📁 آخر الأخبار

تأملات في سورة آل عمران54:

تأملات في سورة آل عمران54:

﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (112).

كنا قد قسمنا تأملاتنا في هذه الآية قسمين: عرضنا في المنشور السابق لأولهما. وها نحن نعرض للقسم الثاني، بعون الله.

القسم الثاني: في قوله تعالى:

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾:

تعليل لما سبق، من ضرب الذلة على بني إسرائيل، بعد لعنات داود وعيسى بن مريم ـ صلى الله عليهما وسلم ـ إذ قتلوا الأنبياء.

وقد ذكرت الآية أنهم كانوا يقتلونهم بغير حق. فهل يمكن أن يُتصوّر قتلٌ للأنبياء بحق؟

إن ذلك لو حدث، لكان معنى ذلك أن الله قد غضب عليهم، لمجرد أنهم خالفوا «قانون قتل الأنبياء» حين قتلوهم بغير حق. وحاشا لله؛ فلا يُقتَل نبي إلا كان بغير حق.

فلم إذن كان هذا الاستثناء؟ لم قيل إن بني إسرائيل كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق؟

ولأن كثيراً من المفسرين رفضوا اعتبار مجيء جملة ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ لمجرد التوكيد، خصوصاً مع ما تثيره من الالتباس (فإحدى مهمات التوكيد إزالةَ التباسٍ حادث ٍأو متوقع) فلقد يبدو لي ـ والله أعلم ـ أن معنى ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ في هذا السياق، هو ما نسميه اليوم «خارج القانون»: فكأن كان لمجلس السنهدرايم اليهودي قانون يتحاكم إليه، ويحكم به، لا يحتوي على نص يبيح قتل الناس دون جريرة:

1ـ فلو كان قانونهم من التوراة، فمعلوم انه لا يُستطاع أن يوجد فيه نص يبيح ذلك، حتى لو كان موضوعاً مُخْتَلَقاً.

2ـ وإن كان من قانون الدولة الرومانية الحاكمة، فلا نص فيه يتطرق إلى عقوبة الأنبياء، فالدولة وثنية لم تسمع بالأنبياء.

3ـ لم يبق إذن إلا أن نتصور ـ إذن ـ بأن حكماء المجمع اليهودي، كلما جاءهم نبيٌّ بما لا تهوى قلوبهم، ثم لم يجدوا نصاً قانونياً يبيح قتله، قتلوه خارج القانون، اغتيالاً دون مجرد محاكمة صورية.

ومما يعزز لدينا هذا الفهم، ما رأيناه في كتب الأناجيل، من كون الحاكم الروماني أبىٰ أن يصدر حكم الإعدام على عيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم. فلما أصر أعضاء مجلس الحاخامات (السنهدرايم) على إعدامه ـ وكانوا يملكون هذا الحق بموجب قانون الحكم الذاتي ـ اعترض الوالي الروماني بيلاطس وقال:

"وَأَيَّ شَرّ عَمِلَ؟ فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخًا قَائِلِينَ: لِيُصْلَبْ! فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئاً، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ! فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا: دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا" (إنجيل متى/ الأصحَاحُ السَّابعُ وَالْعِشْرُونَ: 23 ــ 25).

وهكذا نرى مجلس السنهدرايم يُحرض رعاع اليهود على التظاهر في وجه الحاكم الروماني، ليأمر بقتل الأنبياء، مخالفين في ذلك نصين قانونيين: أحدهما سماوي والآخر أرضي.

لقد كانوا فاسدين حتى مشاش العظم هؤلاء حكماء الشعب اليهودي هؤلاء، إذ يحكمون بغير القانون الذي بموجبه كانوا حكاماً!

ألا وإنه قد تقرر ـ منطقياً ودينياً ـ إن القاضي (كل قاضٍ) لا يكون إلا واحداً من أربعة:

1ـ إما أنه يمتلك ناصية الاجتهاد، فهو قاضٍ مؤهلٌ، يجتهد فيوفقه الله إلى الصواب، ولا ينحاز عن الحق، فهذا مجتهد مُحقٌ، وله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة.

2ـ وإما أنه يمتلك ناصية الاجتهاد، فهو قاضٍ مؤهلٌ، يجتهد فلا يوفقه الله إلى الصواب، مع سلامة نيته. فيصدر منه الحكم الخطأ، فله أجر واحد: أجر الاجتهاد فقط.

3ـ وإما أنه لا يمتلك ناصية الاجتهاد، لأنه غير مؤهل للقضاء كما ينبغي، فيجتهد في تفسير القانون، فيخطئ في اجتهاده، مع سلامة نيته. فهذا الحكم منه يصدر باطلاً حتى لو أصاب الحقيقة، لأنه شخص يعمل في غير اختصاصه، كالذي يمارس الطب وليس بطبيب، فيصادف أن يصيب مرة، ثم يبقى مستحقاً للعقوبة. وهذا القاضي في النار، لأنه ليس الرجل المناسب في المكان المناسب، ولا تشفع له نيته التي يقول إنها حسنة.

4ـ وإما أنه يخالف القانون عمداً، مع معرفته بالنص، فيجمع في حكمه بين الخطأ والبطلان. فيكون قاضياً فاسداً يحكم بالهوى. فعليه الوِزرُ كاملاً غير منقوص. وهذا ملعون كفور عدو لله، يستحق النار، لأنه يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً.

ولا شك أن حكماء مجلس السنهدرايم كانوا من الصنف الأخير: يحكمون بما يعلمون أنه يخالف القانون.

والله يقول الحق ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.