في تصحيح منهج تقدير الموقف- منير شفيق
الأربعاء، 27 نيسان/أبريل 2016 09:08 م
لا لَوْمَ على من أخطؤوا في تقدير الموقف خلال الخمس سنوات الماضية، سواء حين استمروا في قراءة العلاقات الدولية، كما لو استمرت بلا تغيير أساسي بالنسبة إلى ما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، أو بعد انتهاء الحرب الباردة خلال العقدين 1990-2010. فالمتغيّرات التي حدثت كانت في بداياتها ولم تتكشف عن سماتها التي أصبح يتحدث عنها الكثيرون الآن، بمن فيهم الذين أخطؤوا في قراءتها طوال الخمس سنوات الماضية تقريبا.
ولا لَوْمَ على الذين أخطؤوا في إدارة السياسة وتحديد المواقف عندما وجدوا أنفسهم ينتقلون إلى مستوى من القوّة والتمكين والسيطرة، ولم يسبق لهم أن كانوا على مثلها. بل كانوا في حالة الاستضعاف، أو الحصار، أو التعرّض للتهديدات والمؤامرات. فالانتقال من حالة الاستضعاف، أو الحصار، إلى حالة القوّة والتمكّن، ولا سيما إذا جاء فجأة، أو بسرعة لم تكن منتظرة، كما حدث للكثيرين منذ 2011 إلى اليوم، يُغري بالوقوع السهل في الغرور، أو الإعجاب بالكثرة، أو بالتصوّر أنهم أصبحوا في وضع مَنْ لا غالبَ لهم من الناس.
لعل إيجاد العذر للقسم الأول أي الذين أخطؤوا في قراءة ما حدث من تغيير في معادلات موازين القوى الدولية والإقليمية والعربية والداخلية، يرجعان إلى قوّة سمة التقليد في العقل الإنساني الذي لا يَسهُل عليه التقاط الجديد في الوقت المناسب، أو في وقت مبكّر. وهذا يحدث حتى في الحياة العادية إذ يتأخر الآباء والأمهات سنوات للاقتناع بأن أبناءهم وبناتهم قد كبروا ونضجوا ولم يعودوا كما تعوّدوا على معاملتهم حين كانوا صغاراً. وهذا معنى مَيْل العقل الإنساني للتقليد أو الجمود إن لم يكن "البلادة".
وهنا يجب ألاّ يُسْتَبْعَد عنصرا الهوى والغرض في التخلف عن التقاط الجديد كذلك. ولعل إيجاد العذر للذين أخطؤوا في إدارة السياسة وتحديد المواقف عندما انتقلوا إلى القوّة والتمكين بعد استضعاف، أو حصار، فوقعوا بين براثن الغرور والإعجاب بالكثرة، وظنوا أن لا غالبَ لهم اليوم من الناس، يرجعان إلى الطبيعة البشرية ألاّ تُتْرَك على سجيتها من دون يقظة، وبُعْد نظر، أو من دون الحذر من آفة الغرور والإعجاب بالكثرة والظن بعدم انقلاب الحال الذي هم عليه اليوم. وهنا يجب ألاّ يُسْتَبْعَد عنصرا الهوى والطمع. لأنهما يُعمِيان البصر، وحسن تقدير الموقف.
ما حدث من تغيّرات في موازين القوى العالمية لم يحدث له مثيل منذ مائة عام. فالمتغيّرات التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى كانت كبيرة ولكنها سرعان ما استقرّت على تحكّم دولتَيْن عُظميَيْن هما بريطانيا وفرنسا فضلاً عن إرهاصات لنشوء قوى كبرى منافسة: ألمانيا واليابان والاتحاد السوفياتي.
ولكن المعادلة الدولية استقرّت عموما تحت قيادة بريطانيا لتدخل مرحلة جديدة في النصف الثاني من الثلاثينيات (القرن العشرين) إلى الحرب العالمية الثانية. أما بعد الحرب العالمية الثانية فتولّت أمريكا قيادة العالم الغربي وبرز دور الاتحاد السوفياتي لتستقر المعادلة الجديدة على ما عُرِفَ بالثنائية القطبية. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي وانتهت الحرب الباردة توقع كثيرون أن نظاماً عالميا أحاديّ القطبية الأمريكية سوف يتشكل.
وكان تقديرا خاطئا عمليا، وإن بدا في الظاهر في أعين أولئك الكثيرين عكس ذلك. فقد أثبتت التطوّرات خلال العقدين 1990-2010 أن أمريكا لا تستطيع أن تفرض نظاماً أحاديّ القطبية حتى حُسِمت هذه المعادلة بفشل استراتيجية جورج دبليو بوش 2001-2010 عسكرياً وسياسيا: فشل تكريس احتلال العراق وأفغانستان وهزيمة الكيان الصهيوني في حربَيْ 2006 في لبنان و2008/2009 في قطاع غزة، واندلاع الأزمة المالية العالمية 2008، وسقوط "مشروع الشرق الأوسط الجديد".
لقد تمثلت المعادلة التي نشأت بعد سقوط مشروع النظام العالمي أحاديّ القطبية ومنذ نهاية 2010، بفقدان أمريكا وحلفائها في الناتو الهيمنة العالمية، ومن ثم دخول الوضع العالمي الفوضى واللانظام حيث تعدّدت الأقطاب الدولية والإقليمية ببروز الصين وروسيا والهند وجنوبي أفريقيا وتركيا وإيران والبرازيل. وذلك إلى جانب ما اندلع من ثورات عربية ضدّ محور الاعتدال العربي وتعاظم دور المقاومات في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان فضلاً عن الحراكات الشبابية وانفلات الإعلام الرقمي وتحرّك ثورات مضادّة وظهور حركتَيْ تنظيم الدولة والنصرة وكذلك انتشار الإنقسامات والصراعات المذهبية والجهوية والعرقية وحروب غير مباشرة في ما بين دول إقليمية وعربية.
الأمر الذي حوّل البلدان العربية والإسلامية مسرحا لصراعات حادّة تقف على رمال متحرّكة، ونشوء أوضاع جديدة غير مستقرة. وبهذا تكون موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية قد تطوّرت وراحت تتطوّر ضمن سمات لا سابق لها. مما يفسّر ما جرى من أخطاء حين استمر البعض بقراءة العلاقات الدولية، كما كانت عليه سابقاً من دون اعتبار لما استجدّ من موازين قوى أثّر في سياسات كل الدول، إما تراجعاً وتردّداً، وإما هجومية وتوسّعا، وفقا لكل حالة.
فهذا الاتجاه في قراءة موازين القوى وصل فيه الحدّ إلى اعتبار سياسات تركيا أو السعودية مثلاً امتدادا للسياسات الأمريكية. بل وصل الأمر بالبعض لأن يقرأ السياسة الأمريكية انطلاقا من السياسات السعودية أو تركيا فيما كانت السياسات الأمريكية تتراجع وتتردّد ولا تستقر على حال، كما أصبح مسّلّماً به الآن من المذكورين أنفسهم. وأخذوا يتحدثون عن خلافات أمريكية-سعودية عميقة. ولم يعودوا يطابِقون بين السياستين. ولكنهم راحوا يفعلون ذلك بطمأنينة، ومن دون أن يطرف لهم جفن، ومن دون أن يتذكروا تحليلاتهم منذ أمد قريب.
إذا كان من المقبول، أو حتى من غير الملوم، أو كان من المعذور أن يخطئ المرء في قراءة المستجدّات، وكان من المحمود والمطلوب أن يتراجع المرء عن الخطأ ويصحّح الموقف، فإن من غير المفهوم أن يفعل ذلك، وكأن شيئاً لم يكن، بل وبراءة الأطفال في عينيه. فلا يعترف، ولو بتلميح، أو لباقة بأنه أخطأ.
وكذلك الحال، إذا كان من المقبول والمعذور وحتى من غير الملوم، أن يقع طرف من الأطراف، أفرادا وجماعة، في براثن الغرور، والإعجاب بالكثرة، والشعور بالغلبة الدائمة حين يهبط عليه التمكين ويجد نفسه قويّاً بعد استضعاف أو حصار، فإن من غير المفهوم إذ تدور عليه الدوائر، وتتحرّك تحته الرمال أو يدخل في المآزق أن لا يراجع خطأه فيَعتَبِر ما حصل مؤامرة وتدبيرا في الظلام وليس نتاج غرور وإعجاب بالكثرة وظنّ بالغلبة الدائمة. مما دفعه إلى إقصاء شركائه السابقين والاستفراد بأكل الكعكة كلها.
وبكلمة، إذا كان كل شيء من حولنا قد تغيّر نتيجة ما حدث من تغييرات في موازين، وقد نجم عنه تراجع قوّة أقوياء، وتقدُّم قوّة ضعفاء، وانقلابات في موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والداخلية فإن من الضروري أن يعيد المرء النظر في كل ما كان يعرفه سابقاً عن نفسه وعن غيره، ومن ثم يسعى ليجعل تقديره للموقف وكذلك مواقفه أكثر تطابقاً أو اقتراباً من الواقع الجديد كما هو. فكل خطأ في تقدير الموقف يؤدّي إلى خطأ في الممارسة والسياسة. وكل خطأ في الممارسة والسياسة يؤدي إلى فشل أو إلى تخبّط وارتباك وفُقْدان صدقية.
ولهذا أصبح من الضروري أن تُغيّر نقاط الهجوم على أمريكا عما كانت عليه في السابق. وكذلك إقامة الدعوى على أيّ خصم وفقا لوضعه الجديد وارتكاباته، ولا حاجة إلى اتهامه بالأمركة مثلاً إذا لم يكن ينفذ سياسة أمريكية. لأن الحقيقة ستظهر لا محالة. ومن ثم تصبح الصدقية موضع تساؤل، والأهم تكون سهام النقد أو الخصومة لم تضرب على الهدف الحقيقي.
وأن الإشكال نفسه بالنسبة إلى من لا يُحسِن تقدير الموقف عند الانتقال إلى القوّة والتمكين. إذ يؤدّي الخطأ هنا إلى خطأ، أو خطيئة، في الممارسة والسياسة، وتكون العاقبة وخيمة. فما أصعب من السقوط من علٍ.
إذا كان بالإمكان أن نبحث عن أعذار للأخطاء آنفة الذكر خلال خمس السنوات الماضية فقد آن الأوان أن يُصارَ إلى التعلّم منها، وتصحيح تقدير الموقف بالنسبة إلى كل شيء ابتداءً من أنفسنا ومروراً بحلفائنا وشركائنا وانتهاءً بأشدّ أعدائنا. فعندئذ سنعرف كيف نخرج من أزماتنا وورطاتنا، فلا نحفر إذا كنا في حفرة، ولا نَغْترّ إذا امتلكنا القوّة والتمكين فنتدافع ونساوِم شركاءنا حيث وَجَبَ الدفاع وتَحتَّم التشارك والتوافق، ونهاجِم حيث وجَبَ الهجوم خصوصا على الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى.