أخر الاخبار

في شارع محمد علي .. صور


لكي يُنشّط الإنسان روحه، لا بد من سياحة قصيرة له، في تاريخ الأماكن، لكي يتأمل معالمها القديمة، دونما اكتراث للضجيج. ففي القاهرة، لا تجتذبني آثار الأسر الفرعونية، قدر ما تجتذبني مصر الإسلامية في كل العصور. يبدأ تاريخ العمران الحديث، الباقي في هذه المدينة من العشرية السادسة من القرن التاسع عشر، ومن عهد الخديوي إسماعيل. قصدت اليوم شارع محمد علي، الذي أصبح شارع كل شيء. لم يتبق من وظيفته التاريخية، سوى جزء في منتصفه. فهو يمتد لألفي متر، فيه ورش تصنيع الآلات الموسيقية ومعارضها. المقهي الشعبي، هنا، يقدم لك، بجنيهين، كوب الشاي معطراً بورق النعناع. النادل العجوز، كان جندياً شارك في حرب 73. أكوام من مخلفات كل شيء، وضجيج طاغٍ، وعربات من كل حجم، وحمالون، كلهم يقطعون بين الشارع وزمنه الأول، عندما كان شارع الفنون، لهواً أو إبداعاً. كان مصمم الشارع، هو جورج هوسمان نفسه، مصمم التخطيط الحالي لمدينة باريس، ومصمم شارع ديدوش مراد في الجزائر، وعدداً من شوارع القاهرة. فقد استعان به الخديوي إسماعيل، وطلب منه أن يمحو طابع القرون الوسطى، بحواريها المغلقة، من وسط القاهرة. 

قصدت بعد عصر اليوم، شارع محمد علي، وزرت معملاً صغيراً لصناعة آلة العود. أسعدتني المفارقة، عندما هممت بتصوير الصانع. فقد تذمر في البداية من التصوير، والسبب أنه محامٍ يترافع في المحاكم، لكنه يمارس هوايته في صناعة آلة العود. اكتملت المفارقة، عندما ترافقنا معاً لأداء صلاة المغرب في المُصلى القريب. فالإيمان لا يدحض الموسيقا.

كان معي عبد الجواد قدوحة، الزائر من النمسا. أسعدته لحظات الاختلاط بالباعة والعابرين. يبدأ الشارع من مسجد النصر الأثري، في ميدان القلعة، وينتهي بميدان العتبة. الطراز المعماري الفرنسي بالبواكي الحجرية، لا يزال قائماً لا تمحوه تبدلات الزمن، وكذلك مسجد قيسون. اختفى حمام يشتك، وتحول الى مخزن للبضائع، وتبدل سوق السلاح القديم، فبات موضعاً لبيع الأسماك النيلية. 
في المطعم ذي المناضد الممدودة في الشارع، تناول صاحبي غداءً متأخراً، فيما القطط، بكل الألون تحوم حوله. قدوحة يأكل والقطط تتحفز لالتقاط ما يرميه لها الآكل. 

في حديث مع نادل مقهى "المُشير"، انفتحت خزانة الذكرى. لقد خلع المقهى على نفسه اسم المشير الأول في البلاد، قبل ستين عاماً، في وقت انتعاش الآمال والزهو بمرحلة النهوض الوطني. الجندي المقاتل، الذي كانه الرجل، أصبح نادلاً في مقهى شعبي. هكذا هي الحياة، والأرزاق أقدار.












تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-