أخر الاخبار

العمل الخيري الإنساني في قطر..عنوان حضاري


العمل الخيري الإنس
​اني في قطر..عنوان حضاري

 

 

بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة

 

تقدم المؤسسات الخيرية القطرية من خلال علاقتها البالغة الانسجام بحكومة بلادها، أنموذجاً للشكل التكاملي الذي تكون عليها الحالة الخيرية في المجتمعات، ليؤدي بذلك أغراضه السامية في خدمة مصالح الوطن والمواطنين داخل المجتمع، ورسم الصورة المشرقة للدولة من خلال المشاريع الخيرية والتنموية العابرة للحدود.

 

فقطر، تلك الدولة الصغيرة المساحة قد تجاوز عطاؤها محيط الجزيرة العربية ليعيد رسم حدود دولة الخير، التي لم تعد تتسع لها المنطقة والإقليم، لتصل بهذا العطاء إلى فقراء يئنون في بلاد ما وراء البحار، لتشكل خلال سنوات قليلة مرحلة جديدة تقوم على تكريس رؤيتها في اعتبار العمل الخيري الركيزة الأساسية للمبادئ الإنسانية التي توارثها القطريون عن الآباء والأجداد، والنابعة من التقاليد والأعراف العريقة المستمدة من القيم الإسلامية السمحاء.

 

وبلغت قطر مصاف كبريات الدول المانحة في العالم، في سنوات قليلة، متجاوزةً من سبقوها منذ عشرات السنين، وذلك من خلال سياساتها في رسم إستراتيجيات المرحلة، وامتلاكها إمكانيات التطوير والتحديث، والرؤية الحكيمة التي مكنتها من استيعاب التجارب الخيرية في المنطقة والعالم، وفهم مفردات العمل الإنساني العالمي من خلال التزود بكافة الوسائل الحديثة التي باتت تشكل متطلبات عصرية لمن يتطلع إلى بلوغ القمة.

 

وكغيرها من دول المنطقة التي مر قطاعها الخيري بتغيرات خلال العقود الماضية طرأت على طبيعة الأجهزة الحكومية التي تولت ملف القطاع الخيري فقد تنقَّل الإشراف على الجمعيات الخيرية في قطر بين وزارة الخدمة المدنيَّة ووزارة الأوقاف ووزارة الشئون الاجتماعيَّة، ورغم قلة عدد مؤسساتها الخيرية مقارنة بدول المحيط الخليجي، وبعض الدول العربية الأخرى، إلا أن ما تقوم به هذه المؤسسات من أدوار أثمرت إنجازات تنموية وخيرية فاقت إنجازات أعداد مضاعفة من الجمعيات في دول أخرى، فقد وصلت جهود المؤسسات الخيرية القطرية إلى أكثر من 67 دولة استفادت منها أكثر من 260 جمعية حول العالم خلال الأعوام الماضية.

 

ومكّنت حالة الانسجام بين المؤسسات الخيرية القطرية وحكومتها، التي جرى التطرق إليها سالفاً، من استيعاب المتغيرات التي طرأت على العمل الخيري الإسلامي بعد إعلان الحرب عالمياً على الإرهاب، والفكر المتطرف الذي يعيث في الأرض فساداً، من خلال تأسيس "هيئة تنظيم الأعمال الخيرية" في العام 2014 بموجب قرار أميري، لتقوم بمهمة مراقبة وتنمية ودعم الأعمال الخيرية والإنسانية.

 

ولم يثر القرار الأميري مخاوف القائمين على العمل الخيري من حدوث تداعيات ربما تكون غير محسوبة، كما حدث في بلدان أخرى اتخذت قرارات أثرت سلباً على القطاع الخيري، بل شكّل القرار جرعة إضافية من الشرعية القانونية، بدأت تسهم في تقوية موقف المؤسسات الخيرية في الخارج، وذلك بفضل إبعاد أية شبهة قد يختلقها المتربصون بالعمل الخيري الإسلامي، وتسحب منهم الذرائع بعدما تكفلت الهيئة بعملية الإشراف على جمع التبرعات وتنسيقها ومراقبتها بصورة دقيقة، وإلزام كافة الجمعيات بالخضوع لرقابة الهيئة، وتزويدها بالمعلومات والمستندات اللازمة والمطلوبة للقيام بعملها وأداء واجبها الرقابي بحسب البروتوكول الذي قامت على أساسه الهيئة.

 

ويتيح إنشاء الهيئة ترتيب أوراق قطاع العمل الخيري، ليكون نموذجاً يحتذى لدى دول العالم الإسلامي، بهدف توحيد ملف هذا القطاع وعدم تشتيته بين أجهزة حكومية مختلفة، ربما تتنازع في قراراتها وأولوياتها، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى التضارب في المصالح، وبالتالي تعطيل المشاريع والبرامج التطويرية، حيث استفاد واضعو المواد القانونية لهيئة تنظيم الأعمال الخيرية في قطر من تجارب عالمية ناجحة كالتجربة البريطانية على سبيل المثال.

 

وقد عبرت جهات خيرية عدة عن ارتياحها لقرار تأسيس الهيئة من خلال تأكيدها على الجهود الكبيرة التي تُبذل في دولة قطر لتطوير العمل الخيري من خلال سنّ التشريعات والقوانين المنظمة وتهيئة بيئة مُناسبة للعمل الإنساني، فقد جاء على لسان الشيخ حماد عبدالقادر المدير العام لـ(منظمة الدعوة الإسلامية) خلال تصريح صحفي، بأن "السنة الماضية حفلت بالعديد من الإنجازات في مجال العمل الخيري والإنساني القطري تجلت بصورة واضحة في إنجاز منظمته لـ 638 مشروعًا إنشائيًا بتكلفة فاقت 44 مليون ريال قطري قصدت المنظمة من خلالها تشييد المؤسسات التعليميّة والصحيّة والاجتماعيّة. منوهًا بالدعم الكبير الذي حظيت به هذه المشاريع من قِبل المُحسنين والمُتبرعين بدولة قطر".

 

وتتمتع "منظمة الدعوة الإسلامية"، ومقرها الرئيسي في السودان، تلك المؤسسة العريقة في إنجازاتها على الصعيد الإنساني والخيري بمساحات واسعة أتاحت لها حرية التحرك على الساحة القطرية، ما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك إيمان الدولة القطرية بسمو العمل الخيري وتجاوزه لحدود الدولة الوطنية، وبأنه عمل قيمي وأخلاقي يمنح للإنسان الهوية، وليس العكس.

 

ولا يخفى على المتتبع لأداء المؤسسات الخيرية القطرية في الميدان خروجها على الأنماط التقليدية لنوع المشاريع التي تطلقها في مختلف المناطق التي تعمل بها، فإلى جانب اهتمامها بالمشاريع التقليدية كإفطار الصائم، وكسوة العيد، وكفالة اليتيم، وإطعام الجائع..وغيرها من المشاريع، وبقائها ضمن أجندة عملها باعتبارها تأتي في إطار التكليف الرباني للمسلمين، حيث وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ضمن نصوص صريحة وواضحة، فقد أضافت إلى أجندتها مشاريع هدفت لإحداث التغيير النوعي بما يشبه الثورة في حياة المحتاجين بعدما يتحولون إلى أشخاص منتجين يقتاتون مما تصنعه يداهم، وذلك من خلال التنويع في المشاريع الخيرية التنموية وتقديمها في أحوال كثيرة على المشاريع الإغاثية، لأهمية هذه الإستراتيجية الخيرية على المدى البعيد في تنمية المجتمعات برمتها، وتطويرها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، في إطار برنامج تطوير مرحلي يبدأ بالإنسان وينتهي بمجتمعه.

 

كما يعتبر اهتمام المؤسسات الخيرية القطرية بفئات بعينها نوع من الخروج عن الأنماط التقليدية لأشكال العمل الخيري الإنساني، فقد أطلقت مؤسسات خيرية بارزة مشاريع تعنى بفئات بعينها ككبار السن، والأطفال المرضى، والطلبة المحرومين من التعليم لا سيما الأطفال منهم، وحفظة القرآن الكريم، إضافة للمهجرين نتيجة الحروب والكوارث.

 

وسعت الجمعيات القطرية إلى تنفيذ مشاريعها بشكل شمولي يعتمد على دراسة الاحتياجات الانسانية لكل منطقة، ومن ثم تحديد أولوياتها، حيث استفاد من هذه المشاريع القاصي والداني من الفقراء  والمحتاجين دون تمييز تجاه عرق أو دين أو معتقد فكري، فلم يترك الدعم الخيري القطري باباً من أبواب الخير إلا وطرقه في كافة بقاع الأرض تحقيقاً للمنفعة، ورحمة للبشرية المعذبة.

 

وقد كان من بين أبواب الخير التي طرقتها المؤسسات القطرية باب فلسطين، حيث أنجزت العديد من المشاريع الكبيرة خلال الأعوام القليلة الماضية، تنوعت ما بين الإغاثي والتنموي مستهدفةً كافة الفئات المعوزة في المجتمع الفلسطيني الذي يعيش أبناؤه معاناة خاصة ومزدوجة نتيجة الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته المستمرة بحقهم منذ عشرات السنين، على رأسها الحصار الجائر على قطاع غزة منذ ما يقرب العشر سنوات.

 

كما أن هذه المؤسسات لم تغفل لحظة عن معاناة الأشقاء من اللاجئين السوريين في مختلف أماكن لجوئهم، لتطلق في سبيل تخفيف معاناتهم ومسح دمعة الأيتام والأرامل والعجزة منهم مشاريع على مدار العام منذ المحنة التي ألمت بهم، ناهيك عن تقديم الدعم للأشقاء في اليمن، وكذلك الأشقاء الروهينغيا في بورما الذين يعانون القتل والتشريد والتمييز والقهر في بلادهم، إضافة لمشاريع في البوسنة والهرسك..وغيرها من الدول.

 

وتظهر عبقرية تنوع المشاريع الخيرية، سواء الإغاثي منها والتنموي جلياً في أداء مؤسسات العمل الخيري القطرية، فقد موّلت قطر الخيرية العديد من المشاريع الإنتاجية استفاد منها عائلات فلسطينية خلال الأعوام القليلة الماضية، منها مزارع الأغنام والأبقار والدواجن، وتمليك ماكنات الخياطة، وتجهيز المحلات التجارية، وقوارب الصيد..وغيرها من المشاريع التي كان لها الأثر الواضح في إحداث التغيير الجذري لدى الأسر المستفيدة، وتحول أفرادها من معال إلى معيل.

 

وتقدم قطر الخيرية المثال على تطور المؤسسات ونموها بفعل إرادة العمل الخيري المتجذرة في نفوس أبناء قطر، إضافة لاجتهاد وكد روادها من أجل إنجاح هذه المؤسسات، حيث كان لمؤسسها (رائد العمل الخيري الشيخ عبدالله الدباغ) بصمته الإبداعية في إحداث النقلة النوعية وفتح الآفاق أمام مجالات عمل المؤسسة وهيكلية مشروعاتها. والذي امتلك منذ بداية تأسيسها رؤية تتجاوز محدودية المشاريع إلى هيئة خيرية تجمع أكبر طيف من المشاريع الخيرية المتنوعة التي من شأنها أن تخدم كافة الشرائح المحتاجة.

 

أما الهلال الأحمر القطري فيمكن وصفه بقصة نجاح دولة الخير وشعبها المعطاء، في تقديم نفسها كمدرسة لتعليم أساسيات وأصول العمل الإنساني، كما تعبر عن طموح متنامٍ سقفه السماء، تمثّل بشكل واضح وملموس في الوصول لمستحقي الدعم حتى في أحلك الظروف، فقد عوّدتنا راية الهلال الأحمر القطري أن تكون أول الرايات الإنسانية الخفاقة في ميادين الحروب والكوارث، وطواقمها الإغاثية والطبية من أوائل الواصلين لنجدة المتضررين والمنكوبين.

 

كما أن سيرة تطورها من جمعية أهلية تطوعيةفي بداياتها إلى هيئة إنسانية عالمية "تستهدف الإنسان في كل مكان دون تفرقة أو تمييز على أساس اللغة أو الجنس أو العرق أو الدين، وهي رسالة عالمية لا تخضع لقيود ولا ترتبط بحدود" بحسب تعريفها لهويتها، أكسبتها المصداقية والمهنية العالية لتتمكن بالتالي من تقديم الدعم الشمولي لمنكوبين يتواجدون في عشرات الدول من العالم، من مساعدات غذائية وغير غذائية، وإيواء عاجل، ورعاية صحية، وخدمات المياه والإصحاح، وغيرها.

 

ولا يمكن لأحد أن ينسى الجهود الجبارة للهلال الأحمر القطري في مد يد العون لكل محتاج من أبناء الأمة والأخوة في الإنسانية، كما لا يمكن نسيان إسهاماته تجاه قضية أمته المركزية في الجانب الإنساني وذلك من خلال مشاركته في بناء وتجهيز العديد من المستشفيات في الضفة الغربية وقطاع غزة.

 

وسجلت مؤسسات خيرية أخرى تميزها في مجال العمل الإنساني المؤسسي من خلال إسهام رجال الأعمال من أهل الخير في قطر بتأسيس جمعيات خيرية تقوم بأدوار مهمة وفاعلة في هذا القطاع الحيوي وبما يخدم مجتمعها وأمتها، وتندرج ضمن هذا المفهوم مؤسسة الشيخ ثاني بن عبدالله للخدمات الإنسانية (راف)، التي اشتقت اسمها من مفاهيم الرحمة والعطف، متخذة من "رحمة الإنسان فضيلة" كشعار ومنهاج عمل لها، حيث كان لها بصماتها الإنسانية الواضحة في قريب المناطق وبعيدها، كقطاع غزة، وأماكن تواجد اللاجئين السوريين في تركيا ولبنان والأردن وداخل سوريا، وموريتانيا، والسودان، واندونيسيا، وسيريلانكا، إضافة للمشاريع التي تستهدف مجتمعها المحلي.

 

كما أن مشاريع مؤسسة "عيد الخيرية" تميزت بطابعها الذي يسعى لبلوغ حالة من التكامل، من خلال مخاطبته لكافة الفئات المستحقة للدعم، حيث يتجلى ذلك من خلال برنامج "قطوف" الذي يحوي بين طياته توفير الدعم لفئات مختلفة كطلبة العلم، والأسر الفقيرة، وبناء المساجد، والدعاة، فضلاً عن مشاريعها التي تنفذها داخل قطر كمشروع حفظ النعمة، وكسوة العيد، وعلاج المرضى، وإفطار الصائم..وغيرها من المشاريع.

 

من جانبها تسعى مؤسسة قطر Qatar Foundation التي تضع تحقيق الريادية كهدف نصب عينيها، إلى تنمية المجتمع القطري من خلال برنامجها القائم على التعليم والبحوث وصولاً لإنجاز مشروع اقتصاد دولة قطر المرتكز على المعرفة، والذي عبرت عنه سمو الشيخة موزة والدة أمير دولة قطر، التي ترعى عمل المؤسسة بشكل مباشر، بقولها "ازدادت قناعاتنا رسوخاً بضرورة تعزيز هذا التوجه حتى نكون شركاء فاعلين فيما أضحى يعرف بالنظام التربوي العالمي الجديد، وهو نظام يقتضي أن لا يهتم فقط بمتطلبات السوق وإنما يعترف بأن التعليم حق للجميع، ومن ثم تمكين طلبة العلم حيثما كانوا من أدوات الإبداع والابتكار واكتساب المعرفة والخبرة وممارسة المسؤولية".

 

وتستمر قطر من خلال حيوية العطاء لدى رجال الأعمال فيها، وأهل الخير، في انتاج المزيد من مؤسسات الخير، ومن نماذج مؤسسات العمل الإنساني الحديثة نسبياً "مؤسسة الأصمخ للأعمال الخيرية- عفيف"، التي يؤكد رئيسها الدكتور غانم الحمادي، على رؤيتهاالقائمة على "الاغناء والاستغناء المستدام من قبل ذوي الحاجة والفقر، من خلال إيجاد بدائل تنموية وعملية تعمل على تنمية القدرات لدى تلك الفئة".

 

إن تجربة النجاحات التراكمية لقطاع العمل الخيري في قطر لا يمكن فصلها عن النهضة الشاملة التي تشهدها البلاد منذ بداية التسعينيات، والتي طالت مختلف القطاعات كالاقتصاد والإعلام والرياضة والبحث العلمي..وغيرها، حيث يعتبر القطاع الخيري رافعة من بين تلك الروافع التي قدمت صورة قطر الإنسانية والمزدهرة إلى العالم كأنموذج ومثال لاختصار المسافات والمراحل لإنتاج مشروع نهضوي حقيقي شامل، ساهمت فيه المؤسسات الخيرية والإنسانية بدور كبير من خلال أدائها الرفيع، بشموليته وتكامليته، وتلبيته للاحتياجات والتطورات على حد سواء.


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-