أخر الاخبار

لغتنا الفتية هل أصابها الوهن ؟ - دكتور سعد بن محمد داود

لغتنا الفتية هل أصابها الوهن  ؟       
          لا شك أنَّ اللغة كائن حيٌّ يجري عليها ما يجري على الأحياء , تولد ضعيفة ثم إذا ما تعهدها ذووها بالرعاية والإصلاح عاشت بين ظهرانيهم شابة فتية مفعمة بالحيوية.. ثم يأتي من بعد القوة ضعفٌ وشيبةٌ، هذا ناموس المخلوقات ، أمَّا لغتنا فتخرق ذلك الناموس، فهي معصومةٌ من الضعف والشيبة، أو ليست لغة أهل الجنة؟ أيدخل الجنة عجوز ؟
        إنَّ الفضل كل الفضل في استمرار شباب لغتنا ،هم علماؤنا من الرعيل الأول ،أولئك الذين امتلأت قلوبهم حبا  لله ورسوله ، وغيرة على لغتهم من أن يتسرب إليها اللحن ،  فوضعوا علم النحو، وهو من أسمى العلوم قدرا ، وأنفعها أثرا،  به يتثقف اللسان،  ويسلس عنان البيان ،  فقيمة المرء في ما تحت طي لسانه لا طيلسانه ، وقد صدق إسحاق بن خلف البهراني في قوله )من الكامل )
- النحو يبسط من لسان الألكن               
                          والمرء تكرمه إذا لم يلحن ِ.
- وإذا طلبت من العلوم أجلّها                 
                          فأجلها منها مقيم الألسن .
فبالنحو يسلم الكتاب والسنة من عاديات اللحن والتحريف ، وهما موئل الدين وذخيرة المسلمين،  فكانت العناية به عملاً مبروراً ، وسعيا في سبيل الدين مشكورا .
         لقد نشأت العربية في أحضان الجزيرة خالصة لأبنائها مذ ولدت فتية سليمة من أدران اللغات الأخرى،  وكان في أسواقهم الكثيرة التي تقام بينهم طوال العام، غناء أيّ غناء في عيشتهم البدوية القانعة ، وبجانب ما  تضمنته تلك الأسواق من مرافق الحياة ، ومتطلبات المعيشة ، منتديات للأدب ، يعقدون فيها المجامع ذات الشأن، يتبارى فيها الخطباء، ومفوهو الشعر من القبائل المتنائية الأصقاع ، يعرضون فيها منافراتهم، ومعاظماتهم ،وكل ما يعنّ لهم،  من جيد الخطب وبديع الشعر.
             ثمّ بعد الإسلام تتابعت الفتوحات ، وفتح المسلمون الأوائل قلوب العباد، قبل أنْ يفتحوا البلاد، فدخل الناس في دين الله أفواجا ، وبحكم الفتح كثر الموالي ، وتقاطر الوافدون من الأقطار المفتوحة على المدينة المنورة ، حاضرة الإسلام ، وعاصمة الخلفاء الراشدين وعلية الدولة ، وعلى مكة المكرمة ، وبها الكعبة المشرفة التي يؤمها كل من قال ( لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهكذا ازداد النزوح في عهد الأمويين  ، واختلط العرب بهم اختلاطا مستمراً، في البيوت والأسواق  ، والمناسك والمساجد ، وتصاهروا واندمجوا في بعضهم البعض، حتى تكوّن منهم شعب واحد ، بيد أن غير العربي كان ينزع قسراً إلى بني جلدته ، وإن طال لبثه بين ظهراني العرب  ، فتولد من هذا كلّه أن اللغة العربية تسرب إليها اللحن  ، ووهنت الملاحظة الدقيقة التي تمتاز بها ، وهي اختلاف المعاني طوعا  ، لاختلاف شكل آخر الكلمة.       
      وهاك - أيّها القارئ - مثالا يوضح إلى أي مدى وقع اللحن ، واحتاج الناس لقواعد النحو:
( يُروى أنّه قدِم المدينة أعرابي ، في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب () فقال:  من يقرئني شيئا مما أنزل الله تعالى على محمد (  ( ؟ فأقرأه رجل سورة براءة ،  فقال: إنّ اللهَ بريءٌ من المشركينَ ورسولهِ  - بخفض رسوله-  فقال الأعرابي : أوقد برئ الله من رسوله ؟ إنْ يكن الله تعالى قد برئ من رسوله، فأنا أبرأُ منه, فبلغ ذلك عمر(  ) فدعا الأعرابي ،  وقال يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله (  )  ؟ فقال يا أمير المؤمنين :  إني قدمتُ المدينة و لا علم لي بالقرآن فسألتُ من يقرئني ؟  فأقرأني هذا سورة براءة ،  وقصّ عليه القصة ,  فقال عمر(  ) ليس هكذا يا أعرابي, فقال كيف هي يا أمير المؤمنين؟  فقال : إن الله بريء من المشركين ورسولهُ – برفع رسولهُ -  فقال الأعرابي  : لأنا واللهِ أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم ،  فأمر عمر رضي الله عنه ألاّ يقرئ القرآن إلا عالم بالعربية .
        من هذه القصة ندرك  ، إلى أي مدى تسرب إلى اللغة الفساد ، لكنّ الغيورين من أبناء العروبة (مادة الإسلام) سارعوا بسد تلك الثلمة ، بوضع علم يصون اللسان عن اللحن في الكلام .. فما أحوجنا اليوم إلى الخلفاء الراشدين  ، وأمراء الأمويين والعباسيين!! 
         أهذه اللغة العظيمة التي وسعت كتاب الله ،  وعزّ على القدماء والمحدثين حصر مفرداتها، وتراكيبها، وما تحمله من أسرار وكنوز ، تعجز عن الإيفاء بأسماء آلات ومخترعات حتى نهجرها ، ونستورد أسماء آلاتنا ومخترعاتنا من لغات أقل قدرا وأضعف جندا ؟ !! .     
      وهذا ما دعا العربية أن تنعي حظها ،  بين أهلها ، على لسان أحد أبنائها (حافظ إبراهيم) - الطويل :   
- وسعت كتاب الله لفظًا وغايةً     
                     وما ضقت عن آي به وعظاتِ .
- فكيف أضيقُ اليومَ عن وصفِ آلةٍ       
                         وتنسيق أسماء ومخترعاتِ  .

       أتلك اللغة التي ُفتن بجمالها القاصي والداني تهجر ؟ !! أيذهل أبناؤها عنها رغم حسنها وجمالها ؟ !!
ولأنها لغة الحس المرهف ، والذوق الرفيع ، آلمها ذهول أبنائها  ، فرددت قول ولدها ( طرفة)  -  الطويل :
- وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً   
                         على النفسِ من وقعِ الحسامِ المهنّدِ .

        لعمري إنها لجميلةٌ ، معنى ومبنى ، خُلُقَاً وخَلْقَاً , مر بها الغربيون ، ُفتنوا بجمالها.. تقربوا منها.. توسلوا إليها.. أغروها بالتقدير والتكريم.. ولرقتها وعذوبتها ، ونقاء سريرتها ، استجابت لتوسلاتهم..ألبسوها ثيابهم.. منحوها جنسياتهم.. تباهوا بها في المحافل الدولية ، والمنتديات العالمية , حضر المحافلَ والمنتدياتِ أبناءُ أرومتها , حنّت إليهم ،  وحنوا إليها ، تحاوروا معها ,  ذكّروها بذويها وأهلها.....فإذا هُمْ في عقلها ....في قلبها ..ورددت قول ولدها ( الطويل ) :
 - بلادي وإنْ جارت علي عزيزة       
                   وأهلي وإن ضنوا علي كرام .
        والآن ألا يجدر بنا أن نتعلم من أخطائنا ؟ أنْ نعود إلى طريق أوائلنا؟ أن نولي اللغة جلّ اهتماماتنا ؟ .     
   إنّ العربيةً نهرٌ عذبٌ سائغٌ شرابُه، فهي كانت ولا زالت مصدر عزنا وفخرنا, وعلينا أن نتعهدها ، كما تعهدها أجدادنا ،لتحيا هنيئة بين أحضاننا ، ولتكون سندا لنا في شيخوختها ،  ومن ثم يتعهدها من يأتي بعدنا، فتحيا شابة فتية – كما ولدت – وإلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومن عليها.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-