مما لا يخفى على أحد أنّ النحاةَ خصصوا لها وأخواتها بابًا ، ونصّوا فيه على عملها ، وهو نصب الاسم ، ورفع الخبر ( على خلاف) ، كما نصّوا على معناها،وهو إفادة التوكيد ،على وجه الاستحسان للشاك ، وعلى وجه الوجوب للمنكر، هذا مما يعلمه القاصي قبل الداني .
• لكن لها أسرار أخرى منها :
أنّها إذا دخلت في جملة يكون الكلام بها مستأنفًا غير مستأنف ، مقطوعًا موصولًا معًا ، فهي حينئذ تغني عن الفاء العاطفة ، وتفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرًا عجيبًا قد يخفى على فحول العلماء ( على حدّ قول عبد القاهر ) من ذلك ما روي عن الأصمعيّ أنّه قال : كنتُ أسيرُ مع أبي عمرو بن العلاء ، وخلف الأحمر ، وكانا يأتيان بشارًا ، فيسلمان عليه بعناية وإعظام ، ثم يقولان : أبا معاذ ما أحْدثت َ؟ فيخبرهما ، وينشدهما ، ويسألانه ، ويكتبان عنه متواضعيْن له حتى يأتيَ وقت الزوال ثم ينصرفان .
وأتياه يومًا فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة ؟ فقال : أهي بلغتكم ؟ فقالا : بلغنا أنّك أكثرتَ فيها من الغريب ، قال: نعم ، بلغني أنّ سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب ، فأحببتُ أن أورد عليه مالا يعرفُ ، قالا : فأنشدناها أبا معاذ ، فأنشدهما :
- بكّرا صاحبيّ قبل الهجير إنّ ذاكَ الفلاح في التبكير .
حتى فرغ منها ، فقال له خلف : لو قلت أبا معاذ مكان ( إنّ ذاك الفلاح في التبكير ) ( بكّرا ... فالفلاح في التبكير ) كان أحسن ، فقال بشّار : إنّما بنيتها أعرابية وحشيّة ، فقلت : (إنّ ذاك الفلاح في التبكير ) كما تقول الأعراب ، ولو قلت : ( بكّرا ..... فالفلاح في التبكير ) كان هذا من كلام المُولّدينَ ، ولا يشبه ذاك الكلام ، ولا يدخل في معنى القصيدة ، قال : فقام خلف فقبّله بين عينيه .
فهل هذا القول من خلف ، والنقد من بشّار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه ؟ ، فتكون الجملة مستأنفة مع ( إنّ) لأنها غير معطوفة على ما قبلها بالواو ، وهي جواب ٌ عن سؤال مقدّر ، فكأنّ سائلًا سأل : لماذا يطلب إلى صاحبيه أن يبكّرا قبل الهجير ؟ فكان الجواب .. إنّ ذاك الفلاح في التبكير .
وأّمّا كونها تصل جملتها بالجملة السابقة ، فالدليل عليه ، أنّك لو أسقطت ( إنّ) من الجملة لرأيت الجملة الثانية لا ترتبط بالأولى ، ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء الفاء ، فتقول :
- بكّرا صاحبيّ قبل الهجير فذاك الفلاح في التبكير .
فلعلّ هذا سرّ لطفها ، ودقتها ، وجزالة التعبير بها ، وهي سمةُ البناء الأعرابيّ الوحشيّ ، على عكس ما لو قال : ( بكّرا ........... فالفلاح في التبكير ) .
- بهذا يتبيّن لنا كيف كان لانسجام القاعدة النحويّة مع المعنى من أثرٌ في بناء الجمل وترابطها مع بعضها البعض للأداء المعاني ، وكيف استعمل العربيّ العبقريّ ( إنّ) مكان ( الفاء) ، فقامت بعملين : عملها الإعرابيّ ، وربط ما بعدها بما فبلها ، مع تخريج الكلام على ما يفهم منه أنه مستأنفٌ غير مستأنف ، مقطوعٌ موصولٌ معًا .. ومثل هذا الضرب كثيرٌ في القرآن الكريم ، ومنه قوله تعالى " يا أيها النّاسُ اتقوا ربّكم إنّ زلزلة الساعة شيءٌ عظيم " ( آية 1 – الحج ) . إنها الآيات التي تبرق من ثناياها هذه المعاني المعبّرة عن إعجاز لغة القرآن الكريم ، في النظم المحكم ..
..........................................
دلائل الإعجاز – عبد القاهر الجرجانيّ ص( 173 : 188 ) بتصرف .
• لكن لها أسرار أخرى منها :
أنّها إذا دخلت في جملة يكون الكلام بها مستأنفًا غير مستأنف ، مقطوعًا موصولًا معًا ، فهي حينئذ تغني عن الفاء العاطفة ، وتفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرًا عجيبًا قد يخفى على فحول العلماء ( على حدّ قول عبد القاهر ) من ذلك ما روي عن الأصمعيّ أنّه قال : كنتُ أسيرُ مع أبي عمرو بن العلاء ، وخلف الأحمر ، وكانا يأتيان بشارًا ، فيسلمان عليه بعناية وإعظام ، ثم يقولان : أبا معاذ ما أحْدثت َ؟ فيخبرهما ، وينشدهما ، ويسألانه ، ويكتبان عنه متواضعيْن له حتى يأتيَ وقت الزوال ثم ينصرفان .
وأتياه يومًا فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة ؟ فقال : أهي بلغتكم ؟ فقالا : بلغنا أنّك أكثرتَ فيها من الغريب ، قال: نعم ، بلغني أنّ سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب ، فأحببتُ أن أورد عليه مالا يعرفُ ، قالا : فأنشدناها أبا معاذ ، فأنشدهما :
- بكّرا صاحبيّ قبل الهجير إنّ ذاكَ الفلاح في التبكير .
حتى فرغ منها ، فقال له خلف : لو قلت أبا معاذ مكان ( إنّ ذاك الفلاح في التبكير ) ( بكّرا ... فالفلاح في التبكير ) كان أحسن ، فقال بشّار : إنّما بنيتها أعرابية وحشيّة ، فقلت : (إنّ ذاك الفلاح في التبكير ) كما تقول الأعراب ، ولو قلت : ( بكّرا ..... فالفلاح في التبكير ) كان هذا من كلام المُولّدينَ ، ولا يشبه ذاك الكلام ، ولا يدخل في معنى القصيدة ، قال : فقام خلف فقبّله بين عينيه .
فهل هذا القول من خلف ، والنقد من بشّار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه ؟ ، فتكون الجملة مستأنفة مع ( إنّ) لأنها غير معطوفة على ما قبلها بالواو ، وهي جواب ٌ عن سؤال مقدّر ، فكأنّ سائلًا سأل : لماذا يطلب إلى صاحبيه أن يبكّرا قبل الهجير ؟ فكان الجواب .. إنّ ذاك الفلاح في التبكير .
وأّمّا كونها تصل جملتها بالجملة السابقة ، فالدليل عليه ، أنّك لو أسقطت ( إنّ) من الجملة لرأيت الجملة الثانية لا ترتبط بالأولى ، ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء الفاء ، فتقول :
- بكّرا صاحبيّ قبل الهجير فذاك الفلاح في التبكير .
فلعلّ هذا سرّ لطفها ، ودقتها ، وجزالة التعبير بها ، وهي سمةُ البناء الأعرابيّ الوحشيّ ، على عكس ما لو قال : ( بكّرا ........... فالفلاح في التبكير ) .
- بهذا يتبيّن لنا كيف كان لانسجام القاعدة النحويّة مع المعنى من أثرٌ في بناء الجمل وترابطها مع بعضها البعض للأداء المعاني ، وكيف استعمل العربيّ العبقريّ ( إنّ) مكان ( الفاء) ، فقامت بعملين : عملها الإعرابيّ ، وربط ما بعدها بما فبلها ، مع تخريج الكلام على ما يفهم منه أنه مستأنفٌ غير مستأنف ، مقطوعٌ موصولٌ معًا .. ومثل هذا الضرب كثيرٌ في القرآن الكريم ، ومنه قوله تعالى " يا أيها النّاسُ اتقوا ربّكم إنّ زلزلة الساعة شيءٌ عظيم " ( آية 1 – الحج ) . إنها الآيات التي تبرق من ثناياها هذه المعاني المعبّرة عن إعجاز لغة القرآن الكريم ، في النظم المحكم ..
..........................................
دلائل الإعجاز – عبد القاهر الجرجانيّ ص( 173 : 188 ) بتصرف .