أخر الاخبار

جدتي اللئيمة

جدتي اللئيمة
كانت تحل علينا ضيفة كل عام، لتقضي فصل الشتاء البارد في المفرق، هربا من برودة ابنية الباطون في عمان، تمضي صيفها هناك في الطراوة بين اقاربها الكثر ..ابنتها وبنات اختها، ثم تعاود القدوم الينا في الشتاء لتجد الدفء المنشود في بيتنا الترابي، ثم تهرب مجددا الى عمان في حركة اشبه ما تكون برحلة "الشتاء والصيف".
ليس فقط الدفء وحده ما كان يجتذبها الينا، اذ لطالما كنت انصت لها في صلواتها تدعو الله بدعوتين لا ثالث لهما ( اللهم الدفى والعفى)..والعفى بالنسبة لها (الفاكهة والحلوى والطعام)، فكان فصل الشتاء لدينا فيه وفرة من كل شيء، صوبة البواري لا تتوقف عن الهدير طوال الليل والنهار، شواء الكستناء، وقحمشة الخبز والفاكهة و الحساء، إذ كان ابي ينشط في هذا الفصل من السنة، في اعمال "ترويب" اسقف المنازل واصلاحها منعا لتسرب مياه الشتاء، رغم ان سقف منزلنا لا يكف عن الدلف طوال تلك الايام، وكلما قالت له امي اصلح سقف منزلنا، يقول لها كيف بدي اصلحوو والمطر ينهمر، فتقول له اصلحه عندما يتوقف المطر، فيجيبها بأنه عندما يتوقف المطر لا يدلف المنزل..ولا داعي لإصلاحه.

المهم..جدتي هذه (الله يرحمها اذا بدو) لم ارى في حياتي انجس ولا اخبث منها، لم تكن حكيمة وكانت تعشق النميمة، فالويل لمن لاقته، وطوبى لمن فارقته، صحيح انها كانت تهوى تسبيح المولى بعد كل صلاة على عجل، لكنها تهوى اكثر لحم الخاروف و العجل، مع مرق القرنبيط والفجل، وتهوى مع الطعام، الثرثرة و الكلام، فبعد كل وليمة، إما ان تنام، أو تعاود التسبيح او النميمة، حتى تأتيها مجددا الوليمة، بإختصار، رحمها رب الفاكهة والخضار، كانت كرنيبة ولئيمة، ورغم محافظتها على الصيام، لم تكن تعرف من القرآن الا سورتي المائدة والانعام.
عشرون عام، وهي جالسة مستدفئة في زاوية هالحجرة عندنا، تستمع الى قصص ابي التي كان يرويها مكررة كل شتاء على مسامعنا، فيسري بها عنا في ليالي الشتاء الطويلة والباردة، (.. أخ يا ولادي لو ترجع لبلاد، شو عنا هناك اراضي وبيارات موز وبساتين عنب وتفاح، رزق كثييير تركه الكم جدكم عبود، بس الله يفضح عرض اليهود..)، نحن اطفال نتلمض على تلك الصور شهية الالوان، وأمي في زاوية المنزل تهدب الاشمغة لبيعها عند حلول الربيع و براداتو، وتنصح ابي ان يخف شوي من مبالغاتو..خوفا على سقف المنزل من الانهيار، فأسقف القصيب تتفاعل مع سكانها وتصدر قرقعة وهمسا وحزنا وسرور، ليس كاسقف الباطون الصلد الذي يشبه صمت القبور.

يواصل ابي حديث الثراء والبساتين والأطيان، و جدتي عامله حالها مش منتبهة ومش هان، وتبحبش في جيب سروالها الابيض، عن سلاحها الابيض (موس صغير عمره 60 عام) لتقشر به تفاحة في يدها فيسهل عليها مضغها بلا طقم الاسنان)، لكن بعد عشرين عام، و حين مات ابي وجدتي، علمنا سبب عدم اكتراثها بقصص الاراضي والبساتين، فبعد الصلح مع اسرائيل، ارسلنا احد اقاربنا الى بلدتنا في فلسطين، لينكش لنا عن تلك البساتين، فقيل لنا ان جدتكم باعت كل شيء من زمااااان، واشترت بها كنافه نابلسية، وبقلاوة بالسمنة البلدية، وانفقت ما تبقى على الفاكهة والطعام..لكن وللامانة وليكون الواحد ضميرو مرتاح، فقد باعت ايضا بيت زوجها، واشترت به تفاح، دون التفريط بالمفتاح.

هنا، ايضا علمت سر صحتها القوية، وما تمتعت به طوال المئة عام التي عاشتها بالمرح والرقص على الانغام، كانت لها رقصة غريبة وشجية، تقف منتصبة بثبات، وتهز وسطها كهز النبات اذا اجتاحته النسمات، لكنها في سنواتها الاخيرة، شهدت عندنا اياما عصيبة و فقيرة، وضاقت نفسها (او لنقل معدتها) كثيرًا كثيرا، اذ لم يعد في المدينة بيوتاً ترابية تستدعي الاصلاح سوى بيتنا، ومع انقراض تلك البيوت، شحت السماء معها عن الامطار والوعود، فشردت جدتي عند بيت عمتي ذات مساء ، وكانو بحالة بؤس شبيه لنا، لكنها تفاجأت فور دخولها منزلهم، بصوت الموسيقى على غير العادة يردح بالتطريب، ومائدة كبيرة تضم كل صنوف الاطعمة والفاكهة والاطايب، اذ ربح ابن عمتي الجائزة الكبرى في سحب اليانصيب، فهزت حول المائدة، هزتين لا ثالث لهما، وانكفأت على وجهها، فوق جاط الفاكهة، لا حراك فيها، مسلمة الروح لباريها.
رحم الله جدتي، وغفر لها شراهتها ونميمتها، وحضر لها في الجنة وليمتها.
#ابوطراوة
*اللوحة. للفنان التشكيلي المفرقي المبدع هشام شديفات

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-