أخر الاخبار

حافي القدمين : عن رحلة الحج في العام 2005

حافي القدمين *
لا أعلم لم حشرونا سبعة صحفيين في غرفة واحدة "كبيرة" في الفندق عندما كنا ضمن البعثة الاعلامية لتغطية مناسك الحج عام 2005، عبرت عن احتجاجي بين زملائي الأكبر مني سنا وأكثر "خبرة"، وبدأت بالتحريض، كانت ردة الفعل من بعضهم "إحمِد ربّك وتتبطّرش... أول مرة واحد يطلع من وكالة وفا."
لكن أصوات الضراط المنبعثة من الحمام، عند دخول أحدنا، كانت محفزة للاحتجاج أكثر من الشخير وقت النوم، ترقد في سريرك يدخل أحدهم الحمام لتلبية نداء الطبيعة، تسمع الأصوات فتعيش اللحظة، وكأنك راقد تحت "الكابانيه" تنفيس وفرقعة، تُميّز بين فرقعة وحيدة أم يصحبها رفقة، تتخيل ما اذا كانت المُخرجات صلبة أم سائلة أم نص نص وفق إرتطامها بالماء. وتعرف ما اذا كان زميلك يعاني من الإمساك وفقا لصوت أنفاسه.
قدر المستطاع كنت أقاوم وأصمد كي أقضي حاجتي خارج الغرفة، الردهة الأرضية، مقهى، مطعم... إلخ كي لا يسمعوا فرقعاتي ويعيشوا اللحظة معي.
كانت المهمة الأولى لي خارج أسلاك غزة وليس لدي خبرة إدارية كافية في كيفية سير الأمور، أخرج إلى ردهات الفندق الذي حجزته بعثة الحج الفلسطينية أجد غرفا كثيرة فارغة، لِمَ لم يوزعوننا عليها؟ توقعت أنها لضيوف قادمون، غادرنا مكة ولم يأت الضيوف!
مع بداية الرحلة طرقت أبواب المكتبات هناك، لم أجد خارطة لمكة "أول مرة حاج يسأل عن خريطة المدينة". سألت عن كتبا كثيرة لم أجد، فالكتب جلها دينية بحتة، أوقفت البحث عن الكتب ثم عن الخريطة.
على صعيد عرفة، وددت أن أتفحص مكان خيمتنا كي لا أتيه عنها، أريد علامة فارقة، التففت للخلف فوجدت يافطة ضخمة كُتب عليها "نهاية عرفة" فقد كنا في فعلا في "المؤخرة".
أذهلني طوابير طويلة أمام صناديق بيضاء فهمت لاحقا أنها مراحيض، فقررت "الصيام" كي لا أنضم لأحدها. انتابني فضول حول شعور هذا الذي داخل الصندوق وعشرات بانتظاره يسمّرون عيونهم على مقبض الباب. بعد أن يتحرك المقبض يميل "النُّظارة برؤوسهم ليتفحصوا وجهه، لم أفهم لماذا، ربما لأنه "أخذ راحته"، لكنه يخرج متجنبا النظر في أعينهم، كأن لا أحد على عرفة غيره، يلف وجهه ويتوجه إلى صنابير المياه لإكمال طقوس الانتظار.
آخرون تكاثروا على المؤخرات المفتوحة لشاحنات توزع الطعام والماء والعصائر مجانا على المحتاجين، ربما كلهم كذلك. شاهدت رجلا أعرفه ولا يعرفني، يندب حظه أنه لم يستطع المزاحمة على مؤخرة الشاحنة، ولم يحظ بنصيبه من البسكويت والعصائر.
توجهت لخيمتنا، تناولت قنينة عصير وعبوة بسكويت مغلفة ببلاستيك (نايلون) أخضر اللون، عدت ومددتها إليه
- تفضل يا حج، تتعبش حالك وتزاحم، ناقص عليك إشي؟
- لا عندي منو هاض كتير، بدي من الأزرق، بيقولوا محشي عجوة.
لففت ظهري وغادرته بصمت.
مجموعات من النسوة والرجال يجوبون الشارع الأسفلتي المحاذي ذهابا وإيابا "يدردشون" في أمور حياتهم، آخرون إلتزموا خيامهم قضوا وقتهم في المسخرة، وآخرون قضوا في الاستغفار والدعاء. مركبات الأمن والطواقم الطبية لم تهدأ، ورجلا أمن فشلا في تحديد مصدر رائحة معسّل التفاحتين الصادر من إحدى الخيام، شيشة، نار، يمنع منعا باتا اشعال النيران.
مع ساعات المغيب إنهمك الغالبية بالدعاء قبل النفير، إنهمكتُ بالبربرة والعطس، وارتفاع في درجة الحرارة، الأدوية الاحتياطية تركتها في الفندق، حزم الحجيج أمتعتهم وركبوا الحافلات وكل شئ متوجهين إلى مزدلفة، ركبت الحافلة التي لا أعرف لمن، المهم انها رايحة مزدلفة. فلا اعلم أين ذهب الزملاء.
لاحظ الزميل في تلفزيون فلسطين، كامل حمادة (أبو عيسى)، الضّنك المفاجئ الذي حل بي، لم يتركني لحظة... إلى مزدلفة وسط الغبار والزحام، حوالي 2 مليون حاج يقطعون زهاء 7 كم يتوجهون في لحظة واحدة إلى منطقة واحدة. قررنا السير أسرع من الحافلة، في السير زحام أيضا. سرت ومعي (أبو عيسى) يحاول مساعدتي لو كلاميا رغم أن يديه فارغتين بالطبع، "أوديك على المستشفى؟ أجيبلك إسعاف" ... أي مستشفى، لقد اعتدت أن أعمل في البلاط وأنا أبربر. لم يهمني البرابير فقد استمسكت بأغلى ما أملك وقتها، الكاميرا التي اشتريتها من نيويورك. أتدعثر وأقع على الأرض وأنا شاهرها كسيف عنترة كي لا تُداس بالأقدام أو تتسربل بالغبار، سرت ويمسك أبو عيسى بذراعي أحيانا، حتى وجدنا بقعة تصلح للجلوس دون وخز مؤخراتنا، فقد انتشر/نُشر حصى ليجمعه الحجيج لرجم العقبة.
مع بزوغ الفجر، رجل بجانبي يصلي ويسجد على قطعة فخارية، خفت أن يتألم، فأزحتها من مكانها، بعد قليل، وجدته أيضا يسجد على نفس الفخار، هل دفعها أحد بقدمه، فأزحت القطعة مرة أخرى حفاظا على جبهته، بعد أن انتهي سألني بلكنة عراقية عن سبب إزاحتي للحجر؟
- كي لا تتألم، ربما يجرحك
- أتيت به من كربلاء كي أسجد عليه، قال بعتاب
- لماذا؟!
- هذا حجر مقدس من كربلاء، أسجد على قطعة مقدسة من أرض مقدسة...
- ما هو أقدس مكان عند المسلمين؟
- مكة
- وأين أنت الآن؟
- مكة ولكن........
وفُتح باب نقاش (دردشة خفيفة) حول السنة والشيعة وأنا أُبربر، ومما ورد:
"إنا أعطيناك الكوثر"، ما هو الكوثر؟ سألني
قلت: كما تعلمنا وأنا غير متخصص ولا ضليع هو نهر في الجنة، ونزلت السورة لأن المشركين كانوا يعايرون الرسول أن لا أولاد له فوعده بالجنة ونهر الكوثر والآخرة أبقى (ليس حرفيا).
قال: أنتم لم تقرأوا أن الكوثر هو فاطمة الزهراء، وهنا المنطق، المشركون يعايرون الرسول بعدم وجود مولود ذكر فعوضه الله بفاطمة.
جوهر ما خرجنا به هو الانغلاق الفكري والتسليم بالتابوهات، وشطب الآخر، فيجب على كل طرف الإطلاع على الآخر/ الآخرين.... مع التسليم بانتشار الخَبَل في الجانبين السني والشيعي.
في الحرم صادفني الزميل "إحمد ربّك إنك طلعت"
- بُست الحجر الأسود؟ سأني بعد الترحيب
- لا
- ليش؟
- زحمة ومش ضروري أبوس
- كيف يا زلمة، لازم تبوسه
- روح بوس انت
- أنا بست
- طيب خلص بديش أبوس بحبش أزاحم
- تعال بأخلليك تبوسو بدون ما تزاحم
- بديش أزق حدا ولا أنزنق في زحمة
- قال ولا يهمك تعال
- سرت خلفه بعد قليل
- قال: بوس بوس
- مين
- الحجر الأسود
- وينو؟
- هيو، واشار بيده لإحدى زوايا الكعبة
- يا عم هادة مش الحجر الأسود
- ها شو؟
- هذا الركن اليماني
- لا يا زلمة.
في طريقي للخروج من منطقة الحرم، عدد المتسولين يعرقلون المسير، أحدهم على كرسي مُدولب وآخر يدس عكازين تحت ابطيه ويسير قفزا على ساق واحدة. فجأة ضم العكازين بيد يديه وفر هاربا، أما ذو الكرسي المدولب فوقف على ساقيه هاربا وهو يدفع الكرسي أمامه، ودب هرج ومرج بين الحجاج والتجار والمتسولين والسابلة بسبب وصول الشرطة التي تحرص على بقاء الشوارع دون عراقيل أمام المشاة.

توجهت لمقهى انترنت شبه مهجور، قضيت حاجتي أولا، وهو الهدف الأسمى كي لا يشاركني زملائي اللحظة، واستخدمت جهاز الحاسوب أرسلت مادة مكتوبة لوكالة وفا، ودفعت الحساب، لكن هب جدال مع المدير لأنني طالبت بايصال قبض، ورفض بعد دستة استغرابات، كيف أطالب بايصال قبض؟!. غادرت المقهى كسيرا، قابلت شرطي في الشارع، سألته أين بإمكاني تقديم شكوى، زَبَلني.
عدت للفندق على متن دراجة بخارية، بالكاد وجدتها، فمركبات النقل (سيارات وشاحنات مجرورة وحافلات) ملأى، ركبت وراء القائد، طار بي والرداء الأبيض يلولح، ألملمه أحيانا كي أنفنف وأمسح البرابير قليلة اللزوجة، وقائد الدراجة يسير كالأفعوانة بين الحافلات، والتيار الهوائي يطعّج وجهي وأنا أداعبه ببراطمي كالأطفال، أفردهما أحيانا، وأدورهما أحيانا أخرى، وأحيانا أغلق جهة وأفتح جهة فينفخ وجنتي من الجهة المفتوحة، كل هذا وأنا أتساءل من هذا اللعين الذي يستحق الرجم بحصى مزدلفة، لقد سرق شبشبي بجانب الكعبة وخَلّاني أروّح "حافي القدمين".

* منقول عن صفحة الاعلامي سامي ابوسالم

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-