مجلة أضواء - تبدو الكتابة للأطفال مصحوبة بكثير من الصعوبات، ذلك أنها تحتاج إلى دراسة معمقة وقدرة على الجمع بين البساطة والعمق والعبرة والحكمة، بعيدا عن الوعظ والإرشاد اللذين قد ينفر منهما الأطفال حين يكون الخطاب بطريقة مباشرة.
يأتي كتاب "أدب الأطفال بين كتابة الإنشاء وإنشاء الكتابة" للباحث الفلسطيني عبد الرحمن بسيسو ليسد جانبا من النقص في المكتبة العربية في عالم الكتابة للأطفال، سواء كانت تلك الكتابات بأقلام الكبار أو بأقلام الأطفال أنفسهم بمتابعة وتوجيه من الكبار.
ويؤكد بسيسو في عمله -الذي نشرته دار ابن رشد في القاهرة (2015)- أن تعميق النظرة إلى أدب الأطفال بوصفه فرعا أدبيا خاصا ومميزا له ما يصله بالأدب بمعناه الواسع وما يميزه عنه في آن معا.
ويواصل المؤلف قائلا "سيمكننا من إدراك السمات المميزة لهذا الفرع الأدبي على مستوى المضمون واللغة والنحو والأسلوب والبناء، وعلى الصعيدين الفكري والجمالي على حد سواء".
ويؤكد أن هذا بدوره "سيمكننا من تطوير إبداعاتنا في حقل هذا النشاط الأدبي المميز، ومن التعامل مع الطفل، وعالمه، بدراية وعمق ليس من الحكمة الاستغناء عنهما".
طرق الكتابة
يقسم بسيسو -الذي أنشأ مؤسسة "فرح لصحافة وثقافة الطفل" وأشرف على العدد التأسيسي من المجلة المخصصة للأطفال التي أصدرتها منظمة العفو الدولية- كتابه إلى أربعة أقسام هي "حول أدب الأطفال"، و"حول الكتابة للأطفال"، و"كتب الأطفال ومطبوعاتهم" و"تمارين كتابية إبداعية".
ويطرح الكاتب الفلسطيني عبر فصوله عددا من الأسئلة عن الإبداع وتشكيل الهوية وكيفية تطور تفكير الطفل، وما إن كان أدب الأطفال فرعا من الأدب أم جوهر الأدب نفسه، وكيفية إبداع قصة لكتاب مصور، إضافة إلى تفاصيل وآليات الكتابة للأطفال وكتابة الأطفال أنفسهم.
يعتقد بسيسو أن الإجابة عن سؤال "كيف نكتب للأطفال؟" تبدأُ بالانطلاق من تمييز الكتابة الإبداعية الموجهة للأطفال عن غيرها من مجالات الكتابة وحقولها، وينطلق هذا الفرض المؤصل من فهم اجتماعي ونفسي ولغوي وجمالي متكامل ومتداخل.
ويجد كذلك أن الأمر كله يتوقف على قدرة المرسل على اكتشاف الإجابات الصحيحة عن جملة من الأسئلة، منها مثلا لماذا أنا راغبٌ في توجيه رسالة ثقافية؟ وما فحوى هذه الرسالة؟ ولمن سأوجه الرسالة؟ وما هي أبرز خصائص هذا المتلقي الذي أرغب في التواصل معه وكسب تأييده لوجهة النظر التي تحملها رسالتي؟
يلفت بسيسو إلى أن هذه الأسئلة تفتح أبواب العملية الإبداعية على وسعها، وهي لا تتصل بالأعمال الإبداعية الموجهة للأطفال فحسب، بل إنها تصدق على العملية الإبداعية عموما.
ويعتقد أن هذه العملية الإبداعية تتمايز وتتباين بقدر ما تتمايز الإجابات عنها وتتباين، مبرزا أن تنوع الغايات والرغبات والأهداف والمضامين وتباين المتلقين، وتعدد طرق الكتابة وأساليبها لدى الكتاب والمبدعين، يفضي إلى تعددية لافتة في الإجابات وفي الخيارات الإبداعية.
يذكر بسيسو في عمله "أن الأطفال يرفضون الكلام الخالي من المضامين، والمباشرة في إرسال القول، والنزعة التعليمية التي لا تمس إلا سطح الأشياء، والمبالغة القائمة على التزييف، لأن في ذلك إرهاقا لهم واستخفافا بعقولهم وبملكاتهم التخيلية".
ويجد أنهم يخرجون من المدرسة مُثقلين بالوعظ والإرشاد، وبالنصح والتهديد القائمين على تلقين قواعد السلوك ومعايير نظام الأخلاق ومكوناته جميعا، ولذا يرغبون عن المزيد من الإرهاق والتعقيد، وينكرون على الكبار نظرتهم إلى عالم الطفولة بوصفه عالما ساذجا فقير المعرفة، كما يستنكرون توجه هؤلاء الكبار نحو تقديم الطعام المعرفي لأطفالهم على أطباق التلقين الآمر والمباشرة الفجة والوعظ الجاف.
رفض القولبة
يشير بسيسو إلى أن النظر إلى عقل الطفل ووجدانه بوصفهما ورقة بيضاء ينبغي ملؤها بالكلمات المُحملة بالقيم التربوية، أو بوصفهما وعاء ينبغي ملؤه بمزيج من الحكمة والموعظة الحسنة، دون التوجه نحو إيقاظ ملكات الطفل الذهنية والشعورية والسعي إلى تنميتها، أو إلى إطلاق مخيلته وتفتيح آفاق مواهبه الإبداعية، يكشف عن نظرة ساكنة جامدة للحياة والعالم، ويدل على فقر الملكة الإبداعية عند أصحاب هذه النظرة الذين يقدمون الأيديولوجيا على الإبداع الأصلي الخلاق.
"يرى المؤلف أن تأسيس الكتابة على وقائع الحياة هو المدخل الصحيح لإبداع فن واقعي بكل معنى الكلمة، لأنه فن لا يعكس الحياة كما تفعل المرايا، بل يعيد إنتاجها محولا التجربة الحياتية إلى تجربة فنية"
يتبنى بسيسو وجهة النظر القائلة إن كتابةَ الإنشاء للأطفال ليست مجرد عبث غير مجد، بل إنها خطرة جدا لأنها تعوق تنمية قدرات الطفل الإبداعية، فتكبح نموه الذهني، وتحول دون تمكينه من تطوير قدراته العقلية وملكاته النفسية ومهاراته التخيلية، فتمسخ هويته، وتحيله إلى إناء فارغ أو هيكل خاو ينتظر من يملؤه بأي شيء يكسبه طبيعة لا تنبع من حقيقته كإنسان.
ويؤكد المؤلف أن رفض القولبة والتلقين، والبث المباشر للقيم والمقولات المذهبية والسياسية والاجتماعية، وغيرها، والتخلي التام عن اعتماد الوصفات الجاهزة، والوجبات المعلبة السابقة التجهيز، ليس مجرد خيار مطروح يمكن الأخذ به أو تركه لتبني غيره، وإنما هو أمر ضروري لأي إبداع أصيل يريد التجاوب مع المبادئ الإبداعية الراسخة والمؤصلة، والتي هي دائما نقيض التقليد والتلقين والثبات.
وينوه كذلك إلى أن تأسيس الكتابة على وقائع الحياة هو المدخل الصحيح لإبداع فن واقعي بكل معنى الكلمة، لأنه فن لا يعكس الحياة كما تفعل المرايا، بل يعيد إنتاجها محولا التجربة الحياتية إلى تجربة فنية، فلا يكون النص مجرد وسيط بين وسطين (واقع وإبداع)، وإنما يكون واقعا فنيا مستقلا، مكتفيا بذاته، لأنه يتأسس على تحويل الواقع إلى الفن.
وفي تصريح خاص للجزيرة نت، قال الدكتور عبد الرحمن بسيسو "كتابي موجه لكل من يتعامل مع الأطفال من أهل وتربويين وأطفال، وهو يأتي كمحاولة لتأطير الخبرة الطويلة والتجربة الحياتية والعملية معرفيا".
وأضاف "الأجزاء التطبيقية هي مجرد نماذج لما يزيد عن مئات المحاولات والتجارب التي أشرفتُ عليها، وهي نتاج عمل وتعاون مع منظمات مجتمع مدني، ومدارس وورشات أطفال، ويعكس ضرورة التواصل المباشر مع الأطفال والانطلاق من واقع الحال للبناء عليه ومحاولة تغييره نحو الأفضل".
المصدر : الجزيرة - هيثم حسين