أخر الاخبار

مسائل نحويّة تتعلق ب( إنّما ) - دكتور سعد بن محمد داود

      أصل ( إنّما ) هو ( إنّ) المؤكدة ، اتصلت بها (ما) المهيئة ل (إنّ)  الدخول على الأفعال ،أو الزائدة ، وتسمى أيضا الكافة ، لأنّها تكفّ ( إنّ) عن العمل ، فصار التركيب ( إنّما ) ، وأصبح لهذا التركيب أثره في أداء المعاني النحويّة التي تعرض لها النحويون  قديمًا .. فهذا أبو علي الفارسيّ ، يقول في – الشيرازيات – " .. يقول ناسٌ من النحويين في نحو قوله تعالى " إنّما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " ( آية 32 الأعراف ) أنّ المعنى : ما حرّم ربي إلا الفواحش . يقول أبو علي : وأصبت ما يدل على صحة قولهم هذا ، قول الفرزدق :
- أنا الذائد الحامي الذمار وإنّما          يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي .
فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجبًا أو منفيًا ، فلو كان المراد به الإيجاب ، لم يستقم . ألا ترى أّنّك لا تقول : يدافع أنا ، ولا يقاتل أنا ، وإنّما تقول : أدافع ، وأقاتل ، إلا أنّ المعنى لما كان : ما يدافع إلا أنا ، فصلتَ الضمير ، كما تفصله مع النفي إذا ألحقت به ( إلا) حملًا على المعنى .
       قال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى " إنّما حرّم عليكم الميتةَ " (آية 173 البقرة ) ، النصب في الميتة هو القراءة ، ويجوز "  إنّما حُرّم عليكم الميتةُ " بالبناء لما لم يسم فاعله ، ورفع الميتة ، وهذه من شواذ القراءات ( ) .
   قال أبو إسحاق : والذي أختاره  : أن تكون ( ما ) التي تمنع ( إنّ) من العمل ، ويكون المعنى : ما حرم عليكم إلا الميتة ، لأنّ ( إنّما ) تأتي إثباتًا لما بعدها ، ونفيًا لما سواه ، وقول الفرزدق :
- .............................. إنّما          يدافع عن أحسابكم أنا أو مثلي .
المعنى : ما يدافع عن أحسابكم إلا أنا أو مثلي ( ) .
    وليس معنى قول النحويين بما سبق أن المعنى مع ( إنّما ) هو نفسه مع ( ما وإلا) ففرق بين أن يكون في الشيء معنى الشيء ، وبين أن يكون الشيء هو عين الشيء .
- من هنا نقول  :
ليس كلّ كلام يصلح فيه ( ما وإلا ) يصلح فيه ( إنّما )  ألا ترى أنّه لا يصلح في قوله تعالى " وما منْ إله  إلا اللهُ " ( آية 62 أل عمران ) أن يقال : " إنّما منْ إله إلا اللهُ " ، فإذا قلته ، لم يكن له معنى . وذلك لأنّ (من) الزائدة ، لا تكون إلا في النفي ، وبهذا يتضح أنهما ليسا بسواء .

    وبالمثل نجد ( ما وإلا) لا تصلح في ضرب من الكلام صلحت فيه ( إنّما ) ، وذلك إذا قلت : إنّما هو درهمٌ لا دينارٌ ، فلو قلت : ما هو إلا درهمٌ ، لا دينارٌ ، لم يكن شيئًا . وذلك لأن النفي ب( إلا ) لا يجتمع مع النفي والاستثناء .
    ولا ريب أنّ النحويين كانوا يراعون الدقة في تخريج المعاني عند الاستعمال ، وأنّ القاعدة النحويّة هي الأصل التي تدور في فلكها المعاني  .

ثمّة ملمح آخر في ( إنّما ) :
 أنّها تأتي لخبر لا يجهله المخاطب ، ويدفع صحته  كأن تقول لرجل : إنّما هو أخوك ، وإنّما هو صاحبك القديم ، لا تقوله لمنْ يجهل ذلك ويدفع صحته ، وإنّما تقوله لمنْ يعلمه ، ويقرّ به .  ألا ترى أنّك تريد أنّ تنبه للواجب عليه من حق الأخ ، وحرمة الصاحب ؟ .. ومثل ذلك من الذكر الحكيم ، قوله تعالى " إنّما يستجيب الذين  يسمعون .." ( من الآية 39 الأنعام ) ، وقوله تعالى " إنّما يتذكر منْ اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب .." ( من الآية 11 يس) كل ذلك تذكير بأمر ثابت ، معلوم ، وذلك أنّ كلّ عاقل يعلم أنّه لا تكون استجابة إلا ممنْ يسمع ، ومعلوم أنّ الإنذار إنّما يكون إنذارًا ، ويكون له تأثيرٌ إذا كان مع منْ يؤمن بالله ، ويخشاه ، ويصدق بالبعث والحساب ، أمّا الكافر ، والجاهل فالإنذار وعدمه سواء .
     بهذا التطبيق المحكم للمعاني النحويّة ، مع الاقتدار على توجيه المعاني بالذوق الرفيع ، أخرج للمكتبة العربية والإسلامية  ثمارًا لها أثرُها في شتى فروع اللغة ، فضلًا عن استعمالها كضوابطَ لها فاعليتها في توجيه المفسرين لكتاب الله ، كما هو في الكشاف للزمخشريّ، وروح المعاني للألوسيّ  ، وغيرها من كتب التفسير.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-