📁 آخر الأخبار

مقبرة الإنجليز.. تُحفة أثرية على أرض فلسطينية

ابراهيم عبد الهادي- غزة- مجلة ميم

ينتابك الشعور للوهلة الأولى بجمال وروعة هذا المكان كما لو أنك ذاهب إلى حديقة أو متنزه عام لقضاء وقت جميل بعيداً عن الضغوطات اليومية وروتين العمل الممل, حيث الأشجار والزهور الجميلة بمختلف أنواعها وأشكالها التي تلتف حول المكان لتعطيه رونقاً من الجمال كأنه عمل هندسي متقن, ولكن الحقيقة أن هذا المكان جمع أرواحاً من عدة بلدان توافدت متفرقة من عدة دول أوروبية وعربية واجتمعت جميعها في هذا المكان تحت التراب.


إنها “مقبرة الأنجليز” في منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة على الشارع الرئيس الواصل بين مدينة رفح جنوباً وبيت حانون شمالاً، والمسمى بشارع صلاح الدين، وهي واحدة من المقابر الخمسة الموجودة في فلسطين إلى جانب مقبرة أخرى في منطقة التفاح شرق مدينة غزة، ومقبرتين في مدينة بئر السبع ومقبرة في مدينة جنين بالضفة الغربية.








في بداية المدخل، تجد رصيفا على حوافه أشجار متنوعة من الزيتون والسرو. توجد لوحة صخرية كتب عليها باللغة العربية والانجليزية “إن هذه الأرض المقامة عليها المقبرة قد وهبها شعب فلسطين كمثوى أبدي لرجال قوات الحلفاء الذين سقطوا قتلى في الحرب العالمية الأولى 1914-1918 والمخلدين في هذا المكان”.

وعند دخولك للمقبرة، تجد بساطاً من الإنجيل الأخضر اللامع الذي يفترش جميع مساحتها، وتعلو هذا المنظر الرائع قبور متراصة ومرتبة ترتيباً هندسياً ومرقمة، ويوجد على كل قبر شعار الدولة التي تدل على جنسية المتوفي واسمه وعمره وتاريخ وفاته ورتبته العسكرية، وبعض القبور مكتوب عليها عبارات تدل على وضع صاحب القبر، فمثلا هناك قبر مكتوب عليه “ابن أبيه الوحيد” وقبر كتب عليه “أنت في القلب لن أنساك أبدًا”، حيث يوجد في كل سطر 21 قبراً.





الحاج عواجا
التقت مجلة “ميم” بالحاج أبو خليل عواجا (55 عاما)، حارس المقبرة منذ ثلاثين عاماً، فأخبرنا أن “مساحة هذه المقبرة تبلغ 25 دونم, وتشرف عليها هيئة الكومنولث في المملكة المتحدة, وتحتوي على رفاة 733 جندياً وقعوا قتلى خلال الحرب، وهم من أجناس مختلفة، منهم 21 مسلما هنديا و43 هندياً من الهندوس السيخ و7 من اليهود و3 من مسلمي الجزائر وغيرهم من جنسيات مختلفة منها كندا وبريطانيا واستراليا وشمال أفريقيا ونيوزيلندا”، ويضيف عواجا أن المقبرة “أصبحت مقصداً للشباب والفتيات بالإضافة إلى طلبة المدارس والجامعات وللعائلات الغزية التي تجد فيها متنفساً لهم ولأطفالهم للهو واللعب وللاستجمام ولأخذ الصور التذكارية ولقضاء أجمل الأوقات”.

وعن طبيعة عمله في المقبرة، يقول عواجا لمجلة “ميم”، انه يستيقظ كل يوم في الصباح الباكر حتى تسدل الشمس ستارها لحراسة المقبرة وترميم القبور المهترئة وتقليم الأشجار والزهور وتنظيفها خاصة وأنها تعتبر مزارا سياحيا، وأن هناك اهتماماً كبيراً من قبل الحكومة البريطانية بالمحافظة على هذه المقبرة من خلال توفير كافة الإمكانيات اللوجستية لبقائها لتصبح مكاناً تاريخياً تشهد عليه كافة العصور.

وبين الرجل الخمسيني أنه قبل الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة كان يأتي إلى المقبرة أقارب الموتى من مختلف دول العالم والمشرفين عليها من البريطانيين لتفقدها ولكن مع الإغلاق المُشدّد للمعابر، قلّ عدد الزائرين.




أ. يوسف عبد العزيز
يقول الكاتب والمؤرخ الأستاذ يوسف عبد العزيز لـ”ميم”، انه قبل حوالي قرن من الزمان وبمساندة الفرقة الاسترالية والنيوزلندية، بدأ هجوم الحلفاء في الحرب العالمية الأولى بتاريخ 16 أذار/ مارس 1917، وتوجه رتل منهم نحول التلة المعروفة شرق مدينة غزة باسم “تلة المنطار”، وهي ترتفع 85 متراً فوق مستوى سطح البحر, وذلك من خلال محاولتهم الإيقاع بالجنود الأتراك والعرب المرابطين فوق التلة والالتفاف عليهم مما عزا بالموجودين أن فتحوا نيران رشاشاتهم على قوات الحلفاء وأوقعوا عدداً كبيراً منهم بين قتيل وجريح.

وأضاف عبد العزيز: “تبع هذا الهجوم قيام قوات التحالف بعزل القائد “دوبل” واستبداله بقائد آخر جديد “شتيتورد” كمحاولة لبدء هجوم جديد، والذي حصل بالفعل 17أبريل/ نيسان 1917 بمساندة البوارج الحربية البريطانية والفرنسية التي انهالت قذائفها على مدينة غزة بشكل همجي, دمر من خلالها العديد من المساجد والكنائس في المدينة، إضافة إلى جزء كبير من المباني السكنية، واستمر الهجوم من الساعة الخامسة صباحاً حتى الساعة الثانية ظهراً, واستخدمت قوات الحلفاء خلال المعركة القنابل السامة لإطلاقها على الجنود العثمانيين الموجودين على “تل المنطار”، حيث بلغ عددها 300 قذيفة وصل مداها ستة كيلومترات، وبلغت زنة القذيفة الواحدة أربعة كيلوجرام”.







وأوضح عبد العزيز أن “قوات التحالف لم تكتف بهذين الهجومين، بل قررت تنفيذ هجوم ثالث بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 1917م لاقتحام تلة المنطار وذلك بعد طرد “مواري” قائد قوات الحلفاء واستبداله بقائد يدعى “اللنبي” الذي قام بتجميع الجيش مرة أخرى لاقتحام مدينة غزة من جهة الشمال، إلا أن الهجوم قد فشل أيضاً وفشلت جيوش الحلفاء في تحقيق هدفها, وأسفرت هذه الهجمات أخيراً إلى السيطرة على “تل المنطار” بعد خسارة بريطانيا وقوات التحالف لأكثر من ألفي قتيل وإصابة الآلاف منهم”، ويضيف الكاتب والمؤرخ أنه “بسقوط “تل المنطار” أصبحت قوات التحالف في مهمة سهلة للوصول إلى مدينة القدس والاستيلاء عليها وذلك في سبتمبر 1917 لتصبح فلسطين تحت سيطرة الانتداب البريطاني بعد أن توسع سقوط المدن الفلسطينية بيد قوات التحالف حتى نهاية عام 1918″ .

وأردف: “بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، أعلن ديفيد بن غوريون الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية ومدير الوكالة اليهودية قيام دولة إسرائيل في 14 أيار/مايو 1948م, وطالب بعودة  الشعب اليهودي إلى ما أسماه أرضه التاريخية”.







يذكر أنه لم تسلم المقبرة خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة نهاية العام 2008، حيث أطلقت عليها إسرائيل عملية “الرصاص المصبوب” أو “حرب الفرقان” كما أسمتها حركة حماس من عمليات القصف، فقد سقطت عليها خمس قذائف إسرائيلية، الأمر الذي تسبب بإلحاق أضرار جسيمة بـ287 ضريحاً بفعل القصف الإسرائيلي، بالإضافة إلي تدمير بعض الأبنية التابعة لها وإتلاف عدد من المزروعات والنباتات, الأمر الذي دفع سفارة المملكة المتحدة بإسرائيل إلى تقديم شكوى لوزارة الخارجية الإسرائيلية تنديداً بالأضرار التي  لحقت بالمقبرة, ومطالبة بدفع تعويضات مالية عن الأضرار خلال عمليات القصف.