أخر الاخبار

*بدلة العيد*

*بدلة العيد*

غليتي هالقهوة مليح يا مرا؟ طيب، نظفولي حمام لضيوف وحطو بشكير جديد عشان العيد..وبخروو البيت، هسع بيجو المعيدين، ايدك يابا عن صحن هالمعمول خليه مرتب، ولكم وين المكتات وكاسات المي؟ غسلو أخت هالفناجين..شدو شوي.

نشاط محموم، بدأ يدب في ارجاء المنزل، صبيحة يوم العيد، انا وحدي مصدره، جلست بكامل هندامي في الصالة، ارقب زوجتي واولادي يحوسون على غير هدى، لا يعلمون للعيد معنى..لا الومهم..فهم من ثقافة اخرى، لم يعيشو تلك اللحظات التي عشتها في طفولتي، وبقيت خالدة في ذاكرتي، النوم مبكرا والاستيقاظ فجرا على ملابس جديدة، التجوال في الحارة قبل شروق الشمس، متوشحين بالمسدسات البلاستيكية (للذكور) ، والدزادين ومحابس الشعر الوردية (للاناث)، صوت المفرقعات في كل مكان، نطرق ابواب الجيران وغير الجيران بحثا عمن يعطينا نقودا (وهذا الخيار الانسب)، او حلوى فريدة المذاق (الخيار الثاني)، لندعو الى صاحب المنزل بالتوفيق والثبات، اما ان كانت العيدية (حبة ناشد رخيصة و ردية) نلقي بها في عرض الطرقات، وندعو لصاحبها بعدم التوفيق وعدم الثبات..

مرت ساعتان كاملات، وانا جالس وحدي اتأمل جاط المعمول الذي اعدته زوجتي بتوجيهات مني، ثمة ذبابة تحوس حوله.. الاولاد منهمكين في ارتداء ملابس جديدة اشتريتها لهم مؤخرا، ليعرفو معنى العيد، بدأوا بالتذمر والتململ، مطالبينني بتنفيذ وعدي الذي قطعته لهم ليلة البارحة، بأني سآخذهم الى مدينة الالعاب الجديدة، فور مغادرة الضيوف والمعيدين..

سرحت مجددا في تلك الايام الجميلة الخوالي، وتداعي الى ذهني، ذلك العيد الاكثر بؤسا في حياتي، حين كنت في سن الثالثة عشرة، وكدحت طوال اشهر الصيف في اعمال السخرة هنا وهناك، فتوفر لدي مبلغا من المال يربو على 20 دينار، اخذها ابي مني، وقال سوف افصّل لك بدلة واشتري لك ربطة عنق وحذاء وقميص، بدي اخليك تلمع لمع يا نيص، ومن يراك يظنك عريس..قلت حلو هاظا المطلوب يابا، وكانت اول بدلة في حياتي..اشترى والدي قطعة قماش اخترتها انا بنفسي لونها (كحلي غامق) ما زلت اذكرها كأنها الان، البلدة كلها لم يكن بها سوى ثلاث خياطين..واحد ختيار فلسطيني، مغلواني وبعرفش يفصل غير بدلات السفاري، تبعت النص كم مثل الفدئية، قلتلو يابا اعوذ بالله، شايف ما عندوو ولا زبون، نصهم ماتو والنص الثاني بالسجون، أو بعبدون، بعدين يابا هذا الخياط بعيونو غبش و بوجهو نمش، رح يطلّع شكلي بالبدلة مثل جورج حبش، انا يابا بدي تفصيلة شبابية، تليق بسحنتي البهية..قصدنا الخياط الثاني مسيحي اطرم، كمان قلتلو اعوذ بالله، هذا بيطلعني مثل ابرهة الاشرم..عصب ابي، ورمى قطعة لقماش في وجهي، وقالي روح دور عكيفك، ووين ما بدك فصلها، بس يا ويلك، و يا ظلام ليلك اذا بتخربها..

قصدت الخياط الاخير في البلدة..كان متخصص في تخيط ازياءنا المدرسية، وحافظ كل اللعبات الي بحبوها جيلي من الاولاد الزعرنجيه، وفاهم شو يعني شبوبية، خشيت عندو قبيل العيد بثلاث ايام، واذا الناس عندو كوام كوام..قلتلو يا عمي ارجوك بدي تعملي قطعة هالقماش بدلة وعلى كيف كيفك، قالي ارميها هون وتوكل وبعدين بنشوفك. إيه..طيب والمقاسات؟ قالي ما عليك..شغلتنا، نده ابنو يوخذ الكيس من ايدي، طلع من بين اكوام الستائر والاقمشة والازياء المدرسية المتناثرة في كل مكان، فا إبن هالحلال..عمل مثل المقبرة التي لا ترد ميتا حتى لو جاءها بشوال..فأخذ كل طلبات المدينة، قلم قايم.

ليلة العيد، ذهبت لاستلامها واذا بها على حطة ايدك، إيه ولك يا عمي ليش ما فصلتها..بكره بدي اعيد والبسها، وابوي غير يقبرني قبر، جايين قرايبنا من الضفة وعمان والجفر..(في الحقيقة ليس لدينا اقارب في الجفر بس لاجل المبالغة) قالي ما عليك تعال قبل صلاة العيد..على صلاة الفجر، واستلمها وبتكون جاهزه ان شالله..الليلة سهره صباحي ورح نخلص كل الزباين بإذن الله..

امضيت الليلة رايح جاي من قدام محلوو..بدي اشوف "مشيئة الله" كيف هالمشكل هذا رح تحلوو، المخيطة تحولت الى خلية نحل، هذا يصرخ ويقول وين بنطلوني يا بغل..وهذا يعربد ويقول هاظ مش قميصي يا سطل..فجأة لمحت زبالا اعرفه خابره (مهوي) جالس وراء احدى الماكينات يساعد في انجاز الطلبات..انا قلبي انطفى وبطلت اشوف الفظى، وقلت في نفسي يا ولد الشغلة اكلت... هوى.

حمدت الله ان ابي كان نائما ليلتها عند عودتي للمنزل فجرا، حيث حشرني الخياط في بدلة، بحلف يمين ما الها علاقة بقطعة قماشتي، قلتلو اللون مختلف، اسود مثل فروة العنز..قال يا ابني ما عليك هذا من اثر الطبشور والدرز، طيب يا عمي البنطلون شورت وواصل لركابي..قالي ما عليك هيك الموديل الشبابي..إيه طليت بالمراي عندو لقيت شكلي من تحت زي (الاخوان المسلمين) ومن فوق الجكيت وسيع ومرهدل زي السكرانين..وهو يهلل ويقولي ما شاء الله.. شو هالقيافة والنيافه..خزاة العين.

عند صلاة العيد صباحا..ارتديت فقط القميص والربطة على بنطلون البيجامه، وهربت من المنزل كي لا يراني الوالد.. رحت انا وجار الطفولة الذي ظل يشاركني بؤسي الدائم (يحيا احمد سرور) وقصدنا مزبلة المدينة النائية والناس تهلل وتكبر وتصلي وتسلم..ونحن هناك في (الكبات) امضينا يوم العيد في القمامة نتخمخم، ونبحث عن اي شيء ثمين ضائع، نبيعه و يعوض علينا هذه القساوة والحرمان..لكن دون جدوى..والتفتنا فإذا بجحشة تقف هناك وحيدة حالها كحالنا، امتطيناها وعدنا للحارة نزهو فرحين، رغم اجترارنا اذيال خيبة الامل الحزين.
*******
أوشك الوقت على الظهيرة، اولادي يأسوا مني، فخلعو ملابسهم ونامو حولي، انهيت العشرات من سجائري، وزلطت نصف صحن الحلوى من امامي، ولم يحضر اي ضيف بعد، شربت دلة قهوتي كاملة، دون ان اغفل مع كل فنجان احتسيه ان اردد : (اهلا وسهلا..اهلا وسهلا..تفضلوو..).. وباب بيتي لم يطرقه أحد..تساءلت لماذا تأخر المعيدون..عتبت عليهم كثيرا..ثم تذكرت انني في الغربة..وليس لدي قريب ولا صديق حميم..
*****
رغم اني اعمل اليوم مستشارا وميسور الحالي..واقطن في مجمع سكني راقٍ وغالي.. يدعى "حدائق المنتزه"..واجاور علية القوم من الاثرياء و القناصل والهلم لالي..لكنني خلعت ملابسي، وانكفأت على وجهي حزينا ونفسي مظلمه.. بعدما تأكد لي ان العيد مع صديق في مزبله، خير من عيد بلا صديق في منتزه..
#ابوطراوة
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-