أخر الاخبار

الجندي المذهول..

الجندي المذهول..

في احدى الكتائب تلا جهة ناعور والحمّر..امرونا القادة ذات مساء ان نستعد لصبيحة اليوم التالي، لتنفيذ مسير طويل اطلق عليه (درب المعاضل) نسير فيه فجرا راجلين من "العدسية" حيث نقطة التجمع، الى منطقة الاغوار.. بمسافة تقرب 26 كيلو ووقية..
انا بالمشي ذيبكم.. بس ما اكونش حامل 20 كيلو بضاعة بين بندقية ويطق (بطانيات) و (جوعب) مخازن الرصاص.. وخلافه.. وكنت في العادة لمن اتعرض لواجبات شاقة من هالنوع..اعمل حالي ميت أو مسهول.. بس هالمره قلت يا ولد روح مع هالناس تا نشوف شو بسووو..

سرينا الفجر وقائدنا النقيب قضاها يصرخ بوجوهنا (خذو معكم تجهيزاتكم كامله من المطره للخوذه لكلشي..فاهمين؟ بدي اياكم تبيضو وجهي بين السرايا والكتايب الاخرى التي ستجتمع هناك سامعين؟ انت هناك يالي بتلعب بذانك سامع..؟) قلتلو معك سيدي..انا لمن اتشجع لأمر معين بتعرفونيش..رحت لملمت كل العهدة الي سلمونا اياها وقت التجنيد، وكرفتتها بحقيبة الظهر، ونتعتها عظهري وقلت يا مسّهل..رغم اني عمري ما دعيت بهالدعوة الا يصيبني اسهال..
وصلنا مجهدين بعد طول نهار شاق.. وتجمعنا على هضبة مرتفعة قليلا في الاغوار..وفجأة اطلت علينا سيارة روفر/56 وعليها علم عسكري يرفرف على بوزها.. عرفناها جميعا من بعيد..سيارة قائد اللواء كلو.. إيه وهاظا شو جابووو هسع.. كانو كل الضباط يخشونه ويترجرجون من مجرد ذكر اسمو .. فما بالكم بالعسكر الكحيانين امثالي.. ولعلمكم بهذاك الوقت (قبل السلام مع جيرانا اعداء السلام) كان علم اللواء يهز هز، واكثر هيبة من "نورمان شوارزكوف" بغزو العراق..مش مثل اليوم..اي قبل فترة ما بزل عليكم، كنت سايق على اتوستراد الزرقا-عمان..وطليتلكم وراي بهالمراي شفت سيارة جيش عليها علم وطايره طيار..صراحة بسرعة زحت من وجهو بلاش يكون عندو اشي طارئ، وقلت أكيد صاير إشي في البلد.. كملت طريقي عمهلي، وبعد خمس دقايق لقيت السيارة العسكرية نفسها واقفة قدام معرش بطيخ والسايق نازل وحامل بيدو شرحة تين..
المهم.. وصل قائد اللواء..وبعد ما بهدل الضباط كلهم قدامنا واحنا مبسوطين..جمعو كل المشاركين بالمسير بيجي الف عسكري..ووقف قائد اللواء الضخم قدامنا تقول ماشالله جاموس واقف قدام شوية ناموس.. وحاط عصايتو لمبوزه تحت كتفو.. ويا ويل الي كان يغزززو فيها بصدرو او كتفو..يقعد شهرين يتوحوح..صرخ في وجوهنا بدو يشوف ويتفقد مدى جاهزيتنا.. طبعا التفتيش معروف، يا بدو يفتش على مخازن الرصاص التي نحملها على جنابنا، يا على قناع الغاز.. وهذول الشغلتين كان البعض ما يجلبهم معو نظرا لوزنهن الثقيل.. لكنه لم يسأل عنهما.. وطلب منا طلبا غريبا لم يكن بحسبان احد..قال مين فيكم جايب معو (براسو..) – هي مادة كالاسيد بعلبة معدنية صغيرة لتلميع الشعار وخلافه - ولا حد رفع ايدو.. وبحلقت بوجوه الضباط قادة السرايا الذين اصطفو خلفه وكل واحد منهم يؤمل راجيا ان يخرج جنديا من اتباعه يملك هذه المادة..وكان التنافس بينهم على اشده..بدهم يبيضو وجهم قدام اللواء الي ما بعجبو العجب.. ومحسوبكم خابر حالي كرفتت كل شي عندي بحقيبة الظهر دون تدقيق بمحتوياتها فقد كنت مثالا للتعاجز وقلة لمروة..نكوشت فيها هيك، واذا بي اجد "لبراسو" مرمي بقاعها..كيفت والله، و رفعت إيدي سريعا وصرخت بأعلى صوتي صرخة مدويه سمعها رابين في فراشو.. (نعم سيدي..)
طلب الي القائد العملاق الخروج امام الطابور كله..مررت امام الجميع مزهوا فخورا امشي كمشية ارمسترونج عالقمر..ولمحت وجه قائد سريتي الذي كان لا يطيق زقمي ، محبورا فخورا مبهورا مثلي واكثر.. اذ لم يأمل مني يوما ان افعل شيئا ايجابيا يفيد البلد..
راح اللواء يهز يدي ويقول.. (هذا هو الجندي المثابر ..الانموذج.. رمزالإخلاص،فخر الوطن، وشرف الجندية، تعلمو منو يا عرصات..)..

صراحة انا سخسخت من المدح وحسيت حالي بعظمة الرفيق ملك ملوك افريقا وساحل العاج معمر القذافي..خاصة حين راحت عيوني تبحلق بالرفاق وتقول (من انتم..).

ولعلمكم هذا القائد قلما يمدح انسان بحياتو، كنت قد شهدت له موقفا قبل سنوات، حيث وقعت بين يديه، بس ربكم حميد ما شافني يومها، هاظ طلعت أنا ودكتور كركي بسيارة اسعاف "كارتر" نودي مريض معنا للمدينة الطبية، أنا ركبت ورا وهو ركب قدام لأنو كان ضخم وشكلو مثل اللوح، وأقرب الى الثور منه الى الدكتور، المهم وقفنا على جنب الطريق نشتري قهوة وانشوخ.. وكان الدكتور شالح طاقيته ويدخن، والا هو قائد اللواء بشحمو ولحمو وعلم سيارتو برفرف فوق راسنا، نده للدكتور الي معي وقالو شو بتسوي ولك؟ الدكتور إنلجم وصار يهذرب بالحكي، مد عصايتو اللواء من شباك سيارتو ونخزو في كرشو، وسمعتو بيقول للدكتور وانا متخبي جوا السيارة "أنقلع من قدامي يابو راس.." كنت بدي امد راسي واحكيلي كلمه أدافع عن دكتوري، بس لمن سمعت كلمة أبو راس.. لبدت وخششت راسي.

تشاء الاقدار في العام التالي وبنفس موعد التمرين الدوري "درب المعاضل" أن نستعد لهذا المسير مجددا، الشباب كلهم أخذو معهم "براسو" وما خلو إشي يعتب عليهم، بدهم يقلدوني قال..محسوبكم عبيت جعبي تبعت الذخيرة بالبسكوت وقلبي مطمئن لما لدي من رصيد مشرف عند هذا القائد حال قدومه، وقلت في بالي مستحيل يجينا كمان السنه هو شو فش وراه شغله وعمله غيرنا، بس احتياطا مني أخذت عدة تنظيف البندقية من قطع قماش صغيرة ومدك و زيت تشحيم وغيرها.. وطول الطريق فرحان ومطمئن وأوزع عالزملاء بسكوت كأني رايح على عرس..إصطففنا فوق الهضبة نفسها، ولاح لنا العلم من بعيد نفسه، ونزل القائد يتهادى كالضبع، وأكيد ناسي سحنتي قد ما بمر عليه عسكر كل يوم، راح يفتش على الطابور تفتيش تقليدي وطلب ان نفتح الجعب المخصصة لمخازن الرصاص، كلهم جعبهم مملوءة بالرصاص الا انا اقترب مني وشاهد روزم البسكوت مكان الرصاص، عيونو نطو من راسو مثل توم وجيري، وسحبني من ايدي أمام الطابور كلو، وقال هذا مثال الجندي السيء، نموذج الانحطاط، خزي الوطن وعار الجيش..الخ

بصراحة من يومها وانا مذهول وبطلت اعرف انا نموذج شو بالضبط، العام الماضي كنت مفخرة واليوم صرت مسخرة.
#ابوطراوة

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-