جدي "عاشق النور" الذي اختفى في ليلةٍ "فيهاش ظو قمر"
لم يرزق جدي بولد غير ابي ، اذ انجبت له (جدتي صاحبة الطعام والكلام)، عشرة من الغلمان، كلهم ماتو صغارا (ما بعرف شو كانت تعمل فيهم الله يصلحها) وعندما ولد ابي اخيرا، ولم يكن لهما طاقة على تربية الاطفال، جاءتهم جارتهم المسيحية ببشارة، وقالت انها رأت في منامها هذا الطفل (ابي) الراقد في مغارة، خادما لرب النصارى، جدي وجدتي ما صدقو مصاديق الله بحلم هالمحروسه، وراحو فورا على مدينة السلط وتبرعو به للكنيسة.
في مقتبل العمر، امتلك جدي (ببورا) لطحن القمح، وكان الأوحد في قرى نابلس جميعها، وكان من الوارد جدا ان يصبح اثرى الرجال لو كان عنده اي اهتمام بالمال او العيال، لكن مخه (الله يسامحو شمال) كان مشغولا فقط بالانغام وبالجمال والدلال، يعمل طوال موسم حصاد القمح، لينفق كل ما لديه مرتحلا وراء النور والغناء والصدح والمزح، وكانت فرق النور في تلك الاثناء، تجوب القرى..رقصا وغناء، قبل عهد التلفاز والسينماء، فأينما حلو او ارتحلو..كان ذلك وطنه و محلو..ان كان ميسورا جلس يبرّم لهن بالشنب، وان كان طفرانا، جر حماره يحمل لهن الماء والحطب.
كان جدي، رجلا هازلا غير "جدي"، مزيح ويحب الراحة بعد ان يستريح، شعاره في الحياة، الباب الذي يأتيك منه الريح..سدو واستريح. ونهجه الغياب ملياً، والعودة بطيا..على انبساط الريح..داحل بهالحياة ولا بهموووش، اذكر ان جدتي قد أقسمت لي يوما برب العروش، انه غاب عنها مرة ثلاثة شهور، وجاءها بثلاثة قروش، لا تكفي لشراء رطلٍ من العدس المجروش.
وعلمت من جدتي أيضا، وعبر ما كنت اسمعه منها من خراريف، انه هجرها سنة 1940، ولم يره احد بعد ذاك الخريف، فقالت لي وهي منشغلة بقضم رغيف، ان السبب كان لامر تافه جدا وسخيف، قلت لها بترجي، هاتي تا نشوف شو سويتي فيه يا حجه..قالت فك عني، الله يرضى عنك وعني، خليني بأكلي متهني.
لم تكن تحب سيرته قط، غير الشهية كلحم البط..وتعتبره واحدا من النور او الزط، عندها توجهت الى ابي لأستكشف بعض الأسرار، وكان منسدحا في حوش الدار، يشرب الشاي وينكش بالمنخار، فرجوته رجاء حار، لأفهم منه بالزبط شو الي صار.
قال لي يا ولدي حسنا تعال واجلس جنبي جلسة القرفصاء، ولا تغلبني بأسئلتك المعروفة بالغباء، (.. إن جدك هذا قد عاد ذات مساء، من عمله مكدودا جائعا مستاء، فوجد جدتك قد لهطت كل الحساء، وكان جدك عصبيا وقليل الكلام، فقال لها قومي يا ملعونة الوالدين هاتي اي طعام، ففزت للمطبخ خوفا من مزاجه البتار، ووجدت بيضتين قلتهما على وهج النار، غير انها سهت عن المقلاة قليلْ، وانشغلت بالثرثرة مع جارتها في حديث طويل، فاحترقت المقلاة، واستحالت للون الشاة. كانت من جدك تخاف، فلفت نفسها باللحاف، لكنه حين استطال الانتظار، واشتم بأنفه رائحة البخار والشحبار، وعلم بما دار، دلف الى المطبخ، ورأسها بالمقلاة شرَخ، غادر برهة ثم عاد "يتفتف"، ليجد الدم ينزف، و دموعها تذرف، وشاهد يدها اليسرى تمسك بالرأس المشقوق، ويدها اليمنى تلهم ببقايا البيض المحروق.. فأصبح جدك من هول المنظر مصعوق).
.طبعا، عذرت جدي، حين علمت بعدها انه باع (الببور) والتحق بالنّور ذوات الأعين الحور، فهن ممشوقات نشيطات رشيقات، مائلات متمايلات، لا نمّامات ولا فجعانات، واكيد يا عمي كل وحده لديها رمش هزاز، وبخدها غماز، وجدتي اشبه ما تكون بجرة الغاز..
تواردت بعض الانباء، بعد ان هجر جدتي او لنقل من بلدتها ووجهها قد "خلع"، بين قائل انه رآه مع النور يضرب بالصاج و بالودع، وقائل انه شاهده في قبرص يصطاد البجع.. إلى قائلٍ انه في "هنجاريا" يدعو الغجر الى التقوى والمحبة والطراوة و الورع.
#ابوطراوة