أخر الاخبار

الحرية وشكل الوحدة العربية


الحرية وشكل الوحدة العربية


         الحرية ليست شعاراً فارغاً يطلق ، ولا كلاماً يلقى لإرضاء أحد ، أو لامتصاص نقمة أحد ، الحرية شعار وممارسة ومسؤولية ونقد بنّاء ، وكما أن لكل شئ حدود فللحرية حدود أيضاً ، وزهير الريس يستكمل حديثه حول الحرية ومفهومها ، بحيث لا تصبح هيكلاً كلامياً ، ولا شعارات
تسوّد الصفحات البيضاء ، ولا خطباً ، وتفوهات .
         يقول ما هي الحرية ؟ وأية حرية ؟ وما موقفك من حرية المواطن وليس فقط حرية الوطن ؟ وما معنى حرية المواطن ، وأية حريات يجب أن تعطيها للمواطن ؟  وبعد أن تلتزم بهذه الحريات ، ما هو موقفك الديمقراطي من السلطة ؟ ومِن تداول السلطة ؟ وتوازن السلطة ؟ وحدود السلطة ؟
         أين تنتهي حرية الفرد وتبدأ حرية المجموع ؟ وأين تبدأ حرية المجموع وتنتهي حرية  الفرد ؟ كل هذه القضايا يجب ألا تترك لاجتهادات مجتهد ، فيأتي عهد تكون فيه الحرية صفراً ؟ وعهد آخر تكون فيه الحرية غير مسؤولة .
أعتقد بأنه من الأشياء الأساسية التي أدت إلى تراجع الحركة العربية أن المفاهيم كانت وما تزال غامضة ، الوحدة هل هي وحدة كونفدرالية أم وحدة اندماجية أم وحدة اتحادية ؟ هل هي وحدة شاملة ؟ هل هي وحدة جزئية ؟ القومية هل هي مهمة الدولة والنظام ؟ أم هي مهمة الحزب فقط ؟ وأن الحزب يستطيع أن يتصرف مرة باعتباره مسؤولاً عن الدولة ، ومرة أخرى باعتباره مسؤولاً عن حركة قومية ، ومرة يقف موقفاً فيه مراعاة للمصلحة القطرية ، ومرة أخرى يفضل المصلحة القومية ؟
وأين تقع الحدود بين المصلحة القطرية والمصلحة القومية ؟ وإذا كانت الأمور كذلك فيمكن أن نقول أنه لا يجوز للمناضل القومي أن يتسلم سلطة في بلد قطري أصلاً ، وليبق جانباً إلى أن يرى أنه قد آن الأوان للاكتساح الشامل ، وفرض الوحدة العربية بالأسلوب الذي يراه مناسباً ، والأسلوب الأنسب في نظري هو الأسلوب الذي انهار فيه سور برلين ، لكن عندما يتأكد أنه لا توجد قوة تستطيع الوقوف أمام هذا المد الهائل ، وأمام هذا التيار الجارف ، وأمام هذا السيل الكاسح ، عند ذلك يقول أريد السلطة فليأخذ السلطة وليتفضل بأخذها .
         ولكن هذا أصلاً لن يكون إلا إذا كان عند الجماهير وضوح في الرؤية ، عندما نعرف أننا نثور من أجل سلطة ديمقراطية ، من أجل سلطة ثوارها على استعداد لأن يتخلوا عنها عندما ترى الجماهير ألا تعطيهم الأصوات في الانتخابات ، وعندما يقف الثوري موقفاً واضحاً جداً من التحديات الأساسية ، وفي اعتقادي أن تحدي السلطة هو من أهمها ، بمعنى أن تحدي السلطة يكون بالوصول عن طريق الجماهير ، وألا تستمرئ السلطة الجلوس على الكراسي المريحة ، وألا تعطي نفسها الحق بالاستمرار رغم إرادة الجماهير .




الجماهير العربية لن تكون خانعة

 الرصيد الثوري والتاريخ النضالي الطويل هو الذي يبقى للثوري ، لا ينازعه في هذا التاريخ وهذا الرصيد أحد ، حتى وإن أنكر البعض الأدوار،  وحاولوا الوقوف في وجه الحقائق ، لن ينجحوا أبداً لأن هذه الفئة الثورية المناضلة تظل كذلك حتى وان تركت مواقعها في الحكم ، وتظل كذلك بعد موتها ، لأن أحدا لا يملك أن يقتل أو يغيب التاريخ وحقائقه ، ومع كل الآراء والأفكار الجديدة التي تنظر لكلمة الثورة والثوري بأنها كلمات من الماضي ويا لطيف .. إلا أنهم لن يستطيعوا إيقاف هذا اللفظ عند زمن مضى أو حقبة انتهت ، حتى وأن انتهت بالانكسار فجعلت منها كلمة ممجوجة ، وهي اللفظة الممارسة التي حملت كل عذابات الجماهير العربية في مرحلة تحررها الوطني ، في الفترة التي وصل فيها عبد الناصر بعد ثورة يوليو 1953م .
إن زهير الريس كان يرى بألا يعطي الثوري نفسه الحق بالاستمرار رغم إرادة الجماهير ويقول في هذا المجال :
أعتقد أننا جميعاً نسير في طريق خاطئة كأفراد ، وكجماعات ، وكفصائل مناضلة ، وكشعوب ، وكأمة . بمعنى أنه لا بد من إعادة النظر في أصل هذه الأمور ، وفي كل هذه المواقف ، والتحدث من منطلق المفاهيم الأساسية المحددة . ما هو موقفنا من القضية الفلسطينية ؟ وما هو مفهوم السلام من وجهة نظرنا ؟ وهل نحن على استعداد لتقبل أندلس جديدة ؟ كبيرة أم صغيرة ؟ أو أننا نفرح لمجرد أن إسرائيل تتراجع ، وأنها لن تصبح إسرائيل العظمى ، فإسرائيل سنة 1956م احتلت قطاع
غزة وسيناء وتراجعت .
قلت سائلا : هل الزعيم هو الذي يصنع الأحداث أم أن الأحداث هي التي تخلق الزعامات ؟ وعليه هل ننتظر خروج زعيم في الوطن العربي يحول هذا المسار المنكسر عن الوحدة العربية ، أم نأمل في تحرك الجماهير العربية التي قد يبدو لنا في الظاهر أنها لا تتحرك أو لا تريد أن تتحرك .
قال : هذا مثل أسئلة قطاع صفدي : وأعتبره سؤالاً ميتافيزيقيا ، والجماعة في الاتحاد السوفييتي سقى الله أيامهم بالخير ، كانوا يطرحون مثل هذه الأسئلة عن دور الفرد ودور الجماعة ، وأنا أرى أن الأمور تؤثر في بعضها البعض ، والإنسان غير منفصل عن زمانه ، ولا عن مكانه ، ولا عن تجربته ، ولا عن ثقافته . فالإنسان منتوج اجتماعي . والزعيم بارز ومؤثر . وكون مجتمعنا منتظر منه أن يقدم زعماء فهذا دور كل مجتمع حي ، وكون جماهيرنا عليها واجب معين فأتصور أنها قادرة على حمل هذه المسؤولية ، أُنظر إلى الانتفاضة وكل هذه التضحيات الرهيبة العجيبة ، الولد المستعد للموت ويا "دوب" شطب بوية سيارة الجيب الإسرائيلية أليست هذه بطولات ؟! لا يتصور أنه يمسك حجراً ، يتصور أنه يحمل أخطر القنابل في التاريخ ، والتي لم يخترعها أحد بعد ، ولم تنجزها التكنولوجيا الحديثة بعد .. كلها لا تساوي في نظره الحجر ، وينطلق باندفاع كي يؤدي دوره ويؤدي واجبه ، هذا الاندفاع برغم العقلانية وبرغم الفهم إلى أين ؟ وكيف ؟ وبكل هذه البساطة وكل هذه البراءة لا يجوز أن نقول أن الجماهير خانعة ، والجماهير التي ملأت شوارع القاهرة لا يمكن أن نقول أنها خانعة ، هناك أشياء تحرك الناس وأنا أرى القيادة العربية عندما تقوم وتطلب من الناس أن تؤدي دورها ، بشكل واع ، وبشكل محسوس وملموس ، فلا بد أن تجد تجاوباً ، أنا أرى الآن بعد غياب عبد الناصر ، بعد غياب الزعيم ، أن السر هو في المؤتمر ، مؤتمر مبسط ومحدود ، من بعض المهتمين ، يتناقشون في هذه الأمور ، وألا يكون كل واحد في قطر بعيد لا يلتقي مع أحد ، إذا اجتمعوا سيشكلون حولهم مجالاً مغناطيسياً مؤثراً ، تماماً كما حدث بعد انتصار ثورة الجزائر ، وصار الحديث عن الثورة الفلسطينية وضرورة تحرير فلسطين ، وقامت منظمة التحرير الفلسطينية رغماً عن كل شئ ، وبعد أحداث كوبا رأيت كيف تغيرت الأجواء في أميركا اللاتينية ، وبعد انتصار الحركة الإسلامية الخمينية على شاه إيران رأيت اندفاع الحركة الإسلامية في العالم .
هذه أمور طبيعية . وأي مجموعة من المثقفين تتفق على برنامج عمل . ورأي موحد وموثق ، ويصبح لهم شئ مكتوب على ألا يكون تكراراً لكل ما سمعنا في الماضي . نريد شيئاً جديداً ، نريد تجسيم الحلم العربي كما يقول أحمد عبد المعطي حجازي الشاعر المصري المعروف ـ في مرثية المالكي1 .. أصداء أغنية ، عدل وحرية ، الوحدة الكبرى ، وحلم غد .
 
ـــــــــــــ
هو عدنان المالكي أحد قادة سوريا ضد الاحتلال
 الفرنسي وله ميدان باسمه في دمشق .



" الباني " حاول تحقيق الوحدة العربية


عندما قامت دولة الوحدة بين القطر السوري والقطر المصري ، واتفق على تسمية هذه الدولة الوحدوية ؛ الجمهورية العربية المتحدة ، تم الإعلان عن الرئيس ناصر رئيساً لدولة الوحدة من منطلق الزعامة ، والاقتدار الذي يملكه ويستمده من شخصيته ، التي لاقت إجماعاً عربياً نحو الوحدة والتحرر ، ومن موقع الشقيقة مصر وقدراتها ، واعتبر هذا في ذلك الوقت موقفاً مشرفاً في ذات اللحظة للزعيم السوري ؛ الذي آمن بالوحدة العربية ، وتنازل عن طيب خاطر وقناعة لعبد الناصر ، ورغبة منه بأن تكون هذه التجربة رائدة ناجحة على طريق الوحدة العربية الشاملة ، كانت تلك مفاهيم ذلك العصر القريب ، فما مفاهيم أيامنا هذه ؟ هل هي على ذلك المستوى من الإيثار ، أم أنها بمستوى تكريس القطرية ؟
يقول زهير الريس : أنا لا أطلب الوحدة العربية من أجل السيطرة عليك ، ولن أسومك الخسف وأفرض عليك رغباتي العجيبة والغريبة ، أبدا وإطلاقاً . أنا أريد الوحدة العربية من أجل أن تتحرر أنت ، ومن أجل أن تملك أنت مصيرك ، ومن أجل أن تكون أنت سيد إرادتك ، وسيد حياتك ، وأن تصنع مستقبلك بإرادتك المتحررة ، وبنفسك ، وعندما يرى المواطن العربي كل هذه الأمور أمامه فما من إمكانية للوقوف في وجه المد المتجدد . أنا أؤمن بالتجدد وأؤمن بالتجديد ، وأؤمن بأمل التجدد وعمل التجديد .
قلت له : تجربة الوحدة كانت قصيرة ومحدودة ومتعثرة ، إننا نرى أن الكثيرين من الكتاب الذين تناولوا هذه التجربة بالنقد والتحليل ؛ يعتقدون بأن شعارات الوحدة العربية ، والقومية العربية ، لم تُنجز لنا أي شئ ، وأن علينا البحث عن خيارات أخرى ، وأشكال أخرى . هل هذه مقولات صحيحة خاصة وأن كثيرين  يتفقون على أنه لم تعط الفرصة الحقيقة للوحدة وتجربة الوحدة ؟
قال زهير : لا أفهم كيف تكون هذه المقولات صحيحة ، ولنسلم جدلاً أن هذا صحيح ، وأن العرب لم يضبطوا إذن فما الحل ؟ فالعرب بطبيعة مولدهم ينتمون إلى قومية معينة ، والقومية المعينة بطبيعة وجودها يجب أن تحقق ذاتها سياسياً عن طريق إقامة دولة ، فالإرادة العربية لم تقم ، والإرادة العربية لم تتحرر ، إذن هم يتحدثون عن أي فشل ؟ فأين لم تضبط لما الإنجليز خدعونا في الثورة العربية الكبرى ونفوا شريف مكة وجازوه جزاء سنمار وحاربوه ؟! الإنجليز خدعونا عندما ثرنا على الأتراك فوجدناهم قد وعدوا الصهاينة بفلسطين ، والوحدة العربية .. في زمن عبد الناصر كانت إحدى عشرة محطة إذاعة مأجورة تهاجمها ، وتهاجم نظام عبد الناصر ، ودولة عبد الناصر ، والاستعمار كان له مصلحة مباشرة في تفكيك هذه الوحدة وفصم عراها ، نحن كنا أضعف من هذه الوضعية أيام إبراهيم باشا حيث كانت نفس القضية ونفس الخصم ، فالإنجليز فرضوا وبالقوة وبالأسطول الإنجليزي في ذلك الوقت حماية الإمبراطورية العثمانية ، وحاصروا السواحل السورية بمراكبهم العسكرية ، واضطر إبراهيم باشا إلى الانسحاب بعد 8 سنوات ، وليس بعد 3 سنوات من الوحدة بين مصر وسوريا ، هذه التجارب كلها هل معناها أننا لسنا عرباً ؟! وأننا لسنا موجودين ؟! إذن إبراهيم باشا الذي من أصل ألباني وأبوه من " قولة " جاء وقال أنا حضرت إلى مصر ، وشربت من مائها ، ولفحتني شمسها ، فأصبحت عربياً ، وأنا أريد أن تتحقق الوحدة العربية . إذا ألباني يتكلم هذا الكلام أنأتي نحن ونقول لا ؟ أبداً وأن علينا أن نبحث عن طريق أخرى !!
نحن الفلسطينيين ماذا نستطيع أن نفعل إزاء هذه القوة المسيطرة الجبارة المدعومة وهي قوة إسرائيل ، التي تفرضها أميركا شرطياً في الشرق الأوسط ، وتعطيها كل الإمكانيات وكل القوة ، وماذا يمكننا أن نفعل بانفصالنا عن مصر،  وعن الأردن ، وعن الشام ؟! أنا أذكر في عام 58 أيام كنا في اتحاد المحامين العرب في لجنة فلسطين ، أننا عندما كنا نطرح تحرير فلسطين بشكل كيان مستقل ، رد علينا أحد الشباب من أحد الأقطار العربية المشاركة قائلاً : يا أخي تحرير فلسطين هذه مهمة كل العرب ، لا نريد أن نرى الأردن كياناً مستقلاً ، ولا لبنان كياناً مستقلاً ، ولا سوريا كياناً مستقلاً ، بلاد الشام طول عمرها مع بلاد العراق في كيان واحد ، وإذا حدث لهذه المنطقة الحد الأدنى من التغيير فالعراق والشام كيان سياسي واحد ، مندمج في دولة الوحدة الكبرى ، أو متحد كونفدرالياً مع كيانات عربية أخرى صغيرة متضافرة ومجتمعة ، في مثل هذا الكيان _ الوحدة _ يقول زهير ـ هي أمل ، وهي شعار ، وهي نشيد ، وهي حلم ، لكنها في نفس الوقت حقيقة ميلادك ، وحقيقة طبيعتك البشرية ، وحقيقة لغتك ، وحقيقة تاريخك ، حقيقة امتداد أرضك ، ليست اختراعاً ، وليست شخصا خطر في باله قصيدة ، وأبدع إبداعاً أدبياً ، أو ثقافياً ، أو خطر في باله رسم خريطة سياسية معينة ، هذه أشياء أنجبتها تفاعلات أرضنا بتفاعلها مع تاريخنا ، وتفاعلها مع إنساننا في تفاعلها مع أعدائنا ، الذين فرضوا أنفسهم علينا،   وقاومناهم ، وانتصرنا عليهم أحياناً ، وانتصروا علينا أحياناً أخرى ، فنحن بكل تاريخنا ، بانتصاراتنا ، بضحايانا ، نمثل هذه الحقيقة . وكوننا الآن في الحضيض هذا لا يعني أننا سنبقى في الحضيض إلى الأبد .

 

الحزب الواحد


كثير من الدول حكمها شخص واحد ، ودول كثيرة حكمها حزب واحد ، وبعض الدول وجدت أن الأنسب إيجاد صورة جمالية وتجميلية على الواقع ، فآثرت التعددية ، لكنها تعددية تسير بين خطي سكة حديد لا يجوز الخروج على أي خط ، وبعضها رأى في التعددية الخروج الأرحب إلى التنافس ، وتبادل السلطة بما يخدم الجماهير ، وفي بعض الدول صارت التعددية عبئاً ، وتشرذماً ، وانحناء لرغبات وضغوطات أحزاب صغيرة ، تمثل بعدد قليل جداً من النواب ، ويضطر من يؤلف الحكومة إلى النزول عند اشتراطاتها ، التي غالباً ما تكون قاسية ، ومؤلمة ، وتخرج المسيرة عن الخط المعتاد .
ترى ، أي النماذج السابقة يصلح لجماهيرنا العربية ، الواقعة في مواجهات وصراعات مصيرية تهدد مستقبلها ووجودها وكيانها ؟
يقول زهير الريس في مسألة الحزب الواحد : أنا لا أميل إلى قضية الحزب الواحد ، ولو أنه يوجد من أشار إلى أشياء ضرورية في هذا المجال ، أنا أميل أكثر إلى مسألة التجربة الجبهوية ، لكن من مشاهداتي في الوطن العربي في العقود الأخيرة يتضح أن الجبهة لا تمارس عملها ، وعملياً هي صورة مجملة من صورة الحزب الواحد ، وهي عبارة عن ديكور مجمل أمام الناس ، ويضفي شرعية على دكتاتورية الحزب الواحد ، هكذا كان التطبيق في أكثر من قطر ، لذلك أنا أقول ، ويكاد يكون إيماناً عميقاً وعاماً ، أن التعددية أصبحت ضرورة ، فالحزب الذي يصل إلى السلطة يصبح بيده إمكانيات ، ويصبح في يده أرزاق وفرص يقدمها للناس حوله ، والناس تؤيده ، وإذا وجد الناس مجالاً لهذا ، فإنهم يعطون مزيداً من التأييد ليعطيها الحزب ـ حزب السلطة ـ مزيداً من الامتيازات ، ويوزع عليها هذه المنح ، وهذه العطايا ، فأقول بخجل : أنا ألوم الجماهير في أنها تتخلى وبسرعة ومختارة عن حقها في الديمقراطية ، وحقها في المشاركة ، وحقها الأهم في النقد والتعديل وتعديل المسار، وبدون حق النقد وممارسته ، فالأمور دائماً تسير في طريق الفساد ، وفي الفساد ـ والعياذ بالله ـ لا ينفع الحزب الواحد ، ولا التعددية نافعة ، ولا المجتمع نافع ، تكاد الديمقراطية تساوي في مسيرتنا السياسية قضية الفساد ، وهذه من المسائل الرئيسة التي أشرت لها في الأسئلة حول المسار نحو الديمقراطية ، أنا أشترط أن يكون العمل الديمقراطي مزوداً بالأدوات التي تمكنه من قمع الفساد وقهره والقضاء عليه في أوليات نموه ، قبل استشرائه ، بمعنى أني لا أملك الجواب ولا زلت أبحث وعلينا جميعاً أن نبحث ، وأن نضع في اعتبارنا التجارب الكثيرة التي حدثت ، إذ سرعان ما تعني التعددية أن أي سفارة أجنبية تمتلك الصحافة ، أو صحيفة ما ، أو تمتلك حزباً ما ، وأن صاحب الشيكات الفلاني صار له جماعة ، عندها تقول بئست هذه الديمقراطية ، لكن هل هذه معناه أنني مع الديكتاتورية إطلاقاً لا ، أنا مع الديمقراطية التي تحترم الإنسان ، وحرية الإنسان ، وحق الإنسان وإنسانية الإنسان ، وكرامة الإنسان ، وتحمل الإنسان مسؤولياته كإنسان مسؤول عن مصيره ، وعن بلده ، بمعنى أن الديمقراطية مسؤولة عن محاربة الفساد ، ومسؤولة عن وضع نظام محاسبة هو جزء لا يتجزأ منها ، لا ديمقراطية بلا محاسبية ، محاسبة للفرد نفسه ، ومحاسبة للحاكم ، ومحاسبة للجماعة .
قلت : الحاكم يريد أن تظل السلطات في يديه ، ولا يريد أن يتنازل عنها ،  وإذا أعلن عن قيام الحزب الواحد ، فهو امتداد لهذه السلطات ، هل يمكن أن يمارس الحزب الواحد السلطة ويكفل حرية التعبير وحرية المحاسبة ؟
قال محدثي : كل من يحكمون بالحزب الواحد يضعون هذا الكلام في أول ديباجة دساتيرهم ، لكن من الناحية العملية لا يحصل ، فقط أعطني السلطة ، ولما ثاني يوم تفتح فمك تعاقب ، فعندما تُعطى سلطات النظام الشمولي بدون أية ضمانات للحريات انتهينا ، فالكلام الجميل عن ضرورات النظام وإقامته ، وضرورات المجتمع وتغييره ، وضرورات البناء وتحقيقه ، تتطلب وتقتضي ذلك ، ونحن نتكفل بالعودة إلى طريق الصواب وإلى التعددية وطريق الديمقراطية فيما بعد .. وحلني متي تأتي هذه ال فيما بعد .  




             
البداية الصحيحة أم زوبعة فنجان


سقوط بيريس ، وصعود نتنياهو ، ومحاولاته تغيير المبدأ الذي انعقد مؤتمر مدريد بناء عليه ، الأرض مقابل السلام ، والانصعار نحو زيادة وتوسيع وتكثيف المستوطنات ، وعوامل ومسميات أخرى كثيرة في لاءات السياسة الإسرائيلية الجديدة ، أدت بالمقابل إلي بدايات التحرك العربي ، من لقاءات ثنائية وثلاثية ورباعية ، ومؤتمر القمة وما تلاه من بيان ختامي ، وبداية تحول في الإعلام العربي ضد المستجدات ، واستشعار خطر النكوص عما اتفق عليه ، كل هذا  يؤكد أن الطرف الآخر ما يزال تحكمه مقولات توراتية وتوسعية ، للدراية بضعف الطرف المقابل ، وإن كان ضعفاً مبالغاً فيه . ويؤكد في ذات الوقت أن ما يقوم به العرب من لقاءات وتسويات للخلافات ، وشن الحملات الإعلامية ، والانتباه إلى الأخطار القادمة ، وعرقلة التطبيع ، وخطوات أخرى قد تكون غير معلنة ، تؤكد هذه الأمور كلها ، تساؤلاً ظل يلح على الذاكرة العربية كلما ألم بها وجع أو مهانة .. هل هي البداية الصحيحة أم زوبعة في فنجان سرعان ما تنقضي وتزول ؟! فلا تترك أثراً ، ولا تغير أمراً .
إن كل ما نشرته حول حديثي الطويل مع زهير الريس اتضح منه دعوته لتأصيل  وتجميع ورفد كل ما من شأنه أن يرفع رأس الأمة عالياً ، قلت أسأله .. عودة إلى المؤسسة العربية التي تطمح أن توجد وتضع برنامج العمل العربي .. ما هو تصورك لطبيعة هذه المؤسسة ، ولهذا المؤتمر ، ولطبيعة المجتمعين فيه ؟
أجاب : أفترض أن يكونوا مجموعة من المناضلين العرب المثقفين ، ولديهم الانتماء والالتزام ، ليس شرطاً أن يكونوا من حملة الشهادات الأكاديمية العالية ، ولكن أن يكون لهم تاريخ نضالي ، ورأي متميز ، ويقدم كل واحد منهم وجهة نظره فيما يجب أن يكون ، ويقدم كل واحد وجهة نظره في تحديد المفاهيم الأساسية للحياة العربية الحديثة والمعاصرة ، والطموحات العربية وتجسيدها ، وكل واحد يقدم وجهة نظره في كيفية الوصول إلى هذا الهدف ، وأن يكونوا قوة مؤثرة ضاغطة تدفع في طريق إيجابي ، والوحدة لا يمكن أن تكون بالرضى ، أنا عن كل الحكام العرب ، لن يوجد مثل شكري القوتلي ويقول اتفضل يا عبد الناصر، الآن كل واحد يقول تريدون وحدة عربية ؟! حسناً ، فلأكن أنا الأمين العام ، وحلوا عنا . لذلك أرى أن التحويم حول هذه الأنظمة مضيعة للوقت ،                                      
علينا أن نقول لكل منهم : في نظامك أنت حر ولكن لن نسمح لك بأن تكون ضد الوحدة العربية .
أريد أن أعود بالذاكرة إلى المؤتمرات العربية التي انعقدت في باريس ، في بدايات الحركة القومية الحديثة قبل انطلاقة الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي ، المجتمعون في باريس لم يتجاوزوا اثنين وثلاثين رجلاً ، لكن أثرهم ما زال إلى اليوم هو الذي يعطي أصداءه ، أنا أتصور عدداً قليلاً من المفكرين العرب الذين يريدون عمل حركة عربية بهدف إنشاء الحركة العربية ، وبهدف تجديد الحركة العربية ، لقد تمت أربعة مؤتمرات انعقدت في تونس وبيروت وسموها مؤتمرات القوميين العرب ، منذ السطر الأول للقرارات قالوا نحن لسنا حركة ، فما دمتم لستم حركة فما هي أفضالكم ؟! وماذا تريدون ؟! كذلك فلان أو فلان من المشاركين ما الذي عملته في تاريخك وبأي حق تسمي نفسك من القوميين العرب وأنت لم نسمع عن دور قومي لك ؟! أو رأي قومي لك ؟! أو موقف قومي عربي إطلاقاً . فمن أين اخترعوك ووضعوك في القائمة ؟!
نريد حركة تبحث في المفاهيم ، يجب أن نفهم موقفك من الديمقراطية ، وإذا اتفقنا على الديمقراطية ومفاهيمها ؛ وإذا اتفقنا على الحرية ومفاهيمها ؛ وإذا اتفقنا على التحرر الوطني ومفاهيمه ؛ وإذا اتفقنا على الكفاية والعدل ومفاهيمهما ، أعني الاشتراكية شكلها وتطبيقها وبرنامج التطبيق ، وما الذي يؤمم وما الذي لا يؤمم ، ولماذا من الضروري رفع شعار الاشتراكية في وطن مثل الوطن العربي ، وفي بلاد نامية مثل بلادنا العربية المتخلفة ، فالتحول الاشتراكي والتنمية وجهان لعملة واحدة في الوطن العربي ، وأن العدل مكمل لقضية الحرية ، فمن هنا أنا لا أستطيع أن أسقط قضية الاشتراكية ، ولا أن أأوجلها .

                                       



                               
لا أحد يطرح فكرة الحزب الواحد


قلت : وما الذي يضير الحزب الواحد الحاكم إذا أعطى الحريات في النقد البناء والتوجيه والمحاسبة ؟!
قال : أنا لا أرى أن الحزب الواحد يمكن أن يعطي ما تطلب ، وأنا لا أستطيع أن أهمل تجارب الإنسانية كلها ، كل التجارب التي رأت الحزب الواحد لم تر غير القمع ، فلماذا نحاول ثانية وقد ماتت تجارب الحزب الواحد ، فهي غير موجودة في الدنيا الآن إلا عند الصينيين ، بل صار ينظر إلى الحزب الواحد على أنه دليل تخلف ، ويعني أنه لا يوجد أناس متقدمون اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً ، ولا يوجد متطورون خارجون من إطار العالم الثالث وما يزالون يطرحون فكرة الحزب الواحد ، فدعنا في طرحنا منذ البداية لا نطرح أساليب العالم الثالث التي تدمغنا منذ البداية بالتخلف ، فنحن نريد التعددية مثل العالم ، وكما الناس ، وكما البشرية ، ويظل في التعددية مشكلة ، كيف تضمن عدم ضياع الاستقلال الوطني وتصبح أنت بنفسك أتيت بالناس الجاهزين ليكونوا في خدمة قوى خارجية ، هذه من مشكلات التعددية ، ثم كيف تضمن أن الأحزاب لن تأخذ بوسائل فاسدة ولن تفسد الحياة السياسية ، هذه مشكلة تظل موجودة سواء في الحزب الواحد أم في الأحزاب المتعددة ، فعلينا أن نبحث وأن نضع الأسس التي من شأنها أن تكون ضوابط وحوافز ودوافع ؛ تحفز كل الناس ليمارسوا الرقابة ، والرقابة الذاتية ، وتحفزهم ليمارسوا المنافسة البناءة الجيدة التي تقود إلى الأفضل ، كما يقولون لنا بأن المنافسة في السوق تقود إلى الأفضل ، وإلى وجود السلعة الأجود ، وأن  التعددية السياسية هي غاية من غايات الديمقراطية ، وهدف من أهدافها .
ويبقى أن الديمقراطية التي يطلبها أي إنسان مشروعة ولازمة وضرورية ، ولا يجوز التخلي عنها ، وهو مطالب بألا يضعها جانباً أثناء نضاله ، وفي الوقت الذي تنحني فيه للزعيم والقائد وتصفق له من كل قلبك ، بل قلبك هو الذي يصفق ، فأنت أيضاً مطالب بأن توجه النقد ولو لأصغر الأشياء التي فيها أخطاء ، وتمارس حقك أنت في المشاركة في صنع القرار ، وتمارس حقك أنت في تسيير دفة الإدارة والتنفيذ .
قلت : هل  المواطن العربي في الشارع العربي ، في الأسرة العربية ، يمارس الديمقراطية سلوكا يوميا حتى يقفز إلى مطالبة السلطة بممارسة الديمقراطية ؟ أليست السلطة أفراداً من مجتمع عربي له مواصفاته ؟
قال: علينا أن نتعلم الديمقراطية لأنها تعبير غريب على آذاننا ، وأن هذا التعبير الغريب لا يعني أننا سنصبح غرباء إذا طبقناه ، هذا شرط أساسي من شروط التقدم الإنساني ، وليس معناه أنك تتخلى عن ذاتك وتاريخك وثقافتك ، فأنت تمارس شكلاً من أشكال الحكم ، وهو شكل عالمي ليس ملكاً للشرق ولا للغرب ، لا للشمال ولا للجنوب ، البشرية الحديثة كلها تعيش الآن وتريد أن تعيش وتهدف إلى أن تعيش في ظل النظام الديمقراطي ، وفي ظل الحريات العامة والخاصة ، وفي ظل الانتخابات والاعتراف بأن الشعب هو مصدر السلطات ، والاعتراف بأن القانون هو السيد الأساسي الذي يمثل سيادة الشعب ، وفي كل هذه المظاهر ؛ يعني كل هذه الأشياء التي بمجموعها تشكل معنى الممارسة الديمقراطية ، وفي نهايتها قضية تداول السلطة .
قلت : ألا ترى أن الديمقراطية لن تبدأ  بالشكل الصحيح إلا إذا كان الفرد نفسه يمارس هذه الديمقراطية وبمستوى من الوعي ؟  
قال : لاشك في ذلك . وأي كلام غير ذلك هو نوع من الدجل المقصود ، أو الجهل الواضح الذي مثله مثل الدجل ، المقصود أن الإنسان العربي هو أساس الديمقراطية ، وتطور هذا الإنسان العربي وصقل هذا الجيل العربي وتثقيف هذا الجيل العربي هو الأساس . نحن نطلب جيلاً يرفض أن يُحكم إلا بالطريق الديمقراطي ، فالديمقراطية لا تأتي من الهواء ، بل تصنع صناعة ، فمدرسة كل يوم ، ومصنع كل يوم ، ومؤسسة كل يوم ، ومزرعة كل يوم ، تحدث تغييراً مادياً في حياة المجتمع ، وتحدث تغيراً معنوياً من شأنه أن يرسخ أنه من المستحيل بالنسبة للإنسان الذي حصل على قدر معين من التعليم ومن الثقافة وحصّل قدراً من الكسب ، يعنيه بأن يكون خاضعاً لإنسان آخر يستغله ليعطيه قوت يومه ، ومن المستحيل عليه الاستجابة لمن يقول له انتخب فلاناَ .
الإنسان العربي عندها يصبح في مستوى من القناعات ، وغير مستعد للتصرف بغير قناعاته الذاتية ، وبغير القوى السياسية التي هو متفق معها في الرأي ، فتصبح القناعات في الرأي هي أساس التكتلات السياسية . في هذه المرحلة نحن في مشكلة .. هل التغير بالطفرة ، هل التغير حسب بعض التجارب المجاورة خطوة خطوة، لا أملك الحل السحري فيه ولا الجواب ، لكني أملك القول بأننا يجب أن نشجع وأن ندفع كل تجربة ديمقراطية تعطي للشعب قدراً من الحريات ، وقدراً من الإمكانيات ، وقدراً من الثقافة أيضاً ، وكل تجربة تهدف إلى التنمية ، لأن التنمية أخت الديمقراطية ، وفي الاشتراكية العربية شعارنا الكفاية والعدل ، فهما يمكناننا من الوصول إلى المجتمع القادر على أن يستقل بإرادته ، وأفراده قادرون على ألا يسمحوا لأحد أن يُملي عليهم إرادته إطلاقاً ، وبعد مستوى معين تصبح فقط النزعات الانتهازية واللاأخلاقية هي التي تدفع الإنسان المثقف الذي عنده دخل جيد أن يتعاطف مع السلطة ليزيد دخله ، إنك لن تجد مجتمعاً بكامله يتصرف هذا التصرف ، ولكنك يمكن أن تجد أفراداً أو جماعات من المنتفعين .. لكن ليس كل البلد .



رأى صورته  فأدى التحية العسكرية

     
أين تقف الأمة العربية من المتغيرات حولها ؟
المواقف القومية على الدوام تجمع الشعب العربي على وحدة الموقف ،  ووحدة الهدف ، ووحدة المصير . إن الشعب العربي له دور بارز في تأكيد دعمه للدور الذي تلعبه الأنظمة العربية عندما تتصدى من أجل الحقوق  العربية ، وتقف في مواجهة الخطر الداهم ، حتى وهي في قراراتها لا تكن الاحترام الكبير لأنظمتها ، ولن تكون المتغيرات الأخيرة أخيرة ، ففي كل المراحل الماضية واللاحقة ؛ يواجه العرب بين الحين والحين من يريد ضرب مصالحهم ، وكانوا يتصدون بكل القوة وبكل المتاح ، سواء انتصروا أم انهزموا ، كانت إرادتهم القوية هي القاهرة دوماً .
ومثل هذا الموقف الصعب واجه العرب مواقف أصعب  بكثير ، يقول زهير الريس حول الأحداث الجسام التي تجمع العرب على كلمة واحدة ، أنه عند عودته من أحد المؤتمرات في إفريقيا ، وفي طريق عودته " أبرقنا لصديقنا وزميلنا محمد الجناتي الذي أصبح عضو محكمة عليا في المغرب ، نريد أن نزور المغرب ، فاستقبلنا في المطار ، وحجز لنا في الفندق الأفخم والأول في الدار البيضاء وهو فندق مرحباً ، جلسنا في غرفة الاستقبال ننتظر توزيعنا على الغرف ، الأستاذ الرشيدي أعطى كارت بوستال عليه صورة عبد الناصر لموظف الاستقبال ، وبحركة تلقائية وبدون أي تردد أو تفكير وضع الموظف الصورة في صدر المكان وثبتها بدبوس وراءه مباشرة ، بعد دقائق سمعنا صوت خطوات قوية صادرة عن حذاء ضخم من شخص قادم من الباب الغربي للفندق ، ولما وصل كلّم الموظف ، وفجأة رأي صورة ناصر ، وإذا به يضرب الأرض بحذائه الضخم ويؤدي التحية العسكرية بصوت هز جنبات الفندق ، بدون أن نتكلم معه ، ولم نكن قد رأيناه بعد ولا نعرفه ، انطباع عفوي تلقائي وجميل جداً .
وفي وقت ما كنت أتصور أن القضية العربية خلصت ، لكن بعد انتصار العراق على إيران في الحرب ، ألم تر المد العربي ؟! لقد اندفع كل الناس وشعروا أنهم أحباء صدام وأخوة صدام .. وكل الناس بدووا قوميين ، ولما صدام قال إذا إسرائيل فكرت بكذا .. أنا بالمزدوج بأعمل كذا _ وأنا لست مع الحرق ولا مع المزدوج ـ يومها ارتفعت أسهم القومية العربية ، فالقومية العربية هي الأساس ، وهي المستقبل ، وهي النصر ، وقد شلط الناس للقطرية ، فأي أمل بالنصر يفجر القومية العربية ، فكلنا من زمان قوميون عرب ولا نحتاج إلا إلى هبة ريح شوية ، تبين لنا أن لدينا القوة الجاهزة وتحت الطلب ، في خندق واحد ، وسلاح واحد ، وعلم واحد . القومية العربية لا تحتاج لتدريس أو ترسيخ ، ولا تحتاج لشرح ، وقد انطفأت حركة القوميين بسبب الهزيمة ، لذا من الأفضل أن تبدأ من الصفر ، فالحركة التي تبدأ من العالي تقع في ورطة ، وإذا توفر فوق هذه الأفضال الطبيعية التي هي من طبيعة الإنسان العربي ، قيادة مصممة ومخططة فهذا وضع الرأس للجسد . يتحدث أحدهم عن الاندحارات  وأقول له القومية العربية والعروبة هي الحل .. فيرد _ ولا أنكر أنه أعجبني _ قال .. ببساطة أن هذا كامن في الصدر ولا يمكن تحقيقه هذه الأيام ، فنحن نجري وراء الممكن ، فهو بلا تردد أكد أن هذا جزء من كيانه .





سباق حول نمط القيادة السياسية العربية


       قلت : بعض الأنظمة العربية بدأت تعطي فرصة ولو محدودة لتجربة التعددية ، والبعض الآخر لا زال يراوح في نفس المكان ، والحسابات لا تتفق و الرغبات ، ويرفع الجميع شعارات الحرية والديمقراطية .
     قال زهير الريس : الديمقراطية يمكن أن تكون فـي ظـل
الملكية أو الجمهورية ، وفي ظل أي نظام ، أو أي شكل من أشكال الحكم ، وما تحدثت به قائماً ، لكن التغيير البطئ والهادئ يمكن أن يكون أسلوباً حتى للمحافظة على وجود هذا النظام أو ذاك ، هذا التخلف مطلوب ألا نستكين له ، والتخلص منه يكون بضغوط سياسية ، وبإعداد أجيال جديدة بالتربية الجديدة ، وهذا الإعداد وتلك التربية لابد لهما من أن يؤتيا ثمارهما وإن طال الوقت .
قلت : في ظل هذه المرحلة الصعبة ، ما هو المخرج ؟ هل على الصفوة المفكرة المثقفة والمقتنعة ، أن تبادر إلى خلق آلية دون غيرها ؟
قال : أنا مصر على الصفوة ، وهذا الإصرار لا يمنع من التوضيح ، فمعنى الصفوة عندي يختلف عن المعنى الضيق ، الصفوة بما هي أهل له ، وبما تستحق ، وليس بالولادة أو الشهادة أو المركز الاجتماعي ، الصفوة بمعنى الانتماء لهذه الفكرة ولهذه الجماعة من الناس ، الذين هم أصحاب فضل وهم الطليعة والقادة الحقيقيون ، قادة النضال .
الصفوة هي جماعة مفتوحة ، لا قيود طبقية تمنع انتماء أي ناضج ومبدع إلى هذه الصفوة ، ولا قيود مالية ، ولا بالميلاد ، ولا الذي معه فرمان من السلطان والبقية تمتنع ، الصفوة ناس عليهم أمانة ومسؤولية التقدم في البلد ، عليهم مسؤولية نقد الواقع ومحاولة تغييره ، بدون هؤلاء وبدون أن يندب هؤلاء أنفسهم للمهمات التاريخية التي نتطلع إلى تحقيقها ، لن يتقدم أحد ، ولن يتغير شئ ، فإذا قامت الصفوة بدورها تصبح في هذه الحالة كسباً للأمة ، وشيئاً من حظها الحسن . أنها وجدت هؤلاء الناس ووضعتهم في هذا المكان ، وهؤلاء واصلوا المسيرة ، ووضعوا أنفسهم في خدمتها ، واندفعوا بها إلى تحقيق طموحات محددة ، والصعود إلى مراق عالية ، بهذا المفهوم أنا أقرب ما أكون إلى تعريف ت . س اليوت للصفوة في كتابه " ملاحظات حول معنى الثقافة " من أنهم أناس يعرفون أشياء كثيرة ، ويشاركون في نشاطات كثيرة .
     فعلينا في الوطن العربي أن نعد أناساً لتأخذ مهمات قيادية ، تتعلم القيادة ، قيادة الجماهير وتنظيمها ، وتمارس الحياة السياسية والثقافية ، ويكون هناك من يمارس ليس تعليمها فقط ، وإنما توجيه هذه الصفوة ، وإبعاد الذين يتساقطون بعيداً عن هذه الصفوة ، ولا يكون كأنك من البداية اخترت القائد منهم ، وكذلك ليس هؤلاء مصدرهم بلد معين .
هذه الصفوة من كل من يقدم جهده ، ونثق نحن بأنه سيقدم جهداً في مضمار النهوض بهذا الوطن ، يتخرج في الوطن العربي مئات من أبنائه في دكتوراه العلوم السياسية من الجامعات الأمريكية والغربية ، وكأن هذه الجامعات تريد أن تفرض علينا نمط القيادة السياسية المقبلة إلى مائة سنة ، فالمسألة بمستوى من الأهمية لأن تكون من عندنا ، وأن تكون تربية سياسية بما يتلاءم مع واقعنا العربي ، ومع طموحنا وأهدافنا العربية ، ومع المثل الأعلى العربي ، ومع الحاجات العربية .




خــاتمــــــــــة


قلت : الملاحظ أن الصفوة تكتفي بالملاحظة ، مرات يتاح لها أن تعلن رأيها ، ومرات لا يتاح لها ، مرات تصمت يأساً ، ومرات تندفع بغيرتها على المصالح العربية فتعلن مواقفها .. إنها لا تبحث عن السلطة ، لكنها تبحث عن سلطة تسمعها وتفهمها وتناقشها وتستجيب لما تطرحه .
مرات يتم فهم ما تريد ، ومرات يساء عن قصد أو غير قصد فهمها .
قال زهير الريس : الصفوة يمكن أن تكتفي بالملاحظة والنقد بعد أن تصل الجماهير العربية إلى تحقيق حلمها . قل نحن بحاجة إلى الصفوة لأننا بحاجة إلى نوع من الفكر الثوري ولا أريد أن أقول ثورة .. ويا لطيف ، .. فالجماهير ملت هذه الكلمة ، أنا أقصد ثورة العقل ، أقصد ضرورة التغيير ، وعندما يحدث التغيير ، وتضمن أنك تسير في الطريق الجيدة ، وألا تكون هناك نكسات ، عندها يمكن للصفوة أن تكتفي بالملاحظة والنقد ، إن  ما أتمناه لا يمكن تطبيقه ، ولا يمكن أن يتم إلا في ظل التغيير ذاته . قلت : إذن تريد دور الصفوة في التغيير.
قال : الحركة التي ستتولى إنقاذ العالم العربي هي الحركة التي لا يمكن أن ترضى لنفسها أن تكون حركة إقليمية انفصالية ، أو انعزالية ، الحركة التي ستخلص الوطن العربي هي حركة الخلاص ، هي الحركة القومية التي تعتقد جازمة أن هذا الوطن العربي هو ملكها وملك آبائها ، ولا يمكن أن ترضى أن تكون مجرد تابعة .
قلت: من الناحية العملية هل الصفوة التي تتحدث عنها
موجودة ؟ هل ترى تباشيرها ؟ أم هي مجرد أصوات قليلة متناثرة في الوطن العربي؟
قال : هل فجأة اختفى الناس ؟ أنا رأيت دمشق يوم الوحدة ، ورأيت القاهرة يوم الوحدة ، كنت يوم إعلان الوحدة مسافراً من دمشق إلى القاهرة في طريق عودتي إلى غزة ، ورأيت البيعة لعبد الناصر في الشارع العام ، يعني صحيح الوحدة لها أكثر من ثلاثين سنة ، لكن الذين بايعوا الوحدة معظمهم ما يزالون أحياء ، لكن العين بصيرة واليد قصيرة ، والمطلوب اللقاء والمناقشة في هدوء  ، وأن يتبلور شئ مكتوب ، أهم شئ في الدنيا الكلمة المكتوبة ، أن تنزل للناس بكتاب ، وأُفضل المختصر الذي يضع ملامحاً وأسساً لما بعد ذلك ، فلا يُكتفى بالعموميات ، ولا أحلم الآن بكتاب مثل الميثاق الذي صدر زمن عبد الناصر ، أنا أحلم  بفصل من كتاب جديد يحدد كل أهدافنا القومية ، بعد ذلك يتحدث فصل آخر عن ملامح المؤسسات المطلوبة عندما يحدث التغيير ، وأنا لا أرضى بشئ غير تحديد المفاهيم الأساسية تحديداً مفهوماً وواضحاً ، يعني ما تزال الوحدة هي الأمل المنشود ، فأي نوع من الوحدة تطرح الآن بعد كل هذه النكسات  ؟ هل ما زلت مصراً على الوحدة الاندماجية ؟ أو الوحدة الاتحادية ؟ هل هي فدرالية ؟ أم كونفدرالية ؟ هذه مسألة لا يعلنها واحد ببيان خطير بهذا المضمون ويفرضه علينا من منزله ، فعلى الأقل لا بد من مجموعة من العرب يلتقون ويتحدثون ويقولون رأيهم .

 

فاتحة


بهذه الكلمات يكون معظم اللقاء الطويل الذي حدث بيني وبين المفكر المرحوم زهير الريس ولعدة شهور قد انتهى ، والذي تم على جلسات متباعدة ومتقاربة ، هذا المفكر الغائب الحاضر ، علامة من العلامات المضيئة على الطريق العربي التي ستظل نبراساً ، وإن خبا نجم الأشخاص بالموت فإن الأفكار العظيمة التي حملوها لن تخبو مهما اشتدت عتمة الليل ، وستظل الجماهير العربية تلح على التعاون العربي في كل المجالات ، إننا نرى في أقلام كثيرة ، وعقول مفكرة وكبيرة ، إخلاصاً لقضايا الأمة بكاملها ، وهذا إنما لشعورها بالخطر الزاحف والمتنامي لكل القوى ، التي لا تريد للعرب جباها تُرفع ، وإنما تريد لهم جباها تَركع .                                                                


المرحوم زهير الريس :
ـ كان رائداً من رواد الفكر والسياسة والصحافة .
ـ تعلم في مدرسة الإمام الشافعي الابتدائية ، ثم أكمل تعليمه في المدرسة الثانوية القومية في حلوان جنوب القاهرة .
ـ التحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة ( فؤاد الأول ) سابقاً سنة 1950 ، وتخرج فيها سنة 1954 .
ـ حصل على إجازة المحاماة في تشرين ثان سنة 1955 ، وفي يناير الذي يليه تقدم لامتحان دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد جامعة القاهرة .
ـ نال درجة الدكتوراه في العلوم الإدارية سنة 1988 .
ـ شغلته أمور السياسة والصحافة والأدب وقضايا الفكر مذ كان في الجامعة .
ـ من أول المؤيدين للثورة المصرية سنة 1952 .
ـ من أبرز ما نشرته صحيفة الجمهورية المصرية في لقاء أجرته معه سنة 1955 جاء فيه : " إن ملف قضية الوحدة العربية يجب أن يكون الملف الرئيس في مكتب كل محامي عربي " .
 ـ ساهم في إخراج أول صحيفة فلسطينية في القاهرة ، باسم " الرابطة " وهي مجلة صوت فلسطين ، وكان من الذين كتبوا فيها آنذاك الأخ الرئيس ياسر عرفات ، وعبد المحسن أبو ميزر .
ـ بعد عودته إلى غزة ساهم في إصدار صحيفة " العودة " .
ـ إثر احتلال إسرائيل لقطاع غزة سنة 1956 اعتقل حتى قدوم القوات الدولية إلى القطاع .
ـ في سنة 1957 أصدر جريدة " التحرير " اليومية والتي كتب عنها الأستاذ المرحوم لطفي الخولي في جريدة المساء المصرية : " أنها أصغر وأقوى جريدة في الشرق الأوسط " .
ـ في سنة 1963 أصدر جريدة " أخبار فلسطين " اليومية ، وبقي رئيساً لتحريرها حتى سنة 1967 .
ـ كان رئيساً لمجلس إدارة صحيفة "الفجر" التي صدرت في القدس .
ـ صاحب ورئيس تحرير مجلات " العلوم " و " المنتدى " و " الأسبوع الجديد " و " الموقف " .
  ـ قام بتأسيس جمعية الدراسات العربية بالقدس سنة 1989.
ـ رئيس مجلس إدارة مركز غزة للحقوق والقانون ، وعضو مجلس أمناء جامعة بير زيت ، عضو المجلس الوطني الفلسطيني سابقاً ، وعضو المجلس التشريعي في غزة سابقاً ، شارك في عضوية لجنة صياغة الميثاق الوطني الفلسطيني .
ـ عضو اتحاد المحامين العرب ، وعضو اتحاد الديمقراطيين للصحافة العالمية .
ـ أقام علاقات صداقة شخصية مع كبار الزعماء العالميين أمثال جمال عبد الناصر ، وفيدل كاسترو ، وجيفارا . زار جميع الأقطار العربية والتقى بالنخب الفكرية فيها .
ـ فرض عليه الاحتلال الإقامة الجبرية عدة مرات ، ومنع من مغادرة القطاع مدة عشرين عاماً .
ـ انتقل إلى جوار ربه بعد ظهر يوم الأحد الموافق 26/5/1996 عن عمر ناهز الثالثة والستين عاماً ، بعد حياة حافلة بالنضال والمواقف القومية والوطنية المشرفة .        
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-