أخر الاخبار

رواية العنقاء كاملة : الجزء 20: رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي.

رواية العنقاء كاملة : الجزء 20:  رواية تاريخية تحدثت عن إنتصار المقاومة في غزة ما بين فترة الحكم العثماني و الاحتلال الفرنسي. للكاتب عبد الكريم السبعاوي في 1942  المولود في حارة التفاح بمدينة غزة لأسرة فقيرة لكنها حفية بالعلم والثقافة
----------------

هبت نسمات نيسان حارة لفحة .. فاحمرت خدود الصبايا .. وانتفخت الثمار ولوحت
العناقيد .. إنه الحصاد يقترب .. وأهل الحارة يستعدون لموسم الخير الوشيك .. باع شــهوان
مشخلع زوجته الذهبي واشـترى بثمنه حمارين .. فبقرته ل تنفع في نقل المحصول .. قــال
لزوجته :
- لو كان باب دارنا عاليا" لشتريت جمل" .. ولكن ل بأس بالحمارين هما هــزيلن قليل" الن
لكن هزالهما لن طول كثيرا" .. غدا" تبدأ الحصيدة ويغبان من الشــعير والفــول والعــدس ..
فيصبح الواحد منهما في حجم القنطرة .. ونبيعهما للسقايين بضعف الثمن .. عندها أرد لــك
المشخلع ومعه إسوارة ذهبية .
أما السويس فقد هدم بوابة داره .. وبنى بوابة كبيره تتسع لدخول الجمل وما حمل ..
مر عليه شيخ الحارة فقال مازحا" :
- إللي بعمل جمال بوسع باب دارو.
باقي أهل الحارة انشغلوا بإصلح قواليشهم وتقطيب شباكهم التي تسمى كل شبكة منها
( الكر ) والتي تستخدم في نقل السنابل .
حسان السلمين ( الفار ) قال لزوجته : عليك بإصلح ( الكر ) وتقطيب ما تمزق منه
.. أما أنا فسأذهب إلى سوق الحدادين .. أشتري قالوشا" جديدا" حاد الشفرة يلقمط الحصى .
في طريقه مر على دار البطش .. كان فناء الدار قد تحول إلــى مــا يشــبه ســوق
الجمعة .. فهم يستعدون للحصيدة بتركيب الحداوي لخيلهم .. وإصــلح رحــال جمــالهم ..
وتنظيف البوايك والحراديس لستقبال الغلة الجديدة
ألقى عليهم السلم .. فرد عليه الحاج محمد كبير البطوش :
- وعليكم السلم .. قال المثل جابوا الخيل يحدوها مد الفار رجلو .. مد رجلـك يـا حسـان
نركب لك حدوة .
رد الفار في سخرية :
- يا ريت تلقوا حداوي على عددكم .. قبل ما تركبوا حداوي للناس .. قال المثل ( ما بتطلع
صدقة من دار مستحق ) .
هرع حسان إلى سوق المدينة .. عند ساحة الشوا .. قابله مراد البتير صاحب معصرة
الزيتون عائدا" من السوق .. كان مهموما" كسير النفس .. وضع يده على كتف الفار وقال له :
- هل يرضيك يا حسان ما يقال في حارتنا من القصائد في الحارات الخرى ؟
- وماذا يقولون يا أبو أنس ؟
- يتحدثون عن العرض .. ينشرون عرض الحارة .. يوطون راسي وراســك وروس أهــل
الحارة .. كنت اليوم في الشجاعية .. اعترضني بعض شبابها وهم يتغامزون علي .. قالوا :
- من أي حارة أنت ؟
- قلت أل تطرحون السلم أول ؟ .. أنا من حارة التفاح .
- من حارة التفاح .
ثم أخذوا يتضاحكون .. وحين هممت بهم قال لي واحد منهم بل قل من حارة التفين .. هذا هو
السم الجديد لحارتكم ثم أنشد :
لقعد على القوز وأكتب في ورق و أقـرا
وإن كان فيكم رجل قوموا اقتلوا خضــره
وإن ما غسـلتوا العـار ما أنا بليمكــم
خللوا النسـا يا قـوم تلبـس عمايمكــم
لصفكـم صفين .. وأبصـق على الصفين
يا حـارة التفـاح .. يا حـارة التفــين
- هل يرضيك ذلك يا حسان ؟
- ما الذي يرضيني ؟
- القصيدة ؟
أزاحه حسان من طريقه :
- حل عني يا مراد .. الناس في حصايد وإنت في قصايد .. مالك ولخضرة .. إل بكفي مـا
جرى لها .. ( ضرب كفا" بكف ) ل حول ول قوة إل بال .
ظلت الحارة قائمة قاعدة .. حتى أعلن شيخ الحارة أن ( الطلقــة ) ســتبدأ غــدا" فــي وادي
المقدمة .. وعند الفجر كان الجميع هناك .. حملوا الندى على أذيالهم .
صف شيخ الحارة الرجال في صف واحد .. بين كل حصاد وآخر مسافة ذراعيـن ..
هي مجال حصاده .. وتسمى هذه المسافة ( اللجنة ) ثم نادى بعالي الصوت :
- استعنا على الشقا بال .. بسم ال .
بدأت القواليش تخرط الزرع الناشف وتخلفه وراء الحصادين .. عبقت مــن ســيقان
الشعير المخروطة .. رائحة فواحة .. تنشقها شهوان وقال في نفسه : يا للرائحة .. كأنها أثداء
امرأة مرضع .. امتل قلبه حبورا" وبهجه .. انهال بمنجله على الســيقان الطريــة .. خلــف
الحصادين كانت النساء تجمع الشعير في أغمار وتنقله إلى الكوم ( الصليبة ) .. أمــا الولد
فكانوا يتراكضون للتقاط السنابل التي تسقط من الغمارات.. أو من الشباك أثناء نقل الغلة إلى
الجرون .
ألقت مريم زوجة شهوان غمر الشعير على الصليبة .. وقفت تحيــل بصــرها فــي
المروج الذهبية التي تتوهج على مدى البصر .. وصلت سكينة بحملها سألتها :
- كيف سيحصدون كل هذا ؟
- يحصدونه على أفخاذنا .
اتسعت عيون مريم من الدهشة .. أكملت سكينة وهي تلقي ما تحمل على الكوم :
- هؤلء الحصادون الوغاد سيشغلون أنفسهم كلما اشتد بهم العناء بالحديث عنا .
فلنه أفخاذها مدملجة .. فلنه صدرها تخت ورخت .. فلنه بتضوي من عنقها الشــمعة ..
وهكذا يمضون الوقت بالترويح عن أنفسهم .. ول يحسون بالتعب .. حتى يخرط آخر قالوش
آخر سنبلة في الرض .
دنت منها زكية كنة الريفي .. ألقت بغمر الشعير الذي تحمله وهمست :
- سمعت فرج السويسي يقول لخي علي كلما" عن خضرة .. وحينما أحسا بي سكتا فجأة ..
كما لو أنهما ضبطا متلبسين .. هل تعتقدين يا سكينة أن أخي العاقل الذي يستحي من خيــاله
يتسلل إلى بيت العامري أيضا" .
قالت سكينة :
- حسبي ال ونعم الوكيل عليك يا سالم .. وال كلما ذكرت لي خضرة أتحسر عليها كما لــو
كانت ابنتي .. أتعلمون أنهـا مـن جيل ولدي دياب ( دقت على صدرها بأسى ) ال يســتر
عليها وعلى كل الوليا .
على رأس الطلقة ( المرج الذي انطلق الفلحون لحصاده ) كان يجلس الشيخ رمضان
الهواشمه شيخ الحارة .. وحوله الختيارية من كهول الحارة وأهل الحل والربط فيها .
قال السويسي :
- هل راحت علينا ولم نعد نصلح للفلحة .. نحن الذين كنا نقول للرض اشتدي مــا عليكــي
قدي ؟ شاب شعرنا وانحنى ظهرنا .. صرنا عالة على سواعد أولدنا وأحفادنا .. وال إننــي
لتمنى أن أعود شابا" ولو بنصف عقل مثل طبوع أبو الرواكي ..
ضحك الجميع .. قال شيخ الحارة :
- إنتو الذهب العتيق يا أبو ابراهيم .. إنتو الخير والبركة .. وعلى رأي المثل إللي مــا إلــو
كبير يشتري له كبير .
رد عليه الزهار :
- قال زي طبوع .. أي إنت ما شاء ال عليك ملك زمانك .. الكلمة كلمتك .. والمــال كلــه
بإيدك .. ال يخلي لك هالشمعات .. وال أولدك كلهم آية من اليات .. ما بخالفولك رأي ..
أحمد ال يا رجل .. إيش يقول إللي زيي لما يختير وما حيلتو لولد ول تلد .
أراد كبير البطوش أن يفض السيرة فقال :
- إنتو كلكوا عجزتوا ما عداي .. أنا لسه شباب ومش راح أختير أبدا" .. نهض خفيفــا" كمــا
ينهض الشباب .. ناول فنجان القهوة الفارغ لشيخ الحارة:
- قهوة دايمة .
- إلى أين يا حاج محمد ؟
- إلى الحصيدة .. اليد البطالة نجسة .
انطلق بهمة إلى حيث الفلحة .
- ال معكم يا شباب .. هادي جمعة المنافع بدها المرجلة .. ما شــاء ال تبــارك ال علــى
هالشعير الخصاب .. ال يطرح البركة .. لمح رضوان أصغر أحفاده يطوح بالمنجــل وقــد
تورمت كفاه .. كانت هذه أول سنة يحصد فيها :
- هات هالقالوش يا رضوان .. قال المثل إن قعقع القعود ديروا عالجمل حملو .. عنــك يــا
ولدي هات .
مانع رضوان قليل" .. ثم ناوله المجل على استيحاء .. ووقف يراقبه وهو يحصد بدل"
منه .. قطع البطش في لجنة حفيده .. كانت ذراعه المدربة تخـرط سـيقان الشـيعر كأنهـا
الدولب .. حتى أنه وصل إلى باقي الحصادين وكاد يسبقهم .. صاح شهوان وهو يرى تقــدم
البطش عليهم :
- باطل عالشباب .. اختيار يسبقهم ويفوز عليهم .
استفزت عبارة شهوان الصبية الذين يحصدون لول مــرة مثــل رضــوان .. أمــا
الحصادون العتاولة مثل ابي غوش وسالم واولد الريفي واولد السويسي .. فإنهم لم يستجيبوا
للتحدي احتراما" لشيبة البطش .. عندما سبق الجميع ..زغردت حفيدته زكية كنة دار الريفــي
وزغردت كل نساء الحارة معها .
امتل زهوا" .. ناول القاووش لرضوان :
- خود قالوشك يا رضوان وشد حيلك .. خليك سبع زي سيدك إللي بشيخ عالحصادين كلهم .
قال رضوان مازحا" :
- أكمل يا جدي .. أنت وال أمهرنا جميعا" .
ضحك البطش :
- هيه .. بدنا ناخد زماننا وزمان غيرنا .. على رأي المثل .. ياللي إنتو منـي إيـش بقـى
مني .. البركة فيك وفي إخوتك وأعمامك وأولد أعمامك .
أخذ يجمع بعض السنابل حتى كون جرزة منها .. وعاد أدراجه وهو يتمتم :
- ساق ال على أيام الشباب ملح .
عاد إلى حلقة الختيارية .. كـانوا مـا يزالـون يرتشـفون قهـوتهم علـى مهـل
ويتسامرون .. بادرهم بالتحية :
- السلم عليكم .
رد عليه السويسي محنقا" وقد غاظه ما حققه البطش من المجد وهو في مثل سنه :
- وعليكم ما على النساء بعد العشاء .
نظر إليه البطش نظرة عتاب ثم قرب الجزرة من النار ليشويها :
- ال يهديك كما هدى الدجاجة للديك .
ضحكوا جميعا" .. علق الشيخ محمود أمام المسجد :
- أهذه هداية أم غواية يا حاج محمد ؟!
شوى البطش سنابله .. وزعها عليهم .. أخذوا يفركونها بأكفهم وينفخون ما علق بهـا
من الرماد والسفير المحترق .. ويأكلونها بتلمظ
قال شيخ التفاح .. وهو يتلذذ بطعم الفريك :
- أولك وآخرك ونعيش وناكلك .
أذن الشيخ محمود لصلة الظهر .. توقفوا عن العمل .. أمهم الشيخ محمود في صلة
تجمع بين الظهر والعصر قصرا" وجمعا" .. بعد الصلة جلسوا لتناول غذائهم .. فاحت روائح
الزعتر واللبن .. انطبقت الضراس على رؤوس البصل .
دار عليهم الولد والبنات بأباريق الماء .. شربوا وحمدوا ال .. استلقى رضوان على ظهره
في ظل عوسجة قريبة حجبته عن الخرين .. وتمنى أن تطول لحظـة الراحـة هـذه أمـدا"
طويل" .. لول أن فاجأه ظهور نوارة ابنة عمه .
قالت وهي تحكم وضع الغطاء على رأسها :
- هل تعبت .. هذه أول سنة تحصد فيها ؟
نظر إليها وتبسم .. أنها دائمة القلق حول غطاء رأسها .. فهذا أول موسم تتحجب فيه
.. تأملها بعينين والهتين .. إن جدهما سيأمر بزواجهما بعد عام على الكــثر .. مثلمــا زوج
باقي أحفاده وحفيداته ( ابن العم أولى بإبنة عمه .. نحن ل نعطي لحمنــا للغربــاء .. إحنــا
البطوش زيتنا في دقيقنا ) .
جلست نواره إلى جواره وتناولت كفه ونظرت اليها .. كان المنجل قد حفر فـي يـده
اليمنى مجرى داميا" له .. أما اليسرى فقد تكلفت بها الشواك التي تنبت بين سيقان الشعير ..
فيدت مثخنة بالجراح .. حملت راحته إلى شفتيها وقبلتها :
- سلمتك يا رضوان .
ضاع كل تعب النهار .. اعتدل رضوان ومال عليهــا منــدفعا" .. أراد أن يختطــف
قبلة .. كانت عيناها تشرقان بالدمع .. انفلتت منه كظبية مذعورة .. ابتعدت وهي تتلفت مخا
فة أن يراهما أحد ثم انطلقت إلى الصليبة .
نادى شيخ الحارة :
- يا ال يا شباب .. كل واحد يركب لجنتو .
تثاقل الحصادون في النهوض بعد أن تذوقوا طعم الراحة في سويعة الغداء .. لبد مما
ليس منه بد .
عادوا إلى العمل فل تسمع إل صوت المناجل تخرط الزرع .. والسنابل تهوي إلــى
الرض .. تصلبت ظهورهم من طول تقوسها .. تورمت أكتافهم بعد أن رشحت دما" طــوال
الوقت قبل أن تغرب الشمس بساعة من الزمن .. وقف شيخ الحارة وقال :
- ال يعطيكم العافية .. الن انتهينا من حصة المعزب ( صاحب الفلحة ) فليركب كل حصاد
كروته .
دب فيهم حماس غير متوقع .. عاودتهم الهمة بعد أن حسـبوا أنهـم فقـدوا الرمـق
الخير .. إنهم الن يحصدون أجرهم عن النهار كله .. يصنعون خبزهم الخاص بعد أن نزفوا
العرق والدم طوال النهار .. والشاطر وشطارته .. كل ما يحصدونه الن هو لهــم .. حــتى
غروب الشمس
حين تدلى الظلم حمل كل حصاد كروته في كر ( شبكة مـن الليـف) علـى دابتـه
وانطلقوا في طريق العودة إلى الحارة .. مثل جيش عائد من معركة تعادل فيها مع عــدوه ..
فلم ينتصر ولم ينهزم .
اختاروا سهل" قريبا" من الحارة ليكون فيه الدرس والتذرية .. ووضعوا حصادهم فــي
أكوام منفصلة تدعى الجرون .. العائلت الكبيرة ابتعدت قليل" عن الخرين .. لحاجتها إلــى
أماكن أوسع لما سيتجمع لديها من السنابل بنهاية الموسم .. فسخوا أحمالهم وسارعت النســاء
بالعودة إلى البيوت لعداد الوجبة الرئيسية للحصادين ( وجبة العشاء ) وبقي الرجــال علــى
حفافي الجرون يسمرون ويخلدون للراحة بعد أول وأكثر ايام الحصاد عناء ومشقة .
كانت طلئع الطعام قد بدأت في الوصول .. سلل التوت والمشمش والخيار .. قدور
الجريشة بالبندورة .. الحرق أصبع .. البصارة .. مراجين الخبز .
تناول الجميع عشاءهم وأخلدوا للنوم كل على جرنه .. بسـاط الصيف واسع .. وسماء غـزة
تغطيهم بكل نجومها ومجراتها .
استلقى شهوان على ظهره فوق الجرن .. فاردا" ذراعيه على طولهما طلبا" للراحــة ..
نام عطية على ركبتي مريم فأضجعته في القش وانسلت إلى جوار شهوان .. توسدت ذراعــه
المفرودة .. قال لها وهو يحدق في السماء :
- انظري يا مريم .. هناك .. لقد طلعت نجمة اسهيل مبكرا" هذه السنة .. أجــدادنا يقولــون
( سهيل بتطلع على غمر قمح وسل تين ) .
- كل سنة وإنت سالم يا شهوان ..
- وإنت سالمه يا مريم ..
 التصقت به فطواها بكلتا ذراعيه .. هدهدها كطفل .. ثم استسلما للنوم .
???
تلك السنة كانت السماء أكثر رحمة وعدل" من الخواجة موسـى وصـنيعته درويـش
باشا .. فقد أعطى قنطار الشعير إثنى عشر قنطارا" .. انتصبت جبال الشــعير علــى طــول
الشاطئ .. من تلة البلخية إلى مقام الشيخ عجلين .. بطول خمسة أميال بالتمام والكمــال ..
اشتغلت سفن البنادقة والفرنجة بنقل الغلة طوال أشهر الصيف والخريف .. وهكــذا بعــد أن
اقتطع الخواجة موسى ما له على الفلحين من ديون وما على الديون من ربا .. بقي لهم مــا
يحفظ أودهم طوال العام وزيادة .
باع شهوان الحمارين للسقايين بضعف ما اشتراهما .. وباع جزءا" من الغلة واشـترى
لزوجته المشخلع والسوارة .. واحتفظ بمونة تكفيه إلى السنة القادمة .
السويسي والبطش والريفي وكبار الفلحين .. امتلت صوامعهم بالغلل .. زوج كل
منهم عددا" من أبنائه وأحفاده .. شهدت الحارة الفراح والليالي الملح .
أبو غوش عادت عليه الحصيدة بمبلغ ل بأس به .. استغله في تجارة المواشي الــتي
امتل بها حوش داره .
كان بارعا" في المداكشة ( مقايضة البهائم المسنة بالبهائم الفتية .. رأسـين بـرأس أو
ثلثة رؤوس برأسين ) الفلحون يفضلون هذه الطريقة لندرة النقود بين أيديهم .. أضاف أبـو
غوش غرفة جديدة وليوانا" وحوشا" جديدا" إلى بيته .. تقبلت زوجاته الليوان والحوش ولم يتقبلن
الغرفة الجديدة .. كبرت الشائعات بأن الزوجة الرابعة في الطريق .
وصل التوتر في البيت حد العصيان .. لم يعجن ولم يطبخن يومين متتالين .. فــاض
الكيل بالزوج .. امتشق حزامه وأشبعهن ضربا" .. أقسم أن يداكش عليهن رأسين برأس .
انصرف باقي الناس إلى حلقات الشعراء الجوالين .. يتلون عليهم تغريبة بني هلل ..
وقصة الزير سالم .. وعنترة والظاهر بيبرس .. امتلت مخازن الخواجة موسى بالشــعير ..
ما يكفي لقراض الفلحين للموسـم القـادم .. ثلثمائة وقية من الذهب استقرت فـي حفـرة
تحت فراشه .. لكنه عبثا" حاول النوم .. نغص عليه انتصاره .. الكتاب الذي تلقاه من حاخــام
الطائفة يدعوه للجتماع به لمر هام .. وأن يحفظ ذلك سرا" .. ما لبث أن علم بــأن أعيــان
اليهود في الولية مدعوون لهذا الجتماع السري .. لم ينس الحاخام أن يهنئه بما أصاب مــن
ربح في تجارة الشعير هذا العام .
لعنة ال على الحاخام .. ل يجتمع به إل ليطلب المال .. ليس له حديث إل عن فقراء
الطائفة ( مالي أنا وفقراء الطائفة .. لماذا ل يسأل الرب أن يعطيهم مال" بدل" مــن أن يأخــذ
مالي ويوزعه عليهم .. طز يا طائفة .. طائفتي هم أولدي أولد موسى عدس فقط ) .
أخيرا" قال في نفسه : بيننا وبين موعد الجتماع شهر .. وفي ثلثين يوما" قد يحــدث
الكثير .. قد يموت الحاخام .. أو أموت أنا .. أو يموت فقراء الطائفة .
 أخيرا" استطاع الخواجة موسى عدس أن يغلق عينيه وينام
???
دخل الكلغاصي المضافة مهرول" .. لم يلق السلم على أحد .. اتخذ مجلســه وهــو
يلهث .. التفت إليه الحاضرون في استغراب .. التقط أنفاسه بصعوبة .. لعله كــان يجــري
طوال الطريق من الدبوية إلى المضافة .
- خير يا نظمي .
اقترب منه الباقون على شكل حلقة .. وهم يرددون : يا لطيف يا حفيظ .. فالدبويــة
مقر المتصرف درويش باشا ل يمكن أن يرتجى منها خير على الطلق .
أدار نظمي افندي النظر حوله ليتأكد أن الحيطان ليس لها آذان ثم همس كأنه يخاطب
نفسه :
- لقد علم أحمد باشا الجزار والي عكا بما أصاب عامله على غزة المتصرف درويش باشــا
من الثراء .. فأرسل يطلب منه فدية لرأسه مائة ألف قرش أو يحضر لعكا فورا" .. وقع الخبر
على درويش باشا وقع الصاعقة .. فلطم وحثى التراب على راسه .. موقنــا" أن منيتــه قــد
حانت .. ولما زايله الروع واستعاد وعيه .. طلب إليه شيخ المشايخ .. اشار عليــه تيمــور
الضرغام أن يقسم المبلغ على مشايخ الحارات لجمعه من الهالي .
نكت شيخ الحارة بعصاه في الرض وقال :
- الناس ل تجد الزاد إل بالكاد .. فكيف يطيقون دفع مبلغ كهذا ؟
يقول درويش باشا يا روح ما بعد روح .. تابع نظمي أفندي الحديث .
- إنه ل يريد أن يلقي المصير الذي لقيته عائلة السكروج منذ أشهر .
قال كبير البطوش :
- عائلة السكروج .. الم يكونوا أمناء على خزينة الولية ؟ لقد خدموا الجزار زمنا" طويل" .
قال شيخ التفاح :
- لعله استطال مدة خدمتهم واراد أن يستبدلهم بسواهم .. ولكن ليس قبل أن يستصفي دمهم ..
وهكذا أظهر الريبة بمال الخزينة .. عين عليهم مال" يدفعونه له كتعـويض .. دفعـوا المـال
المعين .. فطالبهم بغيره .. استدانوا ودفعوا .. عاد للمطالبة بمبالغ أكبر .. لــم يجــدوا مــن
يقرضهم المال فأمر بذبحهم عن آخرهم .
- إثني عشر رجل" ما نجا منهم أحد .
تلفت الكلغاصي حواليه ثم همس :
- إن للجزار عيونا" على الرعية وعامة الناس .. فإذا أخبروه أن أحدا" قد أثرى من تجــارة أو
زراعة أو صناعة أو خلف ذلك . أرسل في طلبه وعين عليه مال" .. فإذا لم يدفع وضعه في
السجن .. لقد امتل سجن الولية بهم .
قال شيخ التفاح :
- أخبرني رجال البريد أن القيود قد نفذت من كثرة المساجين فما كـان مـن الجـزار إل أن
أصدر أوامره بإعدام السجناء القدامى وإعطاء قيودهم للسجناء الجدد .
قام شيخ التفاح مهموما" وغادر المضافة .. تبعه يونس إلى ساحة الدار وسأله :
- ماذا أنت فاعل يا عماه ؟
- غدا" سأذهب إلى الجتماع بهذا الوغد شيخ المشايخ .. ولكن علي قبل ذلك أن أرى مشــايخ
الحارات واتفق معهم على الرد .. ما أحسب أن أحدا" منهم قادر على أن يجمع شيئا" من هــذا
المبلغ ولو باع أهل حارتـه في سوق العبيد .
لم يستطع درويش باشا أن يأخذ من مشايخ الحارات حقا" ول باطل" قالوا له :
- أنت الدولة ولديك العيوانية والسبهلية وعسكر القبيقول .. فدونك والهالي .. أما نحن فنعلم
عن يقين أنك سوف تسوط جيادا" ميته .. الضرب في الميت حرام .
رأى الباشا أن ينصرف عن الموات إلى الحياء .. جمــع تجــار المدينــة وكبــار
ملكها .. وضعهم في السجن .. قرر على رأس كل واحد منهــم فديــة ل يخـــرج إل إذا
دفعهـا .. أما من كان غائبا" من التجار والملك .. وسمع القصة فقد ولى الدبار .. ومـازال
في الهرب والباشا في الطلب ردحا" من الزمن .
اليهود وحدهم لم يدفعوا من هذه الفدية شيئا" .. فقد استطاعت سارة أن تهــول علــى
الباشا مخاطر التعرض لليهود .. خاصة وقد عين الجزار أحدهم ( حاييم فارحي ) المشــهور
بلقب المعلم .. أمينا" لخزانة الولية .. بعد أن فتك بعائلة السكروج .. وفضل درويـش باشـا
أل يثيـر على نفسه عش الدبابير .
???
شفي المقدم صقر من قروحه .. لكن أثر القيد ظل مرسوما" على معصميه كالسوار ..
في المرة الخيرة التي زار فيها شهوان وادي الزيت شاركه النوم في المضافة .. كان السمار
قد انفضوا عنهما فتجاذبا أطراف الحديث وحيدين .. اشتد البرد .. خرج شهوان إلى البايكــة
حيث يخبئون الحطب .. أحضر حزمة وضعها إلى جوار الموقد :
- يبدو أن جوهر والخرين قد ناموا يا عماه .
جلس على البساط بعد أن وارب الباب خلفه اتقاء للريح الباردة .
تناول المقدم صقر بعض العواد .. ووضعها فوق الجمــر المتوهــج فــي الموقــد
الطيني :
- أما زالت تمطر .
- أجل .
تصاعد الدخان من الموقد .. اختنق شهوان بالسعال .
قال المقدم صقر كأنه يعتذر :
- دخان يعمي ول برد يقمي .
- أجل يا عماه يكاد البرد أن يخترق عظامي .
- يا حيف عالشباب .. وهل تسمي هذا بردا" .. ماذا لو كنــت فــي بلد الرومــاللي أو بلد
المسكوب .. حيث يغطى الثلج أرضها عدة شهور في السنة .
- وهل ذهبت إلى هناك يا عماه ؟
تناول المقدم غليونه وحشاه بالتبغ .. التقط جمرة بأصابعه ووضـعها فـوقه .. نفـث
الدخان في الفضاء .. كانت ألسنة النار تتصاعد من الموقد وتضيئ مساحة العتمة .. حتى أن
شهوان استطاع أن يميز ألوان البساط الذي يجلس عليه .
تابع المقدم كمن يتكلم في الحلم :
- أجل كنت هناك .. تطوعت في حرب المسكوب .
- وهل حاربت يا عماه .. يا ليتني كنت معك .. أنا أحب الحرب والمراجل .
- ل تقل ذلك يا شهوان .. الحرب لعنة .. الحرب جهنم .. كانوا يدخلون قرانا فيقتلون كل من
يصادفهم من النساء والطفال والشيوخ .. ويحرقون الزرع والبيوت .. وينشــرون الخــراب
حيثما حلوا .. وقد بادلناهم ذلك حينما دخلنا قراهم .. فعلنا فعلهم وألعن منـه أيضـا" .. أيـن
المراجل في ذلك يا شهوان ؟
- ألم تلتحموا بهم ؟
- بلى فعلنا ذلك عدة مرات .. ولكنها كانت اشتباكات صغيرة وليست حربا" كبيرة حاسمة .
- وكيف خرجت من الحرب ؟
- توجهوا بنا إلى أحد معاقل المسكوب .. كانت الطريق مغطاه بالثلوج .. الجمال التي تحمل
المدافع وال قوات جاهدت في الثلج حتى خلعت أخفافها وسارت بأقدام عارية ترشح دما ..
أصابها الجمد فتهالكت على جانبي الطريق .
حملنا ما استطعنا حمله ومضينا .. باغتناهم عند الفجر .. التحمنا بهـم فـي موقعـة
فاصلة .. تذابحنا طوال النهار .. كان الطبر سلحي المفضل .. فلقت به رؤوسا" كثيرة كمــا
تفلق البطيخ .. أدركنا العياء .. خانتنا أكفنا واقدامنا .. تساقطنا كما يتساقط الجميز البوطي ..
هدأ الليل هدأة الموت .. ناديت على جماعتي .. فما أجابني أحد .. لعلهم تجمدوا من الثلج ..
أويت إلى جذع سنديانة ضخمة .. اشعلت النار حتى ل يصيبني ما أصابهم .. زحف جنــدي
من المسكوب باتجاه النار .. راقبته ويدي على الطبر .. نزع سيفه ورماه بعيدا" .. هجم على
النار .. أخذ يصطلي دون أن يعيرني التفاتا" .. نحيت الطبر جانبا" حـتى أطمئنـه .. أخـرج
زجاجة من عبه وشرب ثم ناولني .. كانت خمرة مثل ماء النار سرت في جـوفي .. تـدفأت
عروقي .. تبادلنا الشراب حتى زالت الكلفة .. غنى وبادلته الغناء .. كــان كل منــا يغنــي
بلغته .. أشار إلي بسبابتيه وكفه .. فهمت أنه يدعوني للهرب معه .. قلت له :
- والسلطان ؟
قال : القيصر والسلطان .. وأشار إشارة بذيئة من يده .
انتابنا الضحك .. ضحكنا حتى استلقينا على ظهورنا .. وحد الضحك بيننا كما لو أنه
اتفاق مكتوب .. مد يده تصافحنا بحرارة .. عقدنا صلحا" منفردا" ..قبل أن يطلع النهار هربنــا
معا" ..كنا نسير في النهار ونأوى في الليل إلى الخرائب وحظائر الماشية .. حتى وصلنا إحدى
قرى الرمن .. استضافتنا أرملة في بيتها .. اغتسلنا بالماء الساخن والصابون أولمــت لنــا
عشاء دسما" .. أصرت على أن نقضي معها الليل في فراش واحد .. آيه الصبا جنون .
قال شهوان :
- وقصتك مع الجزار يا عماه ؟
- الجزار يا ولدي قاتل مأجور .. عاش في مصر يبيع رأس مملوك لمملوك آخر .. ويقبض
الثمن .. حتى افتضح أمره وأصبح موتورا" للجميع .. هرب إلى الشام .. خدم لدى أمراء جبل
لبنان .. حتى عينه أحدهم حاكما" لبيروت .. ظل يتأمر على أسياده بالرشوة والغدر .. حــتى
استقر به المقام واليا" لصيدا .. لكن عينه كانت دائما" على قلعة عكا .. عكا يا ولــدي ينطبــق
عليها ما جاء في القرآن ( القرية التي كانت حاضرة البحر ) حصونها أمنع من الجوزاء .. لو
رأيتها يا شهوان ؟
- بلى يا عماه رأيتها .. مررنا بها .. ونحن في طريقنا إلى مرج عيون .. حين كنا نخطــر
بالفخار بين قرى الجليل .
- قلعة عكا ليست القلع والحصون والسوار الشامخة التي تظهر للعيان فقط .. ولكــن مــا
تحتها القبية والرواقات والدهاليز .. عنابر المؤن وآبار المياه ومخازن السلح .
إن الف جندي يستطيعون الصمود داخلها أعواما" كاملة دون أن ينقصهم شئ .. إنهــا مدينــة
كاملة تحت الرض .. تنام وتصحو على هدير البحر .
- سمعت أن الجان هم الذين بنوا عكا ؟
- بناها إبن طولون والي العباسيين على مصر وفلسطين .. وجددها وشحنها بالميرة والذخيرة
والجند سيدي ظاهر العمر رحمه ال .. كان يمتنع فيها حتى على دولة بني عثمان .. لســيما
والهالي يحبونه ويفتدونه بدمائهم .. فهو عربي مثلنا .. وليــس مملوكــا" مغــامرا" كهــؤلء
الرناؤوط والشركس والبشناق .
خبت النار في الموقد مخلفة الجمر والرماد .. التقط المقدم صـقر بأصــابعه جمـرة
صغيرة وضعها على غليونه .. أخذ يمتص تبغه بنهم .. محدقا" في اللشئ .. كــأنه يســتعيد
ملحم أيامه الخوالي .
- كيف انتصر الجزار على ظاهر العمر إذن ؟
- بالغدر .. دس عليه بعض الجنود المغاربة .. استعملهم ضاهر على البواب ..وفي اللحظة
المناسبة فتحوا البواب لجيش السلطان .. ورغم أن أولد ظاهر العمر استمروا في المقاومــة
بعد سقوط عكا .. ممتنعين بقلعهم الحصينة وبالتفاف الهالي حولهم .. إل أن ما قدر كان .
لقد بنى علي ابن ظاهر العمر قلعة صفد .. وبنى شقيقه صليبي سرايا الصقرية فــي
طبريا وبنى شقيقهما عثمان قلعة شفا عمرو .. وشيد شقيقهم سعد قلعة دير حنا .
خاضوا مع الجزار حروبا" ضروسا" في مجد الكروم وأبوسنان والرامة .. كانت قواتهم
من أبناء البلد مثلنا .. الفلحين والصناع والفعلة .. وكانوا يسمون عسـكر العـرب .. أمـا
قوات الجزار فأنت أدرى بهم يا شهوان .
- وأنت يا عماه كيف كانت حربك مع الجزار ؟
- هزمته في كل موقعة حتى حاصرني في قلعة صانور .. صمدنا له تسعين يومــا" .. لــول
الطواب التي جلبها له السطول التركي ودك بها القلعة .. لما استطاع أن يزحزحنا منهــا ..
خرجت على رأس الفرسان بعد انهيار القلعة .. التحمنا بهـم .. أصـابني أحـد الرنـاؤوط
برصاصة في رأسي .. سقطت عن ظهر جوادي .. لم أستيقظ إل في السجن .
- وفي السجن أرسلت تطلب العدل من اسطنبول :
متعجبن يا خلق كيف تسطي عالصقور أفراج
أنا لما شـفت النـادل راكبيـن أســراج
فـزيت مـن غفلتـي كالذليــل وقلــت
ميلت ميـزان عـدلك يا زمــان وملــت
اسـطمبول دار العـدل منك نريـد افـراج
ضحك المقدم صقر :
- يا شهوان علمتنا اليام أن العدل ل يطلب بالشعر .. العدل يطلب بحد السيف .
استلقى على الوسادة ..ولف العباءة على جسده :
- تصبح على خير .
???

 رواية العنقاء كاملة :الجزء 21:
 رواية العنقاء كاملة :الجزء 19:


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-