الشاشة غير واضحة أمامي، غيمة من الدموع تحجب عني تفاصيل الخبر الذي عزمتُ أن أكتبه كي أقتنع بفكرة استشهاد باسل الأعرج، أنا التي لم تنبش يوما ذكرى الشهداء وهي رطبة كي لا تنزف وجعهم، فجأة أقرر أن أكتب خبر استشهاده كي أقنِع نفسي بكل ما حصل، ذلك أننا نكتب حين عندما نعجز عن الكلام والصراخ، وحين نكون بعيدين جدا، تصبح الكتابة المفر الوحيد لنا. لكنني لم أنشر هذا الخبر كي يأخذ حيزا في وسائل الإعلام، بل كتبت لأنني أريد أن أصدق بأن مصير الفلسطيني واضح، فقط هناك اختلاف بسيط في حيثيات موته.
استشهاد باسل أصاب كلماتي بفاجعة، وكل الأحاديث والقصص المضحكة والمبكية التي عرفتها عنه من عمته، صديقتي شيرين الأعرج، تحجرت في مخيلتي، ولم أعد قادرة على صياغتها، ولأنني فاشلة في الكتابة عن الأصدقاء حين يستشهدون، استعنت بكلمات الدكتور أسامة الأشقر، التي ترجمت ما كنتُ أود أن أقوله لكم عن هذا الباسل، حيث كتب: " الباسل الأعرج! إذا شئتم أن تصفوه بالمختص فقد كان صيدلانيا ينفع الناس بعلمه ولم يجعل من الصيدلة بيعا للدواء في صيدلية. يتصدر التظاهرات الشعبية ويرمي المحتل بكل حجر يلتقطه ولا يرى في الحجر إلا وجه بندقية.
تعلم من روايات الأجداد أن شعبنا لم يزل ثائرا وأن ثمة من يخون دائماً.
قرأ تجارب المقاومة الشعبية المسلحة في الجليل والمثلث زمان الاحتلال البريطاني وأدرك أن حرب العصابات هي الطريقة المثلى لاستنزاف العدو المحتل المعاصر.
عرف أن الجغرافيا هي علم عسكري تنموي وليست معلومات مسابقات يتلقى فيها الفائز قطعة شوكولاته… فكشفت له تضاريس الطبيعة عن مخابئها المخفية ومراصدها المطوية.
كانت روحه ثائرة يغذيها العلم، وتوقد لهيبها المعرفة، وأدرك أن الحياة درس لابد من إلقائه ولو كانت في ميدان النار، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للوصول إلى مقام الشهادة".
هذا هو باسل باختصار. رجلا عاديا حد الدهشة. باسل الذي عرفتُ لسانه الطويل ونقاشاته الحادة واعتراضه على الكثير من الأشياء وعناده على الحق، هو ذاته الذي أعجز عن الكتابة له الآن، وأستعين بكلمات أستاذي أسامة الأشقر كي تعبر ولو قليلا عنه.
في الحرب نموت نحن ويحيا الشهيد بعدنا طويلا، ولا أدري من أكثرهم خسارة، الشهيد أم الوطن!
باسل.. بما أنك أصبحت الآن في حضن الأرض، أخبرني أيهما يخسر أكثر! شهيد يتمنى العودة ليكرر جمال الموت لأجل الوطن فيخسر فرصة العودة بموته، أم وطن يخسر هكذا شهيد!
أتعلم ما الذي أخشاهُ يا صديقي؟ أخشى أن تمر سنة وفي مثل هذا اليوم بالذكرى الأولى لاستشهادك لا أجد ما أقوله لك، أخشى أن يظل الشعب معتادا على الخراب بعدما قتلوا فيه الاستهجان والغضب.
بالتأكيد كنتَ تسمع كل يوم كيف يقتلون شبابنا على شاكلة محمد الصالحي "وحيد أمه" ونحن نشيع الشهيد ونتبرع له ببعض كلماتنا الغاضبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ثم ننفش ريشنا ونعتقد أن بـِ"زعبرتنا" تلك أدينا الواجب الوطني.
كل يوم يعدمون زينة شبابنا على الحواجز، وألف عبد الفتاح الشريف يستشهدون، ونحن ما زلنا نذهب آخر كل أسبوع للتسوق من رامي ليفي الذي أطلق حملة للتضامن مع الجندي قاتل عبد الفتاح.
عندما تصدر من أجهزة أمن السلطة تصرفات لا تليق بحجم القضية، يقولون "عادي، ما الغريب، أين المفاجأة" ثم يرفقون استكانتهم بمسبات على "أم وأبو اليوم الي أجت فيه السلطة" وينتظرون أن ننظر إلى كل تلك الجرائم بشكل طبيعي انهزامي واستسلامي، لدرجة أنني صرت أشك بصحة نظرتي للأمور الوطنية " هل يعقل أنني أبالغ أم الناس تمسحت؟".
ثم بعد هذا وذاك يثأر الأسرى لأنفسهم، وتدافع أنت عن نفسك وحدك، وتتحمل عبء الليالي الباردة التي قضيتها بين الجبال هاربا من عدو ومقبلا على وطن، ثم حين يخيروك بين الموت والحياة، تختار حياة تليق بك، حياة يسمونها "موت" وتسميها أنت "شهادة".
ذكرني باسل بحادثة استشهاد عامر أبو عيشة ومروان القواسمة، وسألت نفسي ذات السؤال الذي كتبته في مقدمة مقال كنت قد كتبته بعنوان: "عامر ومروان.. قتلناكم"، وها أنا أعيد ذات السؤال الذي لم أعثر على اجابته، ما الحيز الذي يشغله المطارد في قاموس التنسيق الأمني؟ وهل يُفزعُ وجه الموت من وظفوا أنفسهم دروعا واقية للاحتلال!
لم يفزعهم موتك يا باسل، كان صوت السلام الخارج من أروقة المقاطعة أعلى من صوت الرصاص الموجه نحو قلبك، أنت الذي استشهدت على بعد أمتار من مقرات "أجهزة أمن الدولة الفلسطينية".
أصبحت السلطة الفلسطينية الجانب القميء لكل حكايات الثوار، والسوسة التي تنخر كل مبادرة للمقاومة، لهذا تستطيع أن ترى بين سطور كل من يعرف باسل، أصابع الاتهام وهي تتجه لهذه السلطة التي تعّذب باسل في سجونها وأضرب عن الطعام ثم خرج واختار أن يحتضنه التراب والبرد والقسوة على أن تحتضنه السجون مرة أخرى، وكم هي طبيعية ردة فعله كإنسان يؤمن أن "أن كل ثمن تدفعه في المقاومة ستحصل على مقابله، إذا لم يكن في حياتك، فستأخذه لاحقا، لأن المقاومة جدوى مستمرة".
هذه هي قناعات باسل الأعرج، وهذا ما استطاع أن يعلمنا إياه في ما تيسر من عمره، وحين استشهد، ترك سلاحا وكتبا وحفنة رصاص تُثبت لنا أن "المثقف أول من يقاوم وآخر من ينكسر".
مثل هؤلاء الشهداء نستطيع أن نضرب العالم بذكراهم، أسماؤهم ستصبح لعنة على الاحتلال، وتاريخهم ثقافة، ملامحهم لوحات لا يتقن رسمها إلا المقاومين، الموت أضعف من أن يأخذهم منا دفعة واحدة، تعاليمهم صلوات لكل الأيادي التي تحمل البنادق.
باسل.. لما كانت المسافات البعيدة سببا لعجزي عن كتابة ما يليق بك، انتهيت الآن من كتابة خبر استشهادك، وعلى الرغم من محاولاتي الفاشلة ونشر الخبر ورؤيتي لصور سلاحك تغزو كل مكان، إلا أنني لم أصدق موتك، لأنه من الصعب قتل شخص على استعداد لأن يموت، ذلك أن قتله سيكون بلا معنى.
70 ألف سيارة في غزة، 24 الف سيارة بعد عام 2012
ترخيص مركبات الديزل.. في الضفة 670 شيقلاً وبغزة 2100 شيقل!
الكويت: أصلح سيارتها .. والمقابل صورة بملابس قصيرة !
اكبر عملية سرقة في تاريخ عصرنا الحديث NIXON SHOCK
========
ـ لماذا إذن هو مختلف؟
ـ لأنه كثير على وقت مثل هذا، وقت مهزوز مثل بندول ساعة خرفة، هناك أشخاص يستكثر الوقت نفسه عليهم، وهناك من يستكثرهم على نفسه، وباسل لطم الوقت على عينه فاخضرت، ولم يعد يرى بها، باسل لم يكن مؤذياً، لكنه أراد للوقت أن يعدّل من قامته المحنية، ويبدأ في زراعة الصبّار من جديد، بعد أن خلعوه من كل مكان.
ـ لم تقل لماذا هو مختلف؟
ـ ألأنه كان وحده؟ والبطولة أن تموت وحيداً؟ ألأنه ظل يعدّ الطلقات التي تنفذ من بين يديه واحدة واحدة؟ والبطولة أن تصمد إلى الطلقة ما بعد الأخيرة؟ ألأنه لم يلمس مقبض الباب ولم يقرر أن يعطي الأعداء لمعةً واحدة يرونها في عينيه؟ نعم لأجل كل هذا، قرر أن لا يروا عينه إلا منطفئة من الخارج ومضيئة من الداخل كشمس في قطبٍ ثلجي، بيضاء والثلج أبيض.
ـ هل انتهيت؟
ـ بل لم أبدأ بعد!!!
كان قارئاً، وكاتباً، ليس مثلنا بالتأكيد، نحن الذين نحيا على بطولات الآخرين، كتب مقالاً ذات يوم رشق عنوانه في أعيننا: عش نيصاً وقاتل كالبرغوث... لم يكتب هذا فقط، بل عاش وقاتل.
واحد وثلاثون عاماً لم تكن تكفي ليقرأ كل الكتب التي يريد، لكنها كانت كافية لقراءة تضاريس الأرض حتى بطريقة بريل، ليعيد رسمها وكتابتها كفلسطيني خارج من تعريفات البطولة في الكتب، لم تكن رصاصة واحدة كافية للموت، فتحولت الرصاصة إلى قذيفة، تفتتت ففتتت معها كل تنظيرات الفصائل والأحزاب وتجمعات الحواري، ليترك وراءه فردة حذاء واحدة تقول كل شيء للجميع الذين سيصعدون سلم دمه قريباً درجة درجة، نقطة نقطة، إنه أمر مخجل تماماً ما سيحدث غداً بعد جنازتك يا باسل.
***
لم اؤمن يوماً بفكرة البطل النموذجية، لكن البطل كما كنت أرى، أنه الشخص الذي يقوم في لحظة تاريخية ما بعمل ما يتوجب على أمة كاملة أن تعمله، لكنها لا تفعل ذلك، ومن هنا ينبثق البطل الفردي، الذي يقول ما لا يقوله الآخرون، ربما يخرج حرفان من فمه فيملآن معجماً، وربما يصمت لعشر ثوانٍ فيخترع لغةً، هذا لم يكن حكاية في كتاب الحكايات، ولم يكن صيداً في غابة الكلام، كان لحماً ودماً وأغنيات وكتب وصلوات وغابات وأولاد مدارس وكحل عيون البنات المراهقات، يعرفُ تماماً أين يموت، وأين يخلع عباءة الليل عن جلده ليضيء الجلدُ كسراجٍ قديمٍ زيته فكرة، وفتيلته خيارٌ واضحٌ، واليد التي تمسكه خشنة ومتشققة وحنونة.
***
تعال إلى موعدك، لا تتأخر وتتحجج بالموت، فهذا ليس عذراً كافياً، فقد اشتريت لك الاسطوانات التي كانت تنقص مجموعتك الموسيقية، وأهدتني إحدى البنات كتاباً لك، وأمي صنعت لك المفتول بيديها المتعبتين، وأختي التي لا تخدم أحداً في العادة، نسجت لك بلوفراً شتوياً، وندمت لأنك لن تلبسه هذا الشتاء، وستضطر أن تنتظر الشتاء القادم لترتديه، سيبدو الأزرق المطعم بالأحمر جميلاً على قامة مثل قامتك، لكن مهما يكن، إياك أن تتأخر عن موعدك، لأنك تعرف أن واحدة من الأشياء القليلة التي تجعل أمي تفقد أعصابها، أن يتأخر مدعو على العشاء عن موعده.