع تحت أيديهم .. انطلق الوحش الكامن في قلب النسان من عقاله
: راقب شامبليون مذهول] ما يدور حوله .. قال لبورين
هكذا ننشر مبادئ الثورة الفرنسية إذن ؟ -
: رد عليه بورين بسخرية
. مبادئ الثورة الفرنسية صالحة للتطبيق على أرض فرنسا فقط .. أما في بلد الهمج هذه .. فسوف نطبق مبادئ أخرى أكثر ملءمة -
. وضع يده على مقبض سيفه .. امتقع وجه شامبيلون
ولكن ؟ -
قبل أن يعلن احتجاجه .. اقتحم المكان كافارللي كبير مهندسي الحملة .. وهو يحجل بساقه الخشبية .. وبيده مجموعة من
. التصاميم
. لقد انتهيت منها توا] .. تصاميم مدفعي الجديد .. سيصنعونه في القاهرة ويرسلونه إلينا -
: وجه كلمه لبورين
كم يبلغ عرض أسوار عكا يا جنرال ؟ -
. ستة أمتار -
. صدقني يا عزيزي شامبليون ( قال ذلك وهو يحتضنه ) إن مدفعي سيجهز عليها -
. تخلص منه شامبليون بلباقة
. كلنا نعرف عبقريتك يا كافارللي ونصدقك -
عرضت التصاميم على القائد العام .. قال لي : يا كافارللي إذا فتحت عكا .. استلم مفتاح الشرق .. ادخل القسطنطينية عاصمة -
. قياصـرة الرومـان .. وبذلك نملك شرقي وشمالي أوروبا ونصبح أسياد العالم
قبل أن يغادر ساري عسكر أمر بقتل جميع السرى .
أربعة آلف اسير من العريش وغزة ويافا .. كانوا يستلقون تحت المطر بأسمالهم الباليــة ..
وبطونهم الخاوية .. وقد عضهم الجوع والبرد .
هدرت المدافع على التلل المحيطة .. التمع شواظها في غبشـة الفجـر .. بعضـهم
صرخ .. وبعضهم مات قبل أن يصرخ .. البعض تراكض مذعورا" .. ثم وقع غير بعيد كطير
سرقته السكين .. خفت الصراخ شيئا" فشيئا" .. لم يبق غير النيــن .. أنيــن مكتــوم كبكــاء
الثواكل .. حين أسفر النهار تفقدهم كبير الحراس .. كتب في دفتره :
- ماتوا جميعا" .. ثم تمتم : لقد كانوا أنصاف موتى على اية حال .
أدار ظهره ومضى .
عند الظهيرة أفاق جوهر .. كان قد نزف دماء كثيرة .. أزاح عن صدره وكاهله جثث
القتلى .. وقف يقلب النظر فيمن حوله .. نادى على رفيقه المقدم :
- أين أنت يا مقدم .. يا سبع الرجال .
كان المقدم ملقى غير بعيد جثة هامدة .
أغلق عينيه الشاخصتين ووسده التراب .. جثا إلى جواره .. هــم بقــراءة الفاتحــة فغــص
صوته .. كان قد نزف دماء كثيرة .. أدركه الدوار .. نهض متحامل" على نفسه يجر خطــاه
باتجاه يافا .
يافا صارت مدينة للموتى .. قتل الفرنسيون كل من صــادفوه .. النســاء والطفــال
والشيوخ .. حتى البهائم .. الموتى يفترشون الطرقات والزقة .. يتدلون مــن الشــرفات ..
يتكومون على مداخل البيوت .. بعضهم مازال فيه رمق والحشرجة تتردد في صدره .
شخص جوهر ببصره إلى السماء وهو يهز قبضته :
- أين عدالتك ؟ ما الذي جنيناه ؟ لماذا كل هذا القتل والخراب ؟ ما الذي صنعه يونس ؟ مــا
الذي صنعه هؤلء ؟ ألم يكن ظلم التراك كافيا" حتى أرسلت إلينا الفرنسيس .. أين أنت .. أين
أنت ؟
تهاوى على جانب الطريق .. وجراحه تنزف .
???
غزة .. هنأه على انتصاره .
- ماذا عندك يا كليبر ؟
أشار كليبر إلى صف من الرجال خلفه :
- هذا وفد من العلماء والوجهاء .. على رأسهم قاضي المدينة .. جاءوا يناشدوك أن تحقــن
دماء الهالي وترفع السيف عنهم ..
نظر نابليون إلى حيث أشـار .. التقت عيناه بعيني القاضـي معـروف .. ارتجـف
معروف وهو يحس بعيني ساري عسكر تخزه كالمخرز .. حضن كرشه بيديه وبلع ريقه وهو
يقول في نفسه :
- يا لقرد طول شبر .. ثم راجع نفسه وهو يرى ابتسامة ساري عسكر .. نعم هو بالغ القصر
لكنه حسين الوجه .. وهذه الغرة على جبينه تزيده جمال" وتألقا" .. ثم أنه في ريعان شــبابه ..
حسبته أسن من ذلك .
نقل معروف بصره في القادة والجند .. لحظ أن وجوههم حليقـة وناعمـة كوجـوه
النساء .. تعجب كيف استطاع هؤلء المخانيث النتصار على جنود السلطان الذين يتبــاهون
بشواربهم ولحاهم .
التفت بونابرت إلى رجل معمم كان يقف خلف كليبر :
- تأكد يا شيخ دسوقي أنهم قد حفظوا درسهم جيدا" قبل أن تدخلهم علي ..
انحنى الشيخ الدسوقي :
- أمرك يا سيدي .
تابع بونابرت حديثه مع كليبر وهو يتقدمه صاعدا" درجات الدبوية إلى مكتب درويـش
باشا الذي أصبح منذ الساعة مقرا" لساري عسكر .
- هل وجدتم في بيت درويش باشا ما كنا نجده في بيوت المماليك من كنوز وجواري وخلف
ذلك ؟
- كل يا سيدي .. لم نجد سوى سارة .. تركناها في القصر تشرف على إعداد وليمة العشـاء
التي ستقيمها المدينة بعد غد تكريما" لكم ولقادة الجند .
- سارة .. هل هي ؟
- نعم يا سيدي .. شقيقة داوود التي كانت ترسل التقارير لنا عن أحوال المدينة .
عمل القاضي معروف بهمة ونشاط منذ طلبت منه سارة المساهمة في حفلـة العشـاء
التي تعدها لبونابرت .
تعقب الزغاليل في المدينة والحارات حتى جمع منها مـائة زوج .. اسـتعان بنسـاء
الجيران في العمل .. وحين ظن أن الوقت لم يعد كافيا" خلع جبته وعمامته .. شمر أكمام ثوبه
.. جلس بنفسه يساهم مع النساء في تنظيف الزغاليل .. ناداه أبو الطايع ليستوضح منه جليــة
الخبر في موضوع العشاء هذا .. خرج له والريش على رأسه ولحيته .. ضحك أبو الطايع :
- أيها الخادم الشقي .. إذهب واستأذن لي بالدخول على سيدنا القاضي .
- ل وقت للمزاح يا أبا الطايع .. فالعشاء الليلة إذهب وجهز ما طلبته منك سارة .
- الحمد ل أنها لم تطلب مني الزغاليل المحشوة .. إذن لصار حالي من حالك يا مولنــا ..
الخرفان أمرها هين .. وجزار الخان تولها بعنايته .. عاد إلى الضحك .
- ولكن هل تظن أننا نفعل الصواب ؟
- طبعا" نفعل الصواب .. لقد أعطانا ساري عسكر المان .. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها .
- والجزار الهادي المهدي ؟!!
- الجزار انتهى أمره .. لن يصمد عسكره في عكا إل بمقدار ما صمدوا في غــزة .. لكــل
زمان دولة ورجال يا أبا الطايع .
قال ذلك وهو يدخل بيته ويغلق الباب خلفه .
تفننت ساره في ترتيب وليمة العشاء الفخمة .. تسابق المنافقون في تقديم مــا طلبتــه
ساره عن رضى وطيب خاطر .. المشويات والمقالي .. لحوم العجول الصـغيرة المطبوخـة
باللبن الرايب .. الحملن المشوية على الفحم .. أو المحشوة بالفريـك واللــوز .. الزغاليـل
والدجاج والديوك والبط والحبش .. الكباب والكفتـة .. خـبز القمـح الغــزاوي .. أطبـاق
الحلوى .. كنافة غزة المعمرة بالجوز .. أما الشراب فقد أصر نابليون أل يضــعوا المســكر
على مائدته احتراما" لشهر رمضان المعظم .. وإكراما" للمشايخ الذي يشيعون فـي العامـة أن
ساري عسكر يكتم إسلمه تحينا" للفرصة المناسبة حتى يظهره على المل .
الضباط والقادة الذين جلسوا بعيدا" عن طاولة ساري عسكر .. ســطوا علــى تركــة
درويش باشا من نبيذ الجليل المعتق في قبو الدار .
أبدت سارة اثناء الحفلة من ضروب الحفاوة بضيوفها .. ما جعل نــابليون يصــر أن
تجلس على يمينه .. بينما جلس على يساره سيدنا القاضي معروف معززا" مكرما" .. يحيط بهم
الفندية والوجهاء وكبار القادة ..
حين انتهت الحفلة صحبها نابليون لقضاء باقي السهرة معه في الدبوية .
أسفرت تلك الليلة عن كتابين ممهورين بخاتم ساري عسكر .. الول ينص على تعيين
شقيقها داوود مستحفظانا لغزة وتوابعها .. والثاني بيان من نابليون لتوزيعه على يهود فلسطين
.
أصرت ساره على أن تحمل البيان بنفسها إلى حاخام الطائفة في القدس .. قرأ الحاخام
البيان وهو يشرق بالدمع :
- (( إن العناية اللهية أرسلتني إلى هنا على رأuس جيشي هذا .. وقد جعلت العناية اللهيــة
نشر العدل وتحقيقه مطلبي .. وتكفلت بظفري المستمر .. وجعلت القدس مقري العام .. وبعد
قليل سوف تجعل مقري في دمشق .. وسوف أكون جارا لبلد داوود .. يــا ورثــة فلســطين
الشرعيين .
إن المة العظيمة التي تنجب الرجال تناديكم الن .. ل للعمل على إعــادة احتللكــم
لوطنكم فحسب .. ول لسترجاع ما فقد منكم .. بل لجل حمايته من جميع الطامعين بكــم ..
ولكي تصبحوا أسياد بلدكم الحقيقيين .
انهضوا وبرهنوا على أن القوة الساحقة التي كانت لولئك الذين اضطهدوكم .. لــم
تفعل شيئا" ولم تثبط همة ابناء البطال .. أجدادكم الذين كانت محالفتهم تشرف اسبرطة وروما
. ((
حين انتهى من القراءة .. مسح دموعه .. وقال لساره :
- ل أدري يا ابنتي ماذا كنا نصنع بدونك .. فليباركك الرب كما بارك استير .
¯¯¯
اتخذ شيخ الحارة مجلسه في المضافة .. كانت أيام العزاء في يونس قد انتهت .
دخل نظمي أفندي .. القى التحية .. ناوله شيخ الحارة فنجان القهوة وسأله :
- كيف الحوال ؟
- عادت المدينة إلى سابق عهدها .. الدكاكين فتحت أبوابها .. والسواق اكتظت بالنــاس ..
في البداية .. كان السابلة ينطلقون بحذر .. ول تخرجهم من بيوتهم إل الضـرورة .. وشـيئا"
فشيئا" انتظمت الدورة .. مطالب الحياة ل تنتظر .. وتكاليف المعيشة ل يمكن دفعها .. لكــن
والحق يقال .. الناس ليسوا كالسابق يا شيخ الحارة .. إنهم يسيرون منكسري النفس .. الحزن
يطل من عيونهم .. يترحمون على من مات .. ويشفقون على من بقي حيا تحت سلطان هــذا
الفرنسي الكافر .
- سمعت أنك عدت إلى عملك في الدبوية يا نظمي أفندي .
- طلب ساري عسكر من القاضي معروف وباقي الموظفين العودة إلى وظائفهم .. وقــال أن
مراده أن يبقى دين السلم معتزا" .
- ومثل ساري عسكر من يعز دين السلم وأيم الحق ؟
- لماذا تسخر مني ؟ أنا لست ملwكا" مثلك .. ول أجيد حرفة أخرى أعيش منها .. إذا تركــت
وظيفتي ألف واحد غيري يتمنى القيام بها .
- أنا ل ألومك يا نظمي أفندي .. على القل سنعرف منك أخبار أمير الفرنسيس .
- ساري عسكر .. عين داوود شقيق ساره مستحفظانا" لغزة مكان درويش باشــا .. طــرت
بالخبر إلى رشيد عليان .. قلت له أن نسيبك صار مستحفظان غزة .. ويا بخت من كان إلــو
ضلع في السلطنة .
- وماذا فعل رشيد أفندي ؟
- جمع ما يستطيع من أمواله وهرب إلى الشام .. أعطاني ذهبية حتى أكتم خبر هروبه عــن
المستحفظان .
- وهل كتمت ذلك ؟
- كيف أبيع إبن ديني للكفار ؟
- شهم يا نظمي أفندي .
وضع الكلغاصي الفنجان واستأذن في النصراف .
حمل شيخ الحارة بكرج القهوة وفناجنين ودخل إلى الدار .. لم يكن من عادته أن يفعل ذلك ..
لكنه منذ فجعت فاطمة في زوجها ل يدع فرصة تفوته دون أن يظهر حدبه عليهــا .. صــب
لزوجته فنجان قهوة .. وصب لفاطمة فنجانا" .. وحين أبت أقسم عليها :
- ورحمة يونس تشربيه .
تناولته ساهمة :
سألته زوجته :
- هل هناك أخبار عن مبارك ؟
- مبارك بخير .. كم مرة يتوجب علي أن أخبرك ؟
- هل مازال ؟
- نعم إنه مازال يجمع الرجال وينظم صفوفهم للجهاد .
- ال يرضى عليه بقدر إبزازي ما درت عليه .
انخرطت في البكاء .
- لماذا تبكين .. حق لك أن ترفعي رأسك عاليا" وأن تفخري به .
سلمناه لتاج الدين .. فنفخ فيه من روحه .. ووله قيادة المجاهدين رغم أنه أصــغرهم
سنا" .. وها هو يطاول برأسه رأس ساري عسكر .
- أعلم يا رمضان ولكن قلب الوالدين مشوم .
قالت ذلك وهي تمسح دموعها .
نظرا إلى فاطمة .. كانت ماتزال ساهمة وكأنها ل ترى ول تسمع .
دخل سالم المضافة .. وجد عمه ساهما" أمام بكرج القهوة .. ألقى التحية .
رد شيخ الحارة بفتور .. صب له فنجانا" من القهوة .. قال سالم :
- يا عمي ألم تقرأ المنشور الذي وزعه الفرنسيس على الهالي ؟
أخرج واحدا" من جيبه وبدأ يقرأ بتمعن :
- ( من طرف بونابرته أمير الجيوش الفرنسية .. إلى كافة المفتين والعلمـاء وكافـة أهـالي
نواحي غزة والرملة ويافا .. حفظهم ال .
نعرفكم أننا حررنا هذه السطور .. لنعلمكم أننا حضرنا هذا الطرف .. بقصد طرد المماليــك
وعسكر الجزار عنكم .. وإلى أي سبب حضور عسكر الجزار .. وتعديه على بلد يافا وغزة
التي ما كانت في حكمه .. وإلى أي سبب أرسل عسكره إلى قلعة العريش .. وبذلك هجم على
أرض مصر .. فل شك أن مراده إجراء الحرب معنا .. ونحن لهــذا حضــرنا نحــاربه ..
وقصدنا أن القضاة ل يتركون وظائفهم وإن دين السلم ل يزال معتزا" ومعتبرا" .. والجوامع
عامرة بالصلة .. والذي يتظاهر لنا بالحب يفلح والذي يتظاهر لنا بالغدر يهلك ) .
قال شيخ الحارة لبن أخيه :
- وهكذا فأنت تريد أن تتظاهر لهم بالحب حتى تفلح .
- قال المثل : إللي بياخد أمي بقوللو يا عمي .. واحفظ رأسك عند تغيير الدول .. أم أنك تريد
أن تتظاهر لهم بالعداء حتى تطير الشيخة من أيدينا .
- وماذا عن قول ال ( يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) .
- نحن ل نتخذهم أولياء .. لكننا نصانعهم طالما هم حكام هذه البلد .. ومن كانت لــه عنــد
الكلب السود حاجة يناديه يا حاج بيوض .
- لن أصانع .. ولن أقول للكلب السود النجس يا حاج بيوض ولو طارت الشيخة .
- إذا كنت زاهدا" في الشيخة فاسمح لي يا عمي أن آخذها .. أنا أولى من الغريب .
- كنت أعرف أنك ستفعل ذلك ياسالم .. مبروكة عليك الشيخه سبع بركات
- غدا" إذهب إلى المستحفظان الخواجه داوود .. واطلب منـه أن يثبتني مكانك .. سأقول أنك
تعبت وتريد أن تستريح .
- افعل ما بدا لك .
قام سالم .. لحظ عمه أنه يلبس العباءة التي أهداها له يونس يـوم ولـدت نعمـة ..
عاوده شريط من الذكريات .. طفولة سالم وكيف أحبه ورعاه حتى بلغ مبلغ الرجال .. وكيف
كان سالم يرد إحسانه بالساءة .. ثم همس لنفسه :
- ربي هزيل المال ينفعك .. وربي هزيل الرجال يقلعك .
انطلق سالم إلى حمام شمعون ليعقد الصفقة هناك .. لم ينس أن يتفقد ما بجيبــه مــن
النقود وهو يحدث نفسه : (( ثلث ذهبيات ثمن بخس للشيخة .. بعد الشـيخه أذهـب لعمـي
فأطلب يد فاطمة ليس حبا" في سواد عيونها هذه المرة فقد هدها موت يونس .. صارت حطاما"
ليس فيه مطمع .. لكن من أجل وادي الزيت .. هكذا يا شيخ سالم ( مط كلمة شيخ ) تصطاد
عصفورين بحجر واحد .. الشيخة ووادي الزيت .
??
أربعة آلف أسير ساقهم نابليون من غزة إلى يافا .. في أول الطريق كانوا يغذون السير حتى يحاذوا خيول حراسهم .. لكن
الطريق طالت .. بدأوا يتطوحون من التعب .. هدهم البرد والجوع .. صاروا يتساقطون على جانبي الطريق .. ثم بدأت تسمع طلقات
. رصاص .. متفرقة أول المر ثم متشابكة
: قال المقدم صقر لجوهر
. الذي يتخلف عن الطابور يطلقون عليه النار -
بعد يونس ما عدت أبالي بشئ .. صار باطن الرض خيرا] من ظاهرها -
: صهل جواد قريب فاقشعر بدن جوهر
. جوادي .. إنه الغوج .. انظر يا مقدم .. يمتطيه أحد فرسانهم -
. نظر المقدم فرأى الجواد يلوي عنقه باتجاه جوهر ..الدموع في عينيه والفرنسي يكيل له الضرب
: فاضت قريحة المقدم فأرسل عقيرته بالشعر
غـزة اشــهدي يـوم الحــرب ما ولينـا
و ارصاص فـي صـــدور العـدا مللينـا
ال شـيخ منطـار فيك الطـوب عثمانــي
ال شـيخ شـعبان فيـك الـدم غـــدران
ال باب الدارون فيك السيف صال وحكــم
جيـش الفرنسيس يا غــزة سباكي وحكم
بكيت خيـول لنـا فـي السـر وبكينــا
سالت دموع جوهر .. بكى أخاه طوال الطريق .. والمقدم صقر يهون عليه .. حتى أشرفا على يافا .. سقط المقدم صقر فحمله
جوهر على أكتافه حتى نهاية الطريق .. وضعهم الفرنسيون في منبسط من الرض بين تلين .. نصبوا المدافع حولهم .. كانوا يوزعون
عليهم قسماطة واحدة بحجم الكف كل يوم .. فعل الجوع والبرد فعله .. صار عددهم يتناقص .. خلف التلة أعدت حفر عميقة لمن عجزوا
. عن الحتمال
صمدت يافا في وجه بونابرت .. حشد فيها الجزار اثنى عشر ألفا] من خيرة جنوده وممن فر من العريش وغزة .. قاتل أهل
المدينة والعسكر جنبا] إلى جنب .. مدافع بونابرت دكت المدينة طوال النهار .. إل أن المقاتلين كانوا يخرجون لعسكره من تحت النقاض
. .. يشتبكون معهم بالسيوف والخناجر
في نهاية اليوم التالي كان ثلثة آلف من المدافعين عن المدينة قد استشهدوا.. الباقون لذو بالفرار .. قبل أن يدخل نابليون
المدينة أحصى خسائره .. فبلغت تسعمائة قتيل .. جن جنونه .. أباح المدينة لعسكره .. خاضوا في الدماء إلى الركب .. قتلوا واغتصبوا
. ونهبوا كل ما وقع تحت أيديهم .. انطلق الوحش الكامن في قلب النسان من عقاله
: راقب شامبليون مذهول] ما يدور حوله .. قال لبورين
هكذا ننشر مبادئ الثورة الفرنسية إذن ؟ -
: رد عليه بورين بسخرية
. مبادئ الثورة الفرنسية صالحة للتطبيق على أرض فرنسا فقط .. أما في بلد الهمج هذه .. فسوف نطبق مبادئ أخرى أكثر ملءمة -
. وضع يده على مقبض سيفه .. امتقع وجه شامبيلون
ولكن ؟ -
قبل أن يعلن احتجاجه .. اقتحم المكان كافارللي كبير مهندسي الحملة .. وهو يحجل بساقه الخشبية .. وبيده مجموعة من
. التصاميم
. لقد انتهيت منها توا] .. تصاميم مدفعي الجديد .. سيصنعونه في القاهرة ويرسلونه إلينا -
: وجه كلمه لبورين
كم يبلغ عرض أسوار عكا يا جنرال ؟ -
. ستة أمتار -
. صدقني يا عزيزي شامبليون ( قال ذلك وهو يحتضنه ) إن مدفعي سيجهز عليها -
. تخلص منه شامبليون بلباقة
. كلنا نعرف عبقريتك يا كافارللي ونصدقك -
عرضت التصاميم على القائد العام .. قال لي : يا كافارللي إذا فتحت عكا .. استلم مفتاح الشرق .. ادخل القسطنطينية عاصمة -
. قياصـرة الرومـان .. وبذلك نملك شرقي وشمالي أوروبا ونصبح أسياد العالم
قبل أن يغادر ساري عسكر أمر بقتل جميع السرى .
أربعة آلف اسير من العريش وغزة ويافا .. كانوا يستلقون تحت المطر بأسمالهم الباليــة ..
وبطونهم الخاوية .. وقد عضهم الجوع والبرد .
هدرت المدافع على التلل المحيطة .. التمع شواظها في غبشـة الفجـر .. بعضـهم
صرخ .. وبعضهم مات قبل أن يصرخ .. البعض تراكض مذعورا" .. ثم وقع غير بعيد كطير
سرقته السكين .. خفت الصراخ شيئا" فشيئا" .. لم يبق غير النيــن .. أنيــن مكتــوم كبكــاء
الثواكل .. حين أسفر النهار تفقدهم كبير الحراس .. كتب في دفتره :
- ماتوا جميعا" .. ثم تمتم : لقد كانوا أنصاف موتى على اية حال .
أدار ظهره ومضى .
عند الظهيرة أفاق جوهر .. كان قد نزف دماء كثيرة .. أزاح عن صدره وكاهله جثث
القتلى .. وقف يقلب النظر فيمن حوله .. نادى على رفيقه المقدم :
- أين أنت يا مقدم .. يا سبع الرجال .
كان المقدم ملقى غير بعيد جثة هامدة .
أغلق عينيه الشاخصتين ووسده التراب .. جثا إلى جواره .. هــم بقــراءة الفاتحــة فغــص
صوته .. كان قد نزف دماء كثيرة .. أدركه الدوار .. نهض متحامل" على نفسه يجر خطــاه
باتجاه يافا .
يافا صارت مدينة للموتى .. قتل الفرنسيون كل من صــادفوه .. النســاء والطفــال
والشيوخ .. حتى البهائم .. الموتى يفترشون الطرقات والزقة .. يتدلون مــن الشــرفات ..
يتكومون على مداخل البيوت .. بعضهم مازال فيه رمق والحشرجة تتردد في صدره .
شخص جوهر ببصره إلى السماء وهو يهز قبضته :
- أين عدالتك ؟ ما الذي جنيناه ؟ لماذا كل هذا القتل والخراب ؟ ما الذي صنعه يونس ؟ مــا
الذي صنعه هؤلء ؟ ألم يكن ظلم التراك كافيا" حتى أرسلت إلينا الفرنسيس .. أين أنت .. أين
أنت ؟
تهاوى على جانب الطريق .. وجراحه تنزف .
???
رواية العنقاء كاملة :الجزء 28: